د. الطيب بوعزة - كاتب ومفكر مغربي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة
يتناهى إليَّ من بعيد صوت سيارة مارة بسرعة مزعجة .. صوت أوراق الشجر يطرق سمعي... تلك الريح هادرة... نافذة حجرتي تهتز... يرفع القط "نيو" مواءه إلتماسا لأفتح له باب حجرتي... "واشنطن تتعهد بمواصلة المفاوضات"، كذا يقول مذيع التليفزيون...
أين الحدث في ترددات هذا الآن؟!
لا دلالة بدون فرز مفردات الحوادث وانتقاء ما "يستحق" منها أن يكون من جملة وقائع التاريخ. ثم لابد لذلك المنتقى من أن يصاغ في حبكة رابطة ؛ ليتحصل سرد مثمر للمعنى.
كذا هي وضعية المؤرخ إزاء كثرة مفردات التاريخ، حيث لا يستطيع أن يكتفي بتقديم ركام الحوادث بحالتها الخامة ، بل هو يشتغل وفق حبكة سردية محددة. غير أن حبكته هذه لا تنقل لنا الوقائع كما هي، بل تعيد صياغتها وترتيبها لتقدمها في نسق يمنحها دلالة ما؛ لأن حاصل التَّأْرِيخ بدون منهج مجرد نثار من الحادثات المنفصلة. ولكن حاصل التأريخ بمنهج هو ربط لتلك الوقائع على نحو خاص يتماشى مع ذلك المنهج.
وتلك مفارقة أي كتابة تأريخية، وفي ذلك مكمن قوتها وضعفها.
فإذا قلنا إن التاريخ هو الماضي الإنساني، فلازم ذلك أنه في كينونته الواقعية ملايين من الحادثات، ومن ثم فهو بتمامه ليس فقط مستحيل السرد بل حتى مستحيل التوثيق والحفظ.
وهنا امتياز العربية بتفريقها بين "تأريخ" و"تاريخ"، على عكس بعض الألسن. ففي الفرنسية مثلا يستعمل لفظ "إيستوار" Histoire للدلالة على التاريخ، كما يستعمل ليدل على التأريخ. وفي التفريق والممايزة فكرة ينبغي أن تقتنص، وهي أن ثمة بونا بين التاريخ كما جرى والتأريخ كسرد يستدخل "ما جرى" في حبكة قابلة لأن تدل وتعني.
إذن بَيْنَ الأشياء والكلمات مسافة.. بَيْنَ الوقائع وسردها بَيْنٌ.
بَيْنٌ، أي تباعد ينبغي الوعي به؛ لإدراك أن التاريخ ليس مطابقا لمكتوبات التأريخ.
وعليه، فتلك الممايزة التي يمنحنا إياها اللسان العربي ينبغي أن توحي لنا بوجوب الحذر من كتب التواريخ، حتى لا نظن أننا أمام التاريخ، بينما نحن بإزاء تأريخ التاريخ، بكل ما يعنيه من قطع وبتر، وحفظ ونسيان، وترتيبات سردية مرتهنة بالزوايا التي يتموضع فيها المؤرخون، وبمحدودية المنظورات التي ينتهجونها...
ومن ثم إذا قال ابن رشد في "تهافت التهافت": "لا بُدَّ...أن يسمع الإنسان أقاويل المختلفين في كلِّ شيء يفحص عنه، إن كان يجب أن يكون من أهل الحق"([1])؛ فليس ثمة حقل معرفي نحتاج فيه إلى سماع الأقاويل المختلفة والمقارنة بينها كحقل التاريخ؛ لأن الانتقال من مستوى الحدث الواقعي الى مستوى السرد المكتوب، هو انتقال ب"الشيء" التاريخي إلى خطاب يحوله ولا يحفظ كينونته الخامة. بل حتى الشيء التاريخي نفسه ليس كينونة مستقلة ومعطاة. ولذا فالفلسفة المعاصرة تحرص على قلب العلاقة إلى أولوية الكلمات على الأشياء. ومن ثم لا ينبغي النظر إلى "الشيء التاريخي" بوصفه مستقلا عن الكلمات الساردة له، فهو ليس مجرد معطى منقول من الواقع، بل هو محصول بناء.
كان ابن خلدون قد أدرك قديما أن أمر التاريخ لا يكفي فيه مقابلة الأقوال بالأقوال، فنادى بالانتقال إلى مقابلة الكلمات بالأشياء. إذ يقول في "المقدمة" :"لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يُؤْمَنْ فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق"([2]).
وهكذا اهتدى إلى إعادة تأسيس التأريخ على معرفة قوانين الاجتماع (العمران)؛ إذ بما أن التاريخ في حقيقته هو حركة الوجود البشري في المكان والزمان؛ فلابد إذن من ضبط قوانين ذلك الوجود لمعايرة صدقية الإخبار عنه. أي لابد من إدراك قوانين الأشياء للحكم على مدى صدق الكلمات المخبرة عنها.
وقد رأى ابن خلدون – وهو محق في ذلك– أن دعوته إلى تأسيس منهجي يبتدع علم العمران البشري ليُتخذ قاعدة لتحقيق الخبر التاريخي هو إبتداع معرفي غير مسبوق. وبالفعل لا نجد لعلم العمران الخلدوني أي شبه في أعمال من سبقه من المؤرخين مثل هيرودوت و بوليبوس والمسعودي والبيروني...، ولا في أعمال من سبقه من الفلاسفة أيضا الذين اهتموا بالتنظير في مجال الفلسفة السياسية كأفلاطون وأرسطو والفارابي... وهذا التفرد في الابداع يدل من جهة على المقدرة الذهنية لابن خلدون، كما يدل على حرصه على نقل تأسيس التأريخ من مستوى ضبط رواية الخبر إلى تأسيسه على معرفة قوانين الاجتماع وسننه.
بل بالنظر إلى "المقدمة" ووساعة العلوم التي تحتويها يمكن ان نحدس مع ابن خلدون فكرة أخرى وهي أن علمية التاريخ لا يمكن تحقيقها ب"علم التاريخ"، بل بعلوم التاريخ. وهذه التعددية في المنهج ليست إسقاطا منا على ابن خلدون، بل هي مصرح بها في "مقدمته"، حيث وجدناه يقول: "إعلم أن فن التاريخ... محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة."([3])؛ أي لابد من توسعة شاملة في أدوات التأريخ بالانفتاح على مختلف العلوم الانسانية والطبيعية؛ لأن الظاهرة التاريخية بطبيعتها ظاهرة مركبة، تتداخل في تركيبها ألوف من الوقائع وصنوف من المؤثرات، ومن ثم أدرك صاحب "المقدمة" أنه لابد من إعادة ترتيب منهجي، لتصير علوم العمران أساسا ابتدائيا لقيام علم التاريخ.