نورالدين البكراوي - باحث في العلاقات المغربية الإسبانية ونزاع الصحراء
إن تاريخ أي دولة هو رصيدها الرمزي وثروتها اللامادية بين الأمم. التاريخ هو برهان الحضارة وبطاقة اعتمادها للنهوض بعد السقوط، والطموح اللامحدود مهما بلغ النماء والتقدم والازدهار. التاريخ هو الدافع والرافع والراسم لسقف الشعوب والمؤثر في سلوكه وانفعالاته. إن اقتفينا أثر ماركو توليو شيشرون Marcus Tullius Cicero[1]، سنرى عنده أنّ «التاريخ هو معلم الحياة. إن التاريخ شاهد حقيقي على الزمن وشعلة الحقيقة وهو حياة الذاكرة ورسول العصور القديمة[2]». وفي نفس الصدد يعرّف ميغيل دي سيرفانطيس[3] Miguel de Cervantes التاريخ في الفصل التاسع من كتابه "دون كيشوت"، بأنه «طريق الحقيقة، مقلد الزمن، مخزن الأحداث، شاهد على الماضي، والمثال والمنذر لما سيكون عليه الحاضر، بل إنه التحذير من الأشياء القادمة[4]». أما نحن فنرى التاريخ بوصلة الشعوب التي تستطيع من خلالها تحديد وجهة الطريق الصحيح نحو التطور والنجاح، وهو –أي التاريخ- الذخيرة الحية في وجه المستقبل.
لكن مع الجزائر يختلف الأمر تماما فمنذ أن نجحت الثورة الجزائرية الشعبية في فرض تقرير مصير الشعب الجزائري والاستقلال عن فرنسا وتشكيل لأول مرة في تاريخها دولة وطنية شعبية سنة 1962، وبعد أن سرقت هذه الثورة المباركة من الشعب والإطاحة بأبطالها الحقيقيين من طرف العسكر، تحاول جاهدة الدعاية السياسية الجزائرية استغلال كل الوسائل الممكنة والغير الممكنة لتلميع صورة النظام العسكري وتبرير سياساته وأوجه نظره. فالدعاية السياسية الجزائرية تعمل على جعل الشعب يتماهى مع أفكار العسكر وتبنيها، بل والإيمان بها، كما أنها تحاول -دون كلل أو ملل- برمجة الجزائريين -ولو بالكذب والسرقة الأدبية والتدليس والتضليل والتلاعب بالحقائق- لتقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصف وتعبئة الجماهير عن طريق تغذية الوعي الجمعي الجزائري بالحس الوطني وزيادة الإحساس بالتفوق الوهمي على الدول المجاورة والتمسك بالأرض والذكريات التاريخية التي من شأنها ضمان الوحدة الشعبية والولاء، وبالأخص، ضرورة حب النظام العسكري كما ذكرنا في الأجزاء السابقة من مقالنا طوبوغرافيا الدعاية السياسية الجزائرية. وفي سبيل هذا الهدف الأسمى، وما دام الأمر سيشحذ الهمم ويقوي الإحساس بالانتماء وحب الوطن، فإنه لا ضرر من تزوير وتحريف وطمس التاريخ. وكمثال حي على ذلك وليس الحصر، نجد أنه لا مشكلة في أن يحرف -بعد أن نقل تقريبا كل الصفحة- دكتور جزائري اسمه خالد بلعربي في كتابه: "الدولة الزيانية في عهد يمغراسن: دراسة تاريخية وحضارية 633ه 681ه الموافق ل 1235م 1282م[5]" كتابا آخر للمؤرخ المصري الدكتور حسن أحمد محمود عنوانه: "قيام دولة المرابطين: صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى[6]"، بتغييره في الصفحة 30 من كتابه (الدولة الزيانية) كلمة "المغرب الأقصى" (الموجودة في الصفحة 14 من كتاب الدكتور المصري) ب "المغرب الأوسط" ليتحول تلقائيا كل ما هو مغربي إلى جزائري. وكل هذا حسب "قوله في مقدمة الكتاب" [7] كان رغبة من المؤرخ الجزائري في كتابة تاريخ الجزائر في العصر الوسيط بطريقة ترقى إلى إعادة إحياء أمجاد الأمة ودورها في التاريخ المغاربي، وللأسف لم يعترف بتزويره وتحريفه وأخذه لمجهود كاتب آخر ضاربا الأمانة العلمية والأخلاق عرض الحائط.
إن هذه العملية الممنهجة التي تصرف وتشرف عليها الدولة الجزائرية صارت تقليدا في الجزائر، وتزيد حدتها في موسوعة ويكيبيديا الرقمية واليوتوب... وهي دون شك، امتداد لما يسميه المغاربة بعملية "الخنشلة"[8] التي تعتبر سرقة موصوفة دنيئة، تسعى إلى الاستيلاء على التراث المغربي أو أي تراث آخر ونسبه إلى الجزائر، وبعدئذ نكرانه على أصحابه الحقيقيين بالدعاية والإشهار الكاذب والإسراع إلى طلب نسبه وتسجيله في هيئات ومنظمات دولية كاليونيسكو والإيسيسكو وغيرها من المؤسسات التي تعنى بالحفاظ على التراث المادي واللامادي للدول. فعلى مدى سنوات، تخرج علينا القنوات الجزائرية بمسلسلات، وبرامج، ومسرحيات وبرامج وكتب وصور ورسوم وتراث تستولي فيها -بشكل فج لا يخلو من سماجة وصفاقة- على أعمال مغربية مشهورة ونسبها إلى الجزائر، تماما كما وقع مع المسرحية الغنائية المغربية "الحراز"[9] التي حققت نجاحا باهرا والتي قدمها ناس الغيوان في سنة 1967، من إخراج الطيب الصديقي، وتأليف عبد السلام الشرايبي...إذ تفاجأ المغاربة سنة 2007 وهم يرونها تعرض بالحرف على أساس أنها من التراث المغاربي، لكن هذه المرة في نسختها الجزائرية، من تأليف محمد شرشال، وإخراج فوزية آيت الحاج، وموسيقى محمد بوليفة، وأعيد عرضها سنة 2010 على أنها مأخوذة من التراث الجزائري، وسجلت -بكل وقاحة- في الأرشيف المسرحي الجزائري على أنها كذلك. أما في الدراما التلفزيونية، فقد "تخنشلت" السلسلة المغربية الشهيرة "حديدان" بنسخة أخرى جزائرية سموها "بوصوندوق" سنة 2021. وعلى نفس المنوال، قامت ثائرة المغاربة وهم يرون فضيحة على قناة الجزيرة الوثائقية في يوليوز 2022، وثائقي لرقصة البارود الجبلية لمدينة تاونات المغربية على أنه من التراث الجزائري ولولا أن في الوثائقي يوجد فيه العلم المغربي مرفرفا لانطلت الكذبة على العالم. ونفس الأمر تكرر، في ألعاب البحر المتوسط التي أقيمت في وهران، ما بين 05 من يونيو و 05 من يوليوز 2022، حيث كانت أول القصيدة كفر بافتتاحها بأغنية الفنان المغربي نعمان الحلو "يا شفشاون يا نوارة" التي أولا تم تحريفها باستبدال "شفشاون" ب "الجزائر" وثانيا، نكران صاحبها الأصلي بالقول أن الأغنية من التراث الجزائري، وكذلك كان مع فن "الكناوة" الذي قال عنه المنظمون أنه من التراث الجزائري كذلك.
إن ظاهرة الخنشلة التي -لا يكاد يوم دون حدوثها- باتت أمرا عاديا واعتياديا لدى المغاربة، فلولا أن للدولة المغربية جذورا موغلة في التاريخ ومؤرخون حفظوا تاريخها العريق بمعاصرة الأحداث ورصد كل كبيرة وصغيرة على مر 12 قرنا، لاستطاعت الدعاية الجزائرية "خنشلة" كل شيئ مغربي بما فيهم اسم المغرب[10]. فكل ما هو جميل يميز المغرب تسعى من ورائه الجزائر: فالقفطان المغربي أجمل أزياء الدنيا صار جزائريا، وفي عالم الطبخ فالكسكس المغربي الذي وصفه –من بين عدة أطباق أخرى- بشكل دقيق الحسن الوزان في كتابه "وصف أفريقيا"[11] هو الآخر يدّعون أنه جزائريا، ونفس الأمر ينطبق على كل ما له صلة بالتراث... وليس عبثا ينعتون المغرب ب "المروك" نسبة إلى مراكش، فهم بهذه الطريقة يستطيعون القيام بعملية "الخنشلة" بالإدعاء بأن شمال إفريقيا كله هو المغرب، أو أن المغرب المقصود في الكتب التاريخية هي الجزائر، وهناك أخرون يدّعون بأن الموحديين والمرينيين أصلهم جزائريي... إلى غير ذلك من الترهات التاريخية التي يفندها التاريخ بالحجة والبرهان عبر المصادر والوثائق القديمة [12].
لكن مع الأسف، ما يفسر ظاهرة "الخنشلة" وتزوير التاريخ والترامي على ما هو في ملكية الغير يعود أساسا لعدة عوامل: أولها الوجود الاستعماري الذي حوَّل الجزائر إلى بلد خامل[13]، وطمس هوية الجزائريين عبر الاستلاب الثقافي العنيف والشرس عبر قرون، وجعل من بلادهم حقل تجارب لمئات السنين، أضف إلى ذلك كعامل ثاني، غياب تأسيس دول مركزية من طرف أبناء الجزائر، اللهم فقط الدولة الزيانية التي ما فتئت تكون عبارة عن إمارة صغيرة قامت في تلمسان ما بين 1235-1556 على أنقاض الدولة الموحدية، -وكانت تسقط في العديد من المرات تحت الحكم المباشر للمرينيين أو تتبع لهم- لم تستطع الجزائر -في ظل وجود مجتمع جزائري مُستَعمَر دائما وغير فاعل في أحدات التاريخ الوطني للبلاد- من تشكيل هوية وطنية تاريخية ترتقي بها إلى درجة أمة لها حدودا جغرافية حقة ورموزا تاريخية وتقاليد ومؤسسات وذكريات وتراث وحضارة خاصة بها مختلفة وبعيدة ومستقلة عن الدول التي استعمرتها لعدة قرون.
وإذا ما تجاوزنا الحكم المغربي على ما كان يسمى بالمغرب الأوسط، فإن أول عائق واجه الجزائر لتشكيل الهوية والأمة والتاريخ والحضارة الخاص بها هو مشكل الاستعمار الذي وأد وأجهض كل محاولة لصنع ثقافة جزائرية خالصة، زيادة على ذلك، ترك الفرنسيون بعد خروجهم للدولة الجزائرية التي رأت النور سنة 1962 مشاكل حدودية غاية في التعقيد نتيجة دفاعهم -بدون وجه حق- عن الحدود الموروثة عن الاستعمار، وشعوب مختلفة وغير متناغمة -إلى يومنا هذا- في اللحمة الوطنية الجزائرية. فالشريط الشمالي الموجود اليوم بالجزائر، كان محتلا على طول الخط منذ القرن XVI من طرف الأجانب، سواء الإسبان الذين كانوا يحتلون المرسى الكبير (1505-1708) ووهران (1509-1708)، أو من العثمانيين الذين جعلوها إيالة عثمانية (1515-1830)، أو الفرنسيين بعد 1830 حيث حولوها إلى درة التاج الاستعماري الاستيطاني الفرنسي إلى غاية 1962. أما مساحتها التي تعتبر الآن لعنة على الجزائر، فهي عبارة عن أراضٍ للجيران وأخرى لشعوب غير متجانسة[14] اقتطعتها فرنسا لنفسها وأعطتها الاسم الذي تحمله الآن. ولمزيد من الفهم، لا بأس بالتذكير بأن " قبيل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1930، كان الشريط الساحلي الواقع في الماضي تحت الوصاية التركية والذي لم يكن يتعدى خط عرض 32، وكان جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وتم توحيده بعدئذ من طرف الجيش الفرنسي وتسميته بالجزائر، لم يكن آنذاك يتعدي ترابه 300.000 كيلوميتر مربع. ليمر تقدير الأراضي الفرنسية في الجزائر بشكل رسمي سنة 1920 ب 575.000 كيلومتر مربع. وبلغت المساحة بعد الاستقلال تقريبا 2.400.000 كيلومتر مربع[15]. فكيف إذن يمكننا فهم هذه المعجزة التوسعية التاريخية؟ وإن لم تكن سرقة وسطو فرنسي للأراضي على حساب المغرب وليبيا وتونس ومالي والنيجر فماذا تكون إذن؟ وعليه، إذا ما وضعنا عامل وجود الاستعمار في الجزائر الذي مارس الاستلاب الثقافي لقرون، وعامل الجغرافيا المهولة المسلوبة من طرف فرنسا، وعامل الشعوب والقبائل المتنافرة التي تدين بثقافتها وتاريخها وموروثها الشعبي لدول مجاورة... كل هذا يفسر لم الجزائر غنية بالموارد الطبيعية وفقيرة فيما يخص التاريخ والحضارة.
وأمام هكذا واقع اليوم، وفي ظل المنافسة الشرسة بين المغرب والجزائر على من منهما يتزعم منطقة شمال إفريقيا، سادت المقارنات لتشمل جميع مناحي الحياة. وصار في سبيل الحرب على المغرب كل شيء جائز ومباح. فالجزائر تروج في وسائل إعلامها الرسمي والغير رسمي أنها قوة إقليمية كبرى لها وزنها في المنطقة، وفي ظل هذا التنافس القوي بين المغرب والجزائر، يحاول كلا الطرفان التركيز على نقاط قوتهما واللعب عليها من أجل كسب النقط لدى المجتمع الدولي. وإذا ما ربطنا التراث الثقافي بالتنمية المستدامة في كل من المغرب والجزائر ستجد الفرق هائلا، فالتراث في المغرب منذ استقلاله تم الاستثمار فيه وربطه بالسياحة الثقافية والتاريخية وأصبح من القطع المهمة للمشاريع السياحية المدرة للأرباح والرفع من قيمة صورة المغرب، بل وتحول إلى سفير فوق العادة، يمارس به الدبلوماسية الثقافية ليجذب كل أنظار العالم إلى المملكة المغربية، وفي نفس الوقت، أسهم التراث الذي عرف إجراءات قوية من طرف الدولة المغربية -حتى تضمن الحفاظ عليه واستخدامه وتسويقه بل وتصديره بالشكل الأمثل[16]- في وضع المغرب في واجهة أقوى الدول سياحيا مع مصر في إفريقيا، وتعد مراكش من أهم المدن المستقبلة للسياح عالميا. وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على العمق التاريخي المغربي الذي تم استغلاله وما يزال العمل عليه من أجل الاستفادة منه أكثر في قطاع السياحة، ويؤكد قيمة الشعب المغربي المضياف في التشبث بالقيم المغربية السمحاء والمتقبل والمنفتح على الآخر. بينما نجد أن الجزائر -التي تعتمد كليا على الغاز والنفط- ضعيفة في هذا المجال كما هو شأن تاريخها، تتذيل قائمة ترتيب الدول السياحية في العالم.
تعلم الجزائر أنها لا يمكن ولا تستطيع إقناع حتى نفسها بأنها قوة اقليمية. فما بالك بغيرها؟! فكيف لها إذن، والحال هذه، أن تنافس دولة راكمت التاريخ دون انقطاع وتوغلت في السلطنة والتسلطن؟ وأن تجاري دولة-أمة باتريمونيالية ضاربة في جذور التاريخ وأصوله وأعماقه كالمملكة المغربية؟ أنّى لها- بالتالي- أن تحلم بذلك، وهي عارية من تاريخ خاص بها؟ لعلّ هذا الحُلم البعيد عن الواقع، بل الحق في الأحلام المستحيلة ومداعبتها في الخيال، هو ما يفسر كل ترهاتها وأكاذيبها وتدليسها للحقائق وللأحداث والشخصيات التاريخية. لذلك تحاول جاهدة إيجاد جذور لها بالقوة باختلاق القصص الوهمية أو ربط شخصيات مهمة بتاريخها. آخر هذه الهرطقات جاء على لسان الرئيس عبد المجيد تبون عندما صرح في لقاء مصور في التلفزيون الجزائري في أكتوبر الماضي سنة 2021، أن الجزائر ثاني من اعترف بالولايات المتحدة الأمريكية، وأضاف إلى تلفيقه الفج أن جورج واشنطن أهدى مسدسين للأمير عبد القادر الذي ولد بعد موت الرئيس الأمريكي بتسع سنوات... ومن جملة ما يروج أيضا، أن هذا الأخير كان بطلا في حربه ضد الفرنسيين وخانه المغرب بتسليمه للمستعمر. لكن الحقيقة أن الأمير عبد القادر الجزائري الذي بايع السلطان عبد الرحمن -كما فعل قبله أهل تلمسان وقبائل الغرب الجزائري وأصروا في ذلك ما لم يصرُّه المغاربة أنفسهم!-[17] والذي لم يكفه توريط البلاد التي آزرته ودعمته بالعتاد والسلاح والرجال في مقاومته ضد الفرنسيين، وأجبرت من أجل نصرة الإسلام والإخوة الجزائريين إلى الدخول في معركة إيسلي الخاسرة التي استنزفت خزائن البلاد ورمت بالمغاربة إلى الهلاك وأسقطت هيبة الدولة في الأرض أمام الأوروبيين، مما سهل دخولهم إليها والسيطرة عليها بعد ذلك، بل تعدى كل الحدود، خصوصا بعدما طلب اللجوء والأمان من سلطان المغرب آنذاك مولاي عبد الرحمن وكان له ما أراد، لكن النتيجة كانت بخيانة العهد وشق عصا الطاعة والتنكر للبيعة التي في عنقه بالانقلاب عليه والثورة في وجه من أحسن إليه بمحاولات السيطرة على مقاليد الحكم الذي بدأه في الجهة الشرقية مخلفا مئات القتلى بدم بارد في قلعية وتازة وما بينهما[18]. خيانته لم تكن لتغتفر إلا بقطع رأسه. وحسناً فعل بتسليم نفسه للفرنسيين والخدمة تحت إدارتها، ولكم في النياشين والأوسمة التي تزين صدره والرواتب والمعاشات التي يتقاضاها أولاده وأحفاده من فرنسا خير مثال وحجة على خيانته كما صرح بذلك النائب البرلماني الجزائري نورالدين آيت حمودة (ألقي القبض على إثرها)، نجل العقيد عميروش أهم رموز الثورة الجزائرية في لقاءه مع صاحب قناة "الحياة" هابت حناشي يوم 18 يونيو 2021[19].
في السياق نفسه، تابعنا جميعاً كيف أنّ فرنسا على لسان رئيسها "إيمانويل ماكرون"، في تصريح له يوم الاثنين، 04 من أكتوبر 2021، لجريدة "لوموند الفرنسية"، هدمت معبد الدعاية السياسية الجزائرية على أصحابها عندما وصفت عبر الناطق باسمها – ماكرون- الجزائر،أولاً، "بالنظام العسكري السياسي الذي أنهكه الحراك سنة 2019". وعسى ما استوقفني شخصيا، هو أنه تجنب استخدام مفهوم الدولة في تصريحه، أي أن الجزائر في نظر فرنسا مجرد شبه دولة، وليست دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة ولما يجب أن تكون عليه الدولة. ثانياً، ذكرهُ لعلاقته الطيبة مع عبد المجيد تبون، وفي الوقت عينه، أشار إلى أن الأخير عالق مع نظام عسكري صارم جدا، وهذه إشارة منه تفيد أنّ الرئيس الجزائري مغلوب على أمره، وأنّه ليس سوى واجهة مدنية لا غير. ليستطرد قائلا:«إنّ التاريخ في الجزائر تمت إعادة كتابته بشكل لا يستند للحقائق». فاتحا بذلك النقاش حول ريع الذاكرة التاريخية والمتاجرة والمزايدة والمقايضة والابتزاز بها. لينتهي برصاصة الرحمة متسائلا: «هل كان هنالك أصلاً شيءٌ يُسمىّ أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟»؛ أُطلِقتْ هذه الرصاصة لتكون مُعادلةً للضربة القاضية، فجُرِحَ الكبرياء الجزائري جُرحاً بليغاً بسببها، ثم هكذا قامت القيامة ولم تقعد في وسائل إعلامه لامتصاص غضب الشارع. لكن، بعد شهر من صدور تصريحات ماكرون عادت الأمور إلى نصابها نسبياً إلى حدٍّ ما، برجوع السفير الجزائري خلسة، وزيارة وزير الخارجية الفرنسي للجزائر "جان إيف لودريان"، يوم الأربعاء 08 من ديسمبر 2021، وكأن شيئا لم يكن. ولا عجب في ذلك، إذا ما تعلق الأمر بأمّهم فرنسا.
تقودنا الطريق إلى الختام، قائلين بأنّ النظام الجزائري العسكري منذ قيام دولته القائمة على حدود الاستعمار وهو خائن للعهد وناكر للجميل. فهل تتحلّى الدعاية السياسية الجزائرية بالشجاعة الكافية، وتجرؤ اليوم على الاعتراف بعقدتها التاريخية تجاه المغرب المفضية إلى كل الطمس والتزوير والتخريف والتحريف الذي سبق ذكره؟ وهل لها بالإقرار بالدور التاريخي للمغاربة بقيادة المقاومة الشعبية والثورة المبكرة للاستعمار الفرنسي طيلة 23 سنة كما فعل الشيخ المغربي المجاهد المعروف قيد حياته ب "بوعمامة"[20] (الذي "خنشلوه" دون وجه حق، ونسبوه هو الآخر –باطلا- إلى الرموز الوطنية الجزائرية وجردوه من مغربيته)؟ وهل يقدمون على ذكر المواقف البطولية للملك محمد الخامس إبان ثورتهم على فرنسا بفتح المدن المغربية في وجه الثوار وإيواءهم وتقديم شتى أنواع الدعم لهم لدرجة تحويل مدينة وجدة المغربية إلى مركز قيادة جبهة التحرير الجزائرية؟ وهل تستطيع القيادات السياسية الجزائرية تخليد ذكرى محمد الخضير حمو الطاهر الحموتي، المقاوم المغربي الريفي الحر، الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل استقلال الجزائر، والذي - ويا للعار!- تم قتله بدم بارد سنة 1964، حتى لا تبقى حجة على جحود وإجرام وخيانة مجلس قيادة الثورة التي سرقوها أولا من بعضهم، وبعدها من الشعب الجزائري البطل وما زالوا يتاجرون بها إلى يومنا هذا؟
وفي النهاية تبقى الدعاية السياسية في الجزائر ومن يدور في فلكها، فن وسخ يميل دائما إلى إقناع الآخرين بأفكار لا يؤمن بها أحد.
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] كاتب روماني وخطيب في روما القديمة، ولد سنة 106 ق.م واغتيل في 7 ديسمبر 43 ق.م. صاحب إنتاج ضخم، كما يعتبر نموذجًا مرجعيًا للتعبير اللاتيني الكلاسيكي، ويعد شخصية مثيرة للجدل لما أثاره من زعزعة للتفكير السائد آنذاك. أثارت شخصيته الكثير من الجدل خاصة في الجانب السياسي من حياته. من أهم أعماله: كتاب "الجمهورية"، وكناب "الاختراع" وغيرهم الكثير، بالإضافة إلى الخطب السياسية والفلسفية التي أكسبته شهرته والتي بحث فيها ونظّر في القانون ومفاهيم أخرى كالحقيقة والسعادة والسياسة...
[2]Véase, VV.AA, 50 Años de labor periodística, 1899-1949, (La traducción del español al árabe es nuestra), Instituto de Investigación jurídidica, UNAM, P.448
[3] ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا (بالإسبانية: Miguel de Cervantes Saavedra) جندي وكاتب مسرحي وروائي وشاعر إسباني ولد في ألكالا دي إيناريس، مدريد، إسبانيا في 29 سبتمبر 1547 وتوفي في مدريد، في 22 أبريل 1616. يعد أحد أشهر الشخصيات الإسبانية على مر التاريخ وأجد رموز الثقافة الإسبانية على الإطلاق، بفضل أعماله الخالدة في الأدب الإسباني والعالمي، لعل أشهرها روايته الشهيرة دون كيخوطي دي لا مانتشا بين عامي (1605 - 1615)، التي تعد واحدة من بين أفضل وأعظم الأعمال الروائية المكتوبة قبل أي وقت مضى.
[4] Miguel de Cervantes Savedra, El Ingenioso Hidalgo Don Quijote de La Mancha, (La traducción es nuestra) Iniviativa Editorial de Tiempo, Primera parte, Capítulo IX, Cactilla La Mancha, IV Centenario, p.74
[5] خالد بلعربي في كتابه: "الدولة الزيانية في عهد يمغراسن: دراسة تاريخية وحضارية 633ه 681ه الموافق ل 1235م 1282م، الطبعة الأولى، الألمعية للنشر والتوزيع، 2011
[6] حسن أحمد محمود، "قيام دولة المرابطين: صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1956
[7] خالد بلعربي، مصدر سابق (الدولة الزيانية...)، ص.11
[8] لقد وظّفنا في مقالنا كلمة "الخنشلة" في معناها التداولي الذي يستعمله المغاربة للإشارة إلى كل عملية لسرقة التراث المغربي من طرف الجزائريين. وتجدر الإشارة إلى أن لهذه الكلمة جذورا في اللغة العربية ويعود أصلها في قاموس "لسان العرب " إلى فعل "خَنشل" الذي يعني -من بين معانيه الكثيرة -الاضطراب من الكبر... أما في معناه التداولي فأصل الكلمة يعود إلى مدينة خنشلة الجزائرية التي ادعى الجزائريون أن طارق بن زياد ولد بها.
[9] مسرحية من التراث الفني المغربي القديم التي تستمد أصل قصتها من قصيدة الملك ابن القرشي المعروفة ب "عشيق عويشة والحراز" الذي عاش في مدينة أزمور المغربية.
[10] هناك من يدعي في الجزائر أن المغرب الحقيقي المذكور في كتب التاريخ يقصدون به الجزائر. وليس عبثا ينعتون المغرب بالماروك نسبة إلى مراكش، وأن تسمية المغرب حديثة من صنع الاستعمار.
[11] الحسن بن محمد الوزان الفاسي (ليون الإفريقي)، وصف إفريقيا، الجزء الأول، ترجمه من الفرنسية محمد حجي و محمد الأخضر، الطبعة الثانية، منشورات الجمعية المغربية للتاليف والترجمة والنشر، دار الغرب الإسلامي، ص.252-253
[12] أكبر دليل وحجة في وجه بعض المغرضين الجزائريين على استخدام واستعمال كلمة المغرب قديما توجد في المصحف المسمى ب "بالربعة" الذي كتبه بخط يده السلطان أبو الحسن المريني عام 1344 ميلادية (القرن 14)، والذي أوقفه في المسجد الأقصى، وفيه يصف نفسه بسلطان المغرب. ولدي ابن خلدون الغني عن التعريف، ما يفيد، حيث قدم أسم المغرب وربطه بالرُّقعة الجغرافية التي يشغلها الآن في كتاب تاريخه المشهور: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، (الجزأين السادس والسابع)، دار الفكر، بيروت، 2000، وراح يكرر ويقرر على امتداد كتابه أن المغرب المعروف قديما هو نفسه المغرب الحالي... أما عبد الرحمن بن حسن الجبرتي فقد أكد الطرح التاريخي ودحض الأطروحات التي تروج أن المغرب هو مراكش عندما أشار إلى سلطان المغرب، (وهو الذي عاصر حملة نابوليون على مصر وأرّخ للدولة العثمانية آنذاك)، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار، الجزء الرابع، دار الكتب والوثائق القومية، طبعة بولاق، 1997، الصفحات. 403 و 446
[13] ج.سبيلمان، من الإمبراطورية إلى فرنسا، المكتبة الأكاديمية بيران،1981، ص. 164
[14] كالقبائل والطوارق الذين لهم في الوقت الراهن جماعات تطالب بالاستقلال عن الجزائر.
[15] Mohamed Cherkaoui, El Sahara vínculos sociales y retos geoestratégicos, The Bardwell Press, Oxford, pág.14
[16] ما يزال إلى اليوم، يعتمد الإسبان في ترميم الثرات المغربي الموجود في إسبانيا على الحرفيين المغاربة بما فيها مواد البناء المستعملة وكذلك فعل الجزائريون في عهد الرئيس بوتفليقة بإنقاذ قصر المشور بتلمسان على يد المغاربة حيث قال الرئيس الجزائري في تصريح له على جريدة الشروق، بتاريخ 17/04/2011: "يجب أن نتعاون معهم لنعيد الاعتبار لهذا الموروث بإعادة تطويره بالشراكة مع المغاربة، دون أن تكون لدينا أي حساسية من ذلك". كما أن العديد من البلدان أصبحت تطلب بناء وتشييد بنايات وحدائق وحمامات على الطراز المغربي من بينها نذكر الحديقة الشرقية بمنتزه مارزان شرق برلين Marzahn بألمانيا. وشهدت منطقة Gifu World Rose Garden في مدينة كاني غيفو باليابان ، يوم الأربعاء 03 غشت، حفل افتتاح حديقة مغربية على الطراز التقليدي المغربي. وتوجد باب المغاربة التي بناها الجنود المغاربة في فيتنام ما بين 1956-1960، وتم ترميمها سنة 2018، حيث تقع في قرية «بافي ها طاي» (Bavi Ha Tay) شمال العاصمة هانوي وهي معلمة حضارية سلمية من فترة الحرب الفيتنامية في العصر الحديث من المعالم التاريخية في العصر الحديث لدولتي المغرب والفيتنام، ذات دلالة تاريخية ورمزية وسلمية غاية في الأهمية. أما في الهند يعد مسجد “The Moorish Mosque”، أو “المسجد المغربي”، بحسب موقع حكومة البنجاب المحلية، واحد من المعالم الدينية الإسلامية في ولاية “البنجاب” بالهند الأكثر جمالا وتفردا تشهد على عبقرية فن المعمار المغربي، وقد بني على طراز مسجد “الكتبية” بمدينة مراكش، عام 1927 من طرف “مهراجا جاجاتجيت سينغ”، آخر حكام كابرثالا...هذا دون نسيان باب المغاربة بالقدس الشريف وغيرها الكثير عبر التاريخ يشهد على روعة الفن المعماري المغربي الأصيل. وباتت الشركات العالمية تستلهم تصاميمها من الفنون والطبخ المغربيين كشركة سامسونغ الكورية العملاقة التي روجت إشهارها الأخير في شهر غشت 2022، للترويج لمنتجاتها بالشاي المغربي، وفامت في نفس الفترة شركة Ideal Of Sweden المتخصصة في أكسيسوارات الهواتف في استلهام تيمة أغلفة الهواتف وموصلات الشحن من الزليج المغربي. وتفس الأمر ينطبق على كبريات دور الأزياء التي مازالت تجد في القفطان المغربي مصدر إبداع وابتكار. هذا دون نسيان تهاتف صناع السينما على المغرب لما يزخر بها من مؤهلات فل نظيرها في العالم.
[17] الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى الدولة العلوية، القسم الثالث، الجزء التاسع، دار الكتاب، الدار البضاء،1997، ص.27-30 و ص.42
[18] نفس المصدر. ص. 56-59 وينظر كذلك إلى كتاب أبي العلاء إدريس:- الابتسام عن دولة ابن هشام أو ديوان العبر في أخبار القرن الثالث عشر، تحقيق مصطفى الشابي،تقديم عبد الحق المريني، المطبعة الملكية،الرباط، 2021، ص. 363-379
[19] بعد هذه التصريحات ألقي عليه القبض ببجاية وأمر قاضي التحقيق الغرفة الاولى لدى محكمة سيدي أمحمد، مساء يوم الأحد، 27 يونيو 2021، بإيداع نورالدين آيت حمودة الحبس، بعد أن وجه له تهم الإساءة إلى رموز دولة وزرع الحقد والكراهية وإهانة رئيس الجمهورية السابق (هواري بومدين) والقذف والسب والشتم بالنسبة لمصالي لحاج، وتم الافراج عليه يوم 29 عشت 2021.
[20] اسمه الحقيقي محمد بن العربي بن الشيخ بن الحرمة، المشهور بـ"الشيخ بوعمامة"، وهي تسمية لازمته طول حياته كونه يضع عمامة على رأسه. من رجال الله الثابتين، وأهل التصوف الحق الصادقين، والمجاهدين الكبار الذين علموا التاريخ دروسا لا تنسى في الإباء والصمود والعزة، والزهد في الدنيا وما فيها وعشق الوطن. ولد في قصر الحمام الفوقاني بفكيك المغربية سنة 1938، ووافته المنية سنة 1908 في واد بورديم ودفن وكان مقامه في العيون سيدي ملوك (العيون الشرقية بالمغرب). جاهد ضد المستعمر الفرنسي طيلة 23 سنة، بداية من عام 1882 إلى 1904، وهو من سلالة من الصالحين والمجاهدين، تمتد إلى جده الشيخ عبد القادر محمد (الملقب بسيدي الشيخ)، وإليه آلت مشيخة طريقته (الطريقة الشيخية الشاذلية).