JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

شعرية العمارة وعمارة الشعر: ملامح من الأندلس والمغرب الأقصى

 





د. السعيد الدريوش - باحث في الأدب الأندلسي والمغربي




    يعدّ النشاط النقدي الأندلسي من أعمق النتاجات الفكرية وأغزرها خصوبة وأرقاها نظرا، وبالتأمل في نتاج العصور الأندلسية المتأخرة وخاصة عصر بني الأحمر في مملكة غرناطة ندرك بجلاء عمق هذه الرؤيا الفنية التي ترجمها الشعراء الغرناطيون لوحات فنية خالدة ظلت شامخة إلى حدود الساعة، بارزة مجلوّة للعيان على جدران قصور الحمراء وأبوابها ونافوراتها وطيقانها كعروس فاتنة كما يحلو لهم تصوير جلّ عماراتهم ومدنهم، فتسلق الشعر أخيرا جدران العمارة الإسلامية الفاتنة بعدما كان معلقا على جدران الكعبة مكتوبا بماء الذهب.

فأين تتجلى إذن العلاقة بين الشعر والمعمار؟

    لاشك في أن تطور الشعر العربي عبر العصور مرتبط أساسا بتطور المفهوم والرؤية، وما شغف الملوك الغرناطيين بتوشية قصورهم ومبانيهم الملوكية بالقصائد والمقطوعات والنتف إلا نتاج لهذا التصور والفهم، على أن الارتباط القوي بين الشعر والعمارة هو رؤية فنية نقدية تمثلها كبار النقاد والأدباء، وفي هذا يقول ابن رشيق القيرواني في "العمدة" مبينا العلاقة المتينة بين الشعر والعمارة: "والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية، قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولاخير في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي والأوتاد للأخبية"[1].

    وانطلاقا من هذا التصور النقدي، نجد شعراء بني نصر يتغنون شعرا بالعناصر الرئيسية في مواد البناء والتشييد، كالزليج والجص والنجارة، ويبدو كذلك انبهار ابن الجياب برونق الخط العربي الذي نقشت به أشعاره على قصر الحمراء جَليّا خصوصا عندما ينظم هذا الإعجاب والتعلق شعرا تزدان به الجدران، وقد عبر عن ذلك أحسن تعبير في قصيدة ما زالت نقوشها بادية ببرج الأسيرة[2]، حيث يقول ]الكامل[:


قَصْـــرٌ تَقَسَّمَتِ البهاءَ سـَمَاؤُهُ               والأرضُ منه والجهات الأربعُ
في الـجِصِّ والزُّلَيجِ منه بدائـعٌ                  لكنْ نِجارةُ سقفهِ هي أبدعُ
جُمعت وبعد الجمع أُحكم رفعُها            للنَّصب حيث لها المَحلُّ الأرْفَعُ
تـَحكـي بديعَ الشِّعرِ من                مُجَنَّسٌ وَمُظَفَّــرٌ وَمُغَصَّــنٌ وَمُرَصَّعُ


    ويقول ابن الجياب أيضا متحدثا عن الأشعار المنقوشة على الحيطان وعن الزخارف والنقوش "الرقوم" التي أعجزت البلغاء عن الإتيان بمثلها، والشعراء عن نظم ما يضاهيها، لأنها جمعت بين الحسنيين، بلاغة الشعر و جمال الخط العربي، فأضحت العمارة الملوكية مُوشحة بالزخارف المذهبة، الرائعة الألوان، المتعددة الأصناف والأشكال.

(الكامل) :

حِيطَانُـهَا فِيــهَا رُقُــومٌ أَعْـجَــزَتْ             أَمَدَ الْبَلِيغِ فَحُسْنُهَا لاَ يُوصَفُ
رَاقَتْ وناظرَ كُلُّ شَكْلٍ شكلَهُ                    في نسبةٍ فَمُوَشَّحُ وَمُصَنَّفُ
مَهمَا لَـحَظْتَ رَأَيْتَ نَـقْشًا                وُشِّيَتْ أنواعهُ فَمُذَهَّبٌ وَمُزَخْرَفُ
مَبْنًى بَدِيــــــــعٌ أبرزتْهُ حِـــكْمـَــــةٌ          ما حَازَهَا إِلاَّ الخليفَةُ يُوسُفُ [3]



    يقول ابن طباطبا في عيار الشعر عند حديثه عن صناعة الشعر "ويكون – الشاعر- كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسدّيه وينيره ولا يهلهل شيئا منه فيشينه، وكالنقاش الرقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان..."[4]، وبهذا يكون شاعر الحمراء نقاشا بارعا استطاع أن يجعل الشعر العربي من أبرز جماليات العمارة الإسلامية الباذخة.

    وإذا انتقلنا إلى ظاهرة الرسم بالأشعار عند شعراء قصور الحمراء، فإننا نجد لها من الدلالات والمعاني ما يجعلها بحق نمطا زخرفيا ثابتا وركنا رئيسا من معالم الجمال والتوشية، كما أن ظاهرة الرسم بالأشعار لها دلالة قوية تتمثل في العلاقة الفنية الوثيقة بين الرسم والشعر، أليس "الشعر ضربا من الرسم"  [5]و "كل فنان يصنع الصور"[6].

    و يرجع الرسم بالأشعار أساسا إلى تحريم الإسلام للتصوير، وهو الأمر الذي شكل حاجزا نفسيا قويا لدى الأندلسيين نظرا لارتباطهم القوي بتعاليم الدين وأوامره، ويرى ليفي بروفنسال "أن شرق العالم الإسلامي كان أكثر ثراء من غربه في النقوش الكتابية المؤرخة التي لاتزال ثابتة في مواضعها الأولى، لاسيما في شواهد القبور، ويرجع السبب في ذلك إلى أن إسلام أهل الأندلس كان أكثر رسوخا من حيث الحفاظ على روحه وتعاليمه من أهل المشرق...وإن كان ذلك لم يمنع من وصول عدد كبير من الشواهد الأندلسية إلى المتاحف الإقليمية بالأندلس"[7]، فالتزام الأندلسيين بتعاليم الدين بخصوص حرمة التصوير، جعلهم يزينون قصور الحمراء وسيوفهم وثيابهم بالرسم بالأشعار عوض رسوم الكائنات الحية "لقد تعالى الفنان بأعماله الخطية، وأشكاله الصورية التي طوّع البسملة لها بدافع كراهية الدين للتصوير وعدم تشجيعه له، وغدت رغبة الفنان في الخلق والابتكار عبر الرسم بالحروف والكلمات هدفا ملحا تتوق إليه روح المهرة[8].

    وبانتقالنا إلى المغرب، وبالأخص في عصر السعديين الذين شيدوا قصرا منيفا باهى به السلطان أحمد المنصور السعدي أعتى العمارات الإسلامية ضخامة وجمالا، وهو قصر البديع المراكشي، فإننا ندرك أيضا فلسفة الجمال لدى السعديين الذين أبدعوا في تزيين وزخرفة جدران البديع وأبوابه ونافوراته شعرا وأبياتا رائقة الجمال، متكئين على نظريات الشعر القديمة، وهي إشارة بديعة تؤكد ذاك الارتباط القوي والمتين بين الشعر والعمارة، فنصبح أخيرا أمام عمارة شعرية تنبض حيوية وحياة، ويبدو انبهار الشاعر السعدي علي بن منصور الشياظمي جليا بالزخرف البديعي وبالنظريات النقدية الشعرية، إذ نجد قطعة منقوشة في بديع أمير المؤمنين نصره الله، كتبت في باب من المرمر، تؤكد استثمار الشاعر لمخزونه الثقافي المتميز في صياغة قصورياته، يقول الشاعر "البسيط ":

اَلْحُسْنُ لَفْظٌ وَهَذَا الْقَصْرُ مَعْنَاهُ         يَا مَا أُمَيْلِحَ مَرْآهُ وَأَسْنَاهُ

فَهْوَ الْبَدِيعُ الَّذِي رَاقَتْ بَدَائِعُهُ         وَطَابَقَ اسْمٌ لَهُ فِيهَا مُسَمَّاهُ

صَرْحٌ أُقِيمَتْ عَلَى التَّقْوَى دَعَائِمُهُ    وَدَلَّ مِنْهُ عَلَى التَّارِيخِ مَعْنَاهُ

وَلاَحَ أَيْضاً وَعَيْنُ الْحِفْظِ تَكْلَؤُهُ      تَارِيخُهُ مِنْ تَمَامٍ قُلْ هُوَ اللهُ[9]

    فهي قطعة في وصف قصر البديع لخّص الشاعر الشياظمي فيما يظهر نظرية قدامة، منتهيا إلى وجوب ائتلاف اللفظ مع المعنى في كل الأوضاع والظروف وضروب اتساقهما من خلال أداء محكم لمعان بعينها كما هي واضحة في الأذهان ومتصوّرة" [10].

    ختاما، ومن خلال هذه الملامح الجمالية الموجزة، ندرك تمام الادراك مدى الارتباط الوثيق بين العمارة الإسلامية والشعر، وما ينتج عنه من عمارة شعرية وشعرية المعمار.


الإحالات المرجعية والهوامش


[1] ابن رشيق، العمدة، الجزء 1 ، ص 122 ، تحقيق محمد عبد الحميد، دار الجيل، الطبعة 5 ، 1981 .


[2] محمد عبد المنعم الجمل، قصور الحمراء، ديوان العمارة والنقوش العربية، مكتبة الإسكندرية، 2004، ص 187.


[3] عبد المنعم الجمل، المرجع السابق، ص 184.


[4] ابن طباطبا، عيار الشعر، ص 11 ، تحقيق عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، الطبعة 2 ، 2005 .


[5] هوراس، فن الشعر، نقلا عن بسمة نهى الشاوش  "وصف الحيوان في الشعر الجاهلي"  ص 28، جامعة تونس، السلسلة العربية، 8 ، المجلد 24 ، يناير، 2009 .


[6] أرسطو، فن الشعر، ص 71 ، ترجمة عبد الرحمان بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 1953 .


[7] خالد عزب، مجلة العربي، العدد 555، فبراير 2005، ص 189 – 190.


[8] الدكتور عبد الإله كنفاوي، النقوش الشعرية في أندلس القرن التاسع عشر، ص 8 .


[9] نجاة المريني، المرجع السابق، ص 414 .


[10] نجاة المريني، المرجع السابق، ص 192 .

شعرية العمارة وعمارة الشعر: ملامح من الأندلس والمغرب الأقصى

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة