ياسين الحراق -شاعر وباحث في التاريخ
تناولنا في الجزء الأول من مقال "أربعة عوامل تفسر قيام دولة الملثمين بالمغرب"، عاملين هامين في تفسير قيام دولة المرابطين، وسيعقب الجزء الثاني من المقال نفسه عاملين آخرين أساسيين هما: العاملين الاجتماعي والديني.
3/ العامل الاجتماعي:
كان المغرب قبيل قيام دولة المرابطين، متكون من شرائح اجتماعية معظمها من البدو (سيادة النظام القبلي) رغم تواجد بعض المدن مثل فاس وسبته ونفيس وتمرورت ... إذ لم تسلم هي الأخرى من نتاج النمط القبلي، وداخل هذه الشرائح، نجد العنصر الأمازيغي والعربي والزنوج ولو بنسبة قليلة. ووسط هذه العناصر نجد فئة التجار والحرفيين ثم زعماء القبائل. كما يأتي في مقدمة هذه القبائل قبيلة صنهاجة وما يندرج داخلها من تحالفات حتى لا يكاد يخلو قطر من أقطار المغرب من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط [1] حتى بلغ تعداد القبائل المنضوية تحت لواءها زهاء 70 قبيلة.[2]
لكن هذه الحياة القبلية لم تكن حياة سهلة أبدا، إذ نجد انتشار معاناة عديدة مثل الفقر الذي يعاني منه معظم سكان المغرب الأقصى وبالأخص قبائل صنهاجة، هذا مع انتشار بعض الظواهر الاجتماعية، كتفشي الإجرام وقطع الطريق وإغارة القبائل على بعضها البعض، وما يزكي هذا الافتراض هو نمط الحياة السائد في هذه البقاع .
ويصف البكري أحوال صنهاجة قائلا : "هم ظواعن رحالة لا يعرفون حرثا ولا زرعا ولا خبزا، وإنما أموالهم الأنعام، وعيشهم من اللحم واللبن ينفذ عمر أحدهم وما رأى خبزا أكله إلا أن يمر بهم التجار من بلاد الإسلام أو بلاد السودان، فيطعمونهم الخبز ويتحفونهم بالدقيق" [3]. فإن كانت هذه أوصاف معيشتهم فلا ضير من انتشار ما ذكرناه سابقا، غير أن الوضع السائد لا ينطبق على صنهاجة وحدها بل يتعداها إلى قبائل صحراوية أخرى. وإذا كانت هذه القبائل لا تخلوا من زعيم يتزعم أمورها فلا بد أن تظم أيضا قواد يحضون بمثل تلك الامتيازات وهي امتيازات معظمها تكون في صالح الخاصة وليس العامة ومن هنا تأتي النظم التي ينبغي الانصياع لها والتي تخلف ردودا متباينة بين المحافظين وبين من يتوق إلى التحرر منها.
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى المساواة والتحرر لكونه يقوم على رسالة سماوية نظامها الاجتماعي يرتكز على أسرة متماسكة حيث نظامها الاقتصادي يعتبر المال وسيلة لا غاية، محترم للملكية الفردية الغير مستغلة، وثقافتها تستخدم العقل في كسب المعارف. فضلا عن اهتمامه بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. فكان من اليسير أن تتبناه تلك الفئات الساعية إلى التحرر وهي فئات معظمها كان مسلما من قبل، إلى أن جاءت حركة المرابطين وأطرت هذه الفئات، وبذلك وقع توافق بين الغاية والوسيلة والطموح. إذا فعلى أكتاف صنهاجة قامت دولة المرابطين، وعلى أكتاف المرابطين تحررت صنهاجة .
4/ العامل الديني:
كانت الرياسة بين القبائل الصنهاجية لقبيلة جدالة، وكان يتزعمها في أوائل القرن الخامس الهجري، "يحيى بن عمر بن إبراهيم بن ترغوت الجدالي" الذي تحدثنا المصادر عن عودته من الحج وتوقفه في القيروان حيث التقى بأحد فقهاءها وهو "الشيخ أبي عمران موسى بن أبي حجاج الفاسي" أحد كبار فقهاء المالكية بالمغرب الأقصى. وكان قد أبهر يحيى بن عمر بعلمه الواسع وثراء ثقافته ودقة حجته وهذا ما جعله (يحيى بن عمر) يفكر في أن يصحب معه من يفقه ويعلم ويرتقي بأهل صنهاجة فحدث بذلك الفقيه أبي عمران ويضيف الأستاذ حسين مؤنس أن يحيى بن عمر كان يفكر في أمر أخر إلى جانب اهتمامه بالعلم والفقه، وهو إنقاد المجموعة الصنهاجية التي ينتمي إليها من استبداد الزناتيين وطغيانهم[4] لكن فقيه المالكية بالقيروان رفض القيام بهذه المهمة شخصيا كما لم يجد في تلاميذه حماسا فقال له أبو عمران، "إنه قد عدمت بالقيروان بغيتكم وأما بملكوس فقيها حذقا ورعا يقال له وجاج بن زولوا فمر به فلربما ظهرت عنده بغيتك".[5] وقد كان وجاج هذا فقيها ذا مكانة كبيرة، بيد أنه لم يشأ القيام بهذه المهمة لعلمه بصعوبة انصياع الجداليين، فندب لذلك تلميذا شابا يدعى "عبد الله ابن ياسين" الجزولي الذي وافقه في أن يتولى مهمة إصلاح أهل صنهاجة.
ويذكر ابن أبي زرع والبكري وابن عذاري وابن أبي دينار وابن الخطيب وغيرهم أنه لما وصل عبد الله بن ياسين بلاد كدالة مع إبراهيم بن يحيا الكدالي، فرحت به قبائل لمتونة وأكرموه وعظموه، وكان يحيى قد أنزله معه، فوجد عنده تسع نسوة فسأله عنهن، فقال: "هن زوجاتي"، فقال له الفقيه: هذا شيء لا يجوز في دين الإسلام وإنما يجوز لك أربع ففارق خمسا فقال له إن جميع الرؤساء من كدالة ولمتونة على مثل حالي، فأنذرهم وعرفهم حكم الله فخرج الفقيه عبد الله بن ياسين ويحيى معه وجميع الرؤساء فقال لهم :
"بلغني أنكم تتزوجون بما شئتم من النساء حتى أن الشخص منكم يجمع بين عشرة وليس هذا من السنة فلما رأوه قد شدد عليهم في ترك ما هم عليه من المنكرات تبرؤوا منه وهجروه ونفروه"[6]
لكن البكري يذكر سببا أخر ينبغي الإمعان فيه وهو أن أهل كدالة وجدوا في أحكامه بعض التناقض فقام عليه فقيه منهم يدعى الجوهر بن سكم مع رجلين من كبرائهم يقال لأحدهم أيار وللأخر اينتكوا فعزلوه عن الرأي والمشورة[7].
ولما رأى عبد الله بن ياسين ذلك منهم أراد الرحيل عنهم إلى بلاد السودان فلم يتركه يحيى بن إبراهيم الكدالي وقال له "أنا لا أتركك تنصرف، وإنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما علي في من ضل من قومي"، وقال "يا سيدي هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد الآخرة " قال ما هو؟ فرد عليه: "إن هاهنا في بلادنا جزيرة في البحر إذا انحصر البحر دخلنا إليها على أقدامنا وإذا امتلئ دخلنا في الزوارق فدخلاها ودخل معهما سبعة نفر من كدالة فابتنيا بها رابطة وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة من ثلاثة أشهر فتسامع الناس بأخبارهم فلم تمر عليهم أيام حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة فسماهم المرابطين للزومهم رابطته وأخذ يعلمهم الكتاب والسنة فلما تفقهوا في ذلك وكثروا قام فيهم خطيبا، فوعظهم وشوقهم إلى الجنة وخوفهم من النار ثم دعاهم إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة"[8] فامتثلوا لذلك أحسن امتثال.
وتذكر المصادر أن أتباع ابن ياسين بدؤوا أول أمرهم بقبيلة كدالة ثم ساروا بعد ذلك إلى قبائل لمتونة ومسوفة ومن تبعها من القبائل الصنهاجية. فلما رأت تلك القبائل قوة وصلابة المرابطين سارعوا إلى الانسلاخ من عاداتهم القديمة وإلى مبايعة عبد الله بن ياسين واقروا له بالسمع وبالطاعة ثم صاروا يغزون قبيلة تلوى أخرى حتى ملكوا جميع بلاد الصحراء والمغرب الأقصى.
وتبعا لما سبق يتبين أن الفقيه عبد الله بن ياسين هو الأمير على الحقيقة لأنه كما يقول ابن أبي زرع، هو الذي كان يأمر وينهى ويعطي ويأخذ ويتولى النظر في أمر الحرب وينظر في ديانة البقاع التي استولى عليها وأحكامها ويأخذ زكاتها وأعشارها. وهكذا ساهم العامل الديني في قيام دولة المرابطين وعضد أركانها في بلاد المغرب الأقصى وعزز من شرعيتها لدى باقي القبائل الأخرى كما سيتخذ المرابطين فيما بعد من العامل ذاته، مرجعية تبرر توسعاتهم شمالا. وتحديدا ببلاد الأندلس التي كانت تعيش خلال الفترة نفسها صراعا طائفيا انقسمت الأندلس على إثره إلى حوالي 22 إمارة متناحرة.
وهكذا يكون حدث قيام دولة الملثمين أو المرابطين في المغرب، قد تحكمت فيه أربع عوامل رئيسة لايمكن الفصل بينها في عملية التفسير، أو الاقتصار على عامل واحد منها، فتجريد منطقة المغرب من ترابطها القبلي وتحدياتها الاقتصادية والسياسية واختزال حدث الوحدة –التأسيس- بين تلك القبائل في الجانب الديني فقط كما هو شائع لدى المصادر االقديمة ومؤرخي النزعة الدينية، لا يستقيم مع واقع المنطقة ما لم يستحضر المختص في تاريخ المغرب باقي العوامل الأخرى المفسرة والتدقيق فيها تدقيقا نقديا.
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] عبد الرحمان بن خلدون، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الجزء السادس، منشورات دار الفكر، طبعة: 2001، ص:152.
[2] ابن أبي زرع ، مصدر سابق، ص: 6.
[3] البكري، مصدر سابق، ص: 164.
[4] مؤنس حسين، معالم تاريخ المغرب والأندلس، منشورات دار الرشاد (القاهرة)، الطبعة الخامسة سنة 2000، ص: 17 .
وفي تلك الناحية أي ناحية تافلالت ساد فرع من مغراوة الزناتيين، يسمى بني وانودين وكان رئيسهم مسعود بن وانودين وكان على ثراء واسع .علاوة على ذلك كان زعماء زناتيون آخرون يحكمون في نواح أخرى قريبة من صنهاجة كخير بن خزر في مكناس ومعنصر بن حماد في بني يفرن والفتوح بن دوناس بفاس .
[5] البكري، مصدر سابق، ص:165.
[6] ابن أبي زرع ، مصدر سابق، ص: 126.
[7] البكري، مصدر سابق،ص: 165.
[8] ابن أبي زرع ، مصدر سابق، ص: 126.