د. يونس البقالي -باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات
توطــــــــــئة
تعدّد الأدوار التي مارستها الزاوية منذ ظهورها إلى حدود فترة الحماية، وكذا التحولات التي خضعت لها بنيويا طيلة هذه الفترات، هو ما يجعل منها مفهوما تحرّك فعله التاريخي عموديا وأفقيا في صيرورة تاريخية لم تستقر على حال. من هنا يصير من اللاّزم تناول تاريخ الزاوية ضمن مقاربة شمولية تُحيط بمختلف المُمارسات والأدوار التي أُنتجت من داخل أسوار هذه المؤسسة التاريخية، كما يستوجب التعامل معها كبنية نسقية، لا تكاد الأجزاء فيها تتفارق وتتمايز حتى تلتقي لاحقا في المرامي والغايات التي تسعى إليها الزاوية.
الحديث عن الزاوية إذن، هو في حدّ ذاته حديث عن "بنية نَسقية" مترابطة الأجزاء تشكّل كُلاّ غير منفصل، مستقّل أحيانا عن باقي المكوِّنات والبنيات التي أثّرت في تاريخ المغرب، ومرتبط بها في أحيان أخرى، مُؤثّر فيها ومتأثّر بها، فاعل في ديناميتها التاريخية ومنفعل بها.هو في الأخير حديث يستدعي استحضار رؤية انفصالية تفكّك بنيتها، وتحافظ على مسافة موضوعية بينها وباقي البنيات، كما يستدعي رؤية اتّصالية تستوجب دراستها من حيث هي نِتاج للدينامية العامة لباقي البنيات التي وَسمت التاريخ المغربي لفترات ما قبل الحماية، ورَسمت معالمه .لقد شكلت "الزّاوية" في جميع الأحوال، مكوِّنا تاريخيا يحكُمه مبدأ "الحركية التاريخية"، وذلك عبر صيرورة من التحوّلات التي مسّت مكونات هذه البنية ككل، وأثرت على مسارات فعلها وتحركها التاريخيين.
ظلت الزاوية لقرون، إطارا للنظر في تاريخ المغرب الحديث، ومفتاحا لإدراك جوانب عصية على الفهم من هذا التاريخ، بل إنها شكلت في غالب الأحيان، الإطار الذي تنبثق منه كل دعوة تروم التأسيس للدولة أو إصلاحها، وفي جميع الأحوال، فالقرار إن لم ينبثق منها، فإنه لا يتجاوزها. مع ظهور دولة الأشراف العلويين، توارت مؤسسة الزاوية إلى الخلف بفعل ما طالها من التضمين والاحتواء، إلا أن بواعث الظهور والانبعاث مع قدوم القرن التاسع عشر، كانت كفيلة بإخراج الزاوية من أسوارها مرة أخرى، والدفع بها نحو معترك الأحداث. فما من شك في أن تنامي الوجود الأجنبي بالبلاد، وتعاظم الضغوط الأوروبية على البلاد، عجّل باندفاع عدد من الزوايا في اتجاه التموقع في مواقع المعارض للجهاز المركزي، نتيجة تعارض الرؤى حول كثير من المواقف والقرارات المصيرية، إذ في ظل هذه الشروط والظروف التاريخية، ستتعاظم أدوار الزوايا الاجتماعية والسياسية بشكل بارز، وستشكّل «ملجأ للقبائل والفئات الاجتماعية المتضررة من الاقتطاعات الضريبية الفاحشة»[1]، التي أملتها الظرفية التاريخية المرتبطة بسياسات الإصلاح الرامية إلى تحديث دواليب اشتغال الدولة، الإدارية، السياسية والعسكرية... الخ.
عادت الزاوية للظهور بشكل نوعي خلال القرن التاسع عشر، مع بروز أشكال التغلغل الأجنبي في البلاد التي رافقها انتشار واسع للتحديثات الأوروبية، ومظاهر الحياة المادية بين شرائح المجتمع المغربي، وهو ما شكّل دافعا قويا في اتّجاه صعود نجم بعض الزوايا، وتنامي إشعاعها، ومنها الزاويتين "الدّرقاوية" و"الكتّانية" اللّتان نجحتا في إظهار مواقف معارضة للاستعمار والتسرّب الأجنبي، والإجهار بمعاداة الحياة المادية الأوروبية.
وإذا كان ردّ فعل الزوايا على الأوضاع التاريخية التي آلت إليها البلاد آنذاك، يُعبِّر في مظاهره العامة عن شكلٍ من الإرادة المستقلة في التعامل مع الأحداث، فإنه لا يعكس توحّدا في النظرة إلى الأجنبي الدخيل، وتنسيقٌا للمواقف إزاء الوضع الجديد، بقدر ما يعكس ذلك التشتّت والتنافي الذي صار قائما بين توجهات الزوايا في تعاملها مع الآخر الأوربي، وبالتالي تجاه مظاهر التحديث التي رافقت حضوره في البلاد. ولعل الزاوية الكتانية من بين أهم الزوايا التي استطاعت أن تطأ بقوة معترك التاريخ، وتبصم بصمتها في اللحظات المصيرية من تاريخ المغرب المعاصر.
الزاوية الكتانية: المسؤولية الدينية والدور التاريخي.
ارتبط ظهور الزاوية الكتانية أساسا بالظروف العامة التي كان يحياها المجتمع المغربي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعتبر «الكتانية آخر طريقة صوفية ظهرت بالمغرب في نهاية ق19م، وتعتبر تتويجا لحركة صوفية جد نشيطة وغنية شملت المغرب من أقصاه إلى أقصاه»[2]. ويعود الفضل في تأسيسها إلى شيخ الزاوية محمد بن عبد الواحد الكتاني (ت 1289هـ)، غير أن الزاوية لم تنل شهرتها إلا مع ابن عمه جعفر ابن ادريس الكتاني الذي توفي سنة 1323هـ، فإليه يعود الفضل في تعمير الزاوية وتقعيد أصول الطريقة فيها، قبل أن يخلفه على مشيخة الزاوية عبد الكبير بن محمد بن عبد الواحد الكتاني، ومن بعده ولده محمد بن عبد الكبير الكتاني*، الذي مرّت الزاوية في عهده بمتاعب ومحن أنهت اشعاعها الصوفي وحَدّت من دورها السياسي.
تتفق الكتابة التاريخية التي تُعنى بدراسة تاريخ التصوف المغربي، على أن شيوخ الزاوية الكتانية، خاصة منهم المتأخرين، لم يقتصروا في شخصيتهم العلمية والمعرفية على النهل من منابع الكتابة الصوفية والطرقية، بقدر ما انفتحوا على الدراسات الفقهية في إطار المذهب المالكي **.فمن الصعوبة بمكان التمييز، على سبيل المثال، في شخصية ومواقف محمد بن عبد الكبير الكتاني «بين الجانب الصوفي - الطرقي والجانب السلفي، خاصة وقد سجلت حياته انتقالا من الاهتمام بالفقه ومحاربة البدع وممارسة الاجتهاد إلى الانخراط في سلك التصوف الطرقي، مع محاولة البقاء مع ذلك في نفس الخط السلفي الذي تجذّر لديه بانكبابه على المصنفات السلفية الحديثة القادمة من المشرق»[3].
وإذا كانت الزاوية الدرقاوية مثالا صريحا للزاوية التي اخترقت المجتمع القبائلي بالمغرب خلال القرن التاسع عشر، فإن الزاوية الكتانية قد نجحت بشكل كبير في اختراق المجتمع الحضري، ومهّدته لتقبّل دعواتها الإصلاحية. ومن ذلك أنها اخترقت سلطة المخزن في مجاله المركزي، الذي هو العاصمة فاس، واتّخذتها مجالا لمقرِّها المركزي، «وعملت على تجميع أتباعها من داخل هذه الحاضرة ومن ناحيتها»[4]، بل إنها اخترقت هذا المجال الحضري رغم قوة حضور السلطة فيها، وكثافة العلماء فيها، المشهود لهم تاريخيا بمواقفهم المناوئة للتدين الطرقي.
ما من شكّ في أن ظهور الزاوية الكتانية جاء في ظل سياق تاريخي، اتّسم بتنامي الضغوط الاستعمارية على المغرب من طرف القوى الرأسمالية الأوروبية التي سعت إلى تفكيك الاقتصاد المحلي، وغزو السوق المغربية بالمنتجات الصناعية الأوربية. كما جاء انبعاث الزاوية ضمن فترات متأخرة من القرن التاسع عشر ميَّزها انتشار كبير للخطاب السلفي المناهض للفكر الطرقي، والذي مثّله تيار من الفقهاء المتأثرين بالدعوات السلفية الإصلاحية المنبعثة من المشرق العربي، وأيضا في خضمّ أجواء عرفت شبه فراغ لسلطة المخزن المركزي داخل مجالاته المغربية.
لهذا وفي جو الانحطاط والعجز الذي عبّرت عنه الأحداث التاريخية المتأخرة لمغرب القرن التاسع عشر، وفي لحظة ارتفعت فيها حدّة الأصوات المطالبة بضرورة الإصلاح والتدخل من أجل وقف الخطر الأجنبي، انبرت الزاوية الكتانية على سطح الأحداث، واستطاعت بدورها أن تركب موجة الحركة المنادية بلزوم التجديد السياسي والاجتماعي، بل إنها استطاعت أن تُبادر إلى ذلك عندما انتقلت من مستوى إبداء النصيحة والمشورة، إلى مستوى التدخّل في توجيه الأحداث وأخذ زمام المبادرة.
جاء صعود الطريقة الكتانية، كنتاج لحركة الإحياء الصوفي التي نشطت بشكل كبير خلال أواخر القرن التاسع عشر، وفي خضمّ الأجواء الصعبة التي كان يَمرّ منها تاريخ المغرب. وترجع أهميتها إلى كونها تمثيل للنضج الذي وصل إليه الفكر الصوفي بعد نجاحها في احتواء الخطاب الفقهي، وجعله يقف جنبا إلى جنب مع التصوف الطرقي، كما أنها تَمثيلٌ صريح لردّ الفعل الممانع لتيارات التحديث التي بدأت معالمها في التشكّل بين أوساط النخبة المغربية آنذاك. وفي جميع الأحوال فقد توفّرت للزاوية الكتانية كل المقوّمات التي تؤهلها لأخذ زمام المبادرة، واجتمعت فيها دعائم المشروعية التي يرتضيها مغاربة تلك المرحلة، والكفيلة بجعل خطاب الزاوية ينبري على السطح من أجل مواجهة الأطماع الأوروبية في البلاد، ورد الدعوات المطالبة بإصلاح يتفق والرؤية التمهيدية التي ابتغاها الأوروبييون لصيرورة الإصلاح في البلاد.
لقد نالت الزاوية، بفعل تمركزها في العاصمة فاس، شهرة عظيمة في ظرف وجيز، ويقول ليفي بروفنصال في هذا الصدد: «أنها أحدث طريقة صوفية بالمغرب نسبت باسم مؤسسها الذي ينتسب للكتانيين الأدارسة [...] وقد أدركت في فاس أهمية مُعتبرة، وتمكّن أفرادها من حجب علماء الأسر الكبيرة من فاسيين وقادريين وبني سودة»[5].
وقد أسهم في انتشار الطريقة الكتانية، دعوتها إلى العودة للأصول الأولى للإسلام، بالسير على مناهج النبوة، كأصلٍ للتدين الواجب اتّباعه، حتى اعتبر بعض المترجمين لشيخ الزاوية «أن دعوته وطريقته الكتانية ما هي إلا دعوة رسول الله وطريقته وسنته وشريعته»[6]. من هنا اتّخذت الزاوية من فاس منطلقا لها، وتَمّ ارسال مريدي الزاوية نحو القبائل والحواضر المغربية، من أجل تلقين أصول الطريقة الكتانية التي بقدر ما تنهل من التصوف الطرقي، فإنها تدعوا إلى الالتزام بتعاليم الشريعة والاجتهاد الفقهي. وقد مكّنها ذلك من الانتشار بوتيرة سريعة، وفي ظرف وجيز، حتى بلغ عدد فروعها «ما يناهز مائة زاوية»[7]، ونَظَر الكثيرون إلى شيخها على أنه مجدّدٌ للدِّين، ومحي للتربية الصوفية.
يَتفهّم الباحث في التاريخ إلى حدٍّ كبير الأسباب الكامنة وراء هجوم العلماء والفقهاء على الفكر الطرقي وتراثه الصوفي، ويستوعب المحاولات المستمرة لهؤلاء من أجل إضعاف انتشار الطرقية بين الشرائح الاجتماعية. هي في نظرهم أصل التفرقة وشَتات الرأي لحظة مواجهة أحداث مصيرية، كما أنها آلية لإنتاج جميع مظاهر الابتداع والخروج عن الدين. هذه الأحكام والمواقف المُسبقة التي كانت تواجهها الزوايا في خضم انخراطها في الأحداث بشكل مباشر وغير مباشر، هو ما دفع بالزاوية الكتانية لأن تسارع باستباق الأمور، وتجعل من "البدعة" كل ما يؤسس للتعامل مع الأوروبيين أو الإقبال على مظاهر الحياة الأوروبية. فقد حصر الكتانيون «الابتداع في ما كان يقوم به "المحميون" من ممارسات تنتمي إلى نظام قِيم جديد، من قبيل الانشغال بالسماع والطرب، فهؤلاء لم يروا في أفعال "المحميين" إلا اعتداءا على نسق القيم الإسلامي الأصيل»[8].
وقد بلغ من تحصّن شيوخ الزاوية الكتانية بالأذكار والأوراد التي تقتضيها الطريقة في مواجهتهم للأحداث والظواهر، أن تَمّ تخصيص أحد الأحزاب في الطريقة الكتانية للدعاء على الكفار بغاية طردهم وإخراجهم من البلاد، وهو الحزب السيفي المشهور الذي «يُقرأ بِنِية هزم جيوش الكفار»[9] وتشريدهم. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على تشبّع الزاوية بالفكر الطرقي، رغم ما قيل عنها من ميول للالتزام بتعاليم الشرع والمذهب المالكي. ولعلّ عداء الكتانية للحضور الأوروبي بالمغرب، ووقْع الصّدمة التي أحدثها في نفوس المغاربة واقع التحديث، هو ما جعل شيوخ هذه الزاوية يتضرّعون بالأذكار والأوراد الصوفية من أجل اتّقاء شرّ هذه المستجدات الحادثة، كنوع من الالتجاء للكرامة الصوفية، والاتكال على الخوارق الغيبية، أو هي أحد أشكال الجهاد النفسي التي ينبغي للمُريد أن يَسْلُكها كطريق للتعبّد، و«كأنها شريعة أخرى»[10].
إن الزاوية الكتانية، مِثلها مثل باقي الزوايا التي انتشرت في أنحاء المغرب خلال فترات ما قبل الحماية، لم تَستطع التخلص من النظرة الغيبية للظواهر كما رسّخها التصوف الطرقي، والتي تُغَيِّب أي أثرٍ للإرادة البشرية، وتكرّس مفهوما مشوها للتوكّل. ورغم الجهود التي بدلتها الزاوية كحركة إحياء ديني واجتماعي، فإنها لم تخرج عن دائرة التقليد الذي أطّر الذهنية الخاصة والعامة لمغاربة ما قبل الحماية، ذلك أنها ظلّت تتراوح في توجّهها التعبّدي بين التعاليم الشرعية للإسلام والطرقية والصوفية، ولم تتدخّل في توجيه الأحداث التاريخية إلا من حيث معارضتها قرارات المخزن المغربي في لحظات تهلهله، وإبداء المواقف الممانعة تجاه التحديث الأوربي في جميع مظاهره.
جاء رد فعل الكتانية بمثابة محاولة بَعْثٍ لتقاليد موروثة، وترسيخٍ لذهنية لا تشمل من التاريخ إلا الماضي بتناقضاته التامة. وهو ما جعلها غائبة عن القراءة الصحيحة للواقع التاريخي الجديد بمستجداته العلمية والتقنية، واكتفت باستحضار تلك الصورة النمطية التي تَمثَّلها المغاربة عامة، والزوايا بصفة خاصة، عن الأوروبي باعتباره ذلك الآخر النصراني المُخالف في الدين، وليس ذلك الأوروبي الحديث كما شكّله فكر الأنوار.
مهما كان من قيمة رد فعل الزاوية الكتانية تجاه التحولات التي كانت تمسّ المجتمع المغربي قبيل الحماية، فإن تدخّلها جاء متأخرا عن السياق التاريخي العام الذي كانت تجري في خِضمه التحولات الدولية. ففي هذه اللّحظة كانت حدّة التنافس الإمبريالي قد تزايدت حول امتلاك الأسواق خارج الحدود الأوروبية ومدّ النفوذ فيها، ومع بروز قوى صناعية جديدة كألمانيا، صار مصير المغرب مُعلّقا، تتحكّم فيه المفاوضات الدبلوماسية التي كانت تتمّ بين القوى الرأسمالية حول هذه السوق المغربية الواعدة، أكثر مما تتحكّم فيه إرادة القوى الفاعلة الداخلية، ورغبة المغاربة في الانعتاق.
ولعل بروز "المسألة المغربية" كأحد أهم الأزمات التي ساهمت في توتير العلاقات الدولية، وأحد العوامل التي مهّدت لاندلاع الحرب العالمية الأولى، لتعبير صريح عن قوة الضغط الأجنبي الذي تعرّضت له البلاد. هذا الضغط الخارجي الذي ما كان المخزن ليردّه، في ظل حالة تشتّت الإرادات والمواقف، وتفسّخ البنيات والمؤسسات، فانزاح الفعل الإرادي، وحلّت محله ردود أفعال غاب عنها التنسيق والرؤية الإستراتيجية، فكان ولابد أن يتوجّه المغرب نحو مصيره المحتوم، وإن تأخر حصول ذلك.
لقد كان من الصعب على المغاربة أن يتعاملوا مع الضغوط الأوروبية وهم لم يستوعبوا بعد الصورة المادية التي أصبحت عليها أوروبا، بعدما صار "التحديث" الآلية التي تعمل أوروبا من خلالها على إعادة تشكيل صورتها، والمَركب الذي يَعبُر بها في التاريخ مدارج التقدّم باتّجاه التجاوز المستديم لذاتها، وللآخرين. ولمّا تَيقَّن المغاربة من التبدُّلات التي طرأت على صورة أوروبا، ولمّا تأكدوا من حالة التفاوت الحضاري التي أصبحت بينهم وبين الأوروبيين، فإنهم، وبدل أن يجتهدوا بالبحث في أسباب هذه القوة، بإعمال العقل في المحسوس ولو قليلا، وشَغل الذهن ما تيسّر ذلك، بالتفكير في العِلّات، نجدهم يرتكنون إلى المفاهيم التقليدية التي رسّخها فيهم الفكر الطرقي في مواجهتهم لكل ما يُنتجه الآخر، ولم تكن الزاوية الكتانية لتخرج عن هذا الإطار، مهما اعتُبِرت لَحظتها صَحوةً في الزمن الذي وُجدت فيه.
أن تخلخل الأوضاع، الذي أنتجه تعاظم الأوروبيين في البلاد، سيزحزح هذا التماسك الذي خضعت له البنيات التاريخية المغربية. وتم التعبير عن رد الفعل الصوفي إزاء كثافة المظاهر التحديثية التي بدأت تخترق البلاد، بأنواع من الكرامات والخوارق التي ظلّت تمثلاتها قائمة في ذهنية المغاربة لفترات لاحقة. وفي خضم تراجع دور المخزن الشريف، انبرى على السطح رجال تصوف سارعوا إلى إقرار نظرتهم للأحداث، وغذّوا الشعور بالرفض تجاه كل ما يتصل بالأوروبيين من مظاهر تحديثية، كتعبير عن تصور عَقَدي مُمانع لكل ما يمكنه أن يرتبط بذلك الآخر الأوربي النصراني.
من هنا عبّرت كثير من حركات الإحياء الصوفي خلال القرن التاسع عشر عن توجّهها نحو إعادة تأصيل الممارسات الدينية الكفيلة بترسيخ ذهنية مكتفية بذاتها، قانعة بما تملك، ورافضة لجميع أشكال الفهم المادي للظواهر. ومن وحي هذه الحركات الصوفية، أمكن للعديد من الدعوات الإصلاحية أن تظهر وتركب مطية التجديد السياسي والاجتماعي والعسكري... الخ. غير أنّه يبقى من الطبيعي أن الضغط الاستعماري، وتسرّب جوانب من التحديث الأوروبي في البلاد، قد أحدث ردود فعل متباينة، وصلت إلى درجة التناقض والتعارض، وهو ما يلمسه الباحث في قراءته لتاريخ تلك المرحلة، إذ يصطدم بمستويات من التنافر بين أوساط النخبة، عندما اضطرت إلى إبداء مواقفها من التحديث والإصلاحات التي ما فتئ المخزن المغربي يقوم بها، وذلك على الرغم من تشابه نظرة هؤلاء للكون والطبيعة، وتماثل ذهنيتهم العقلية، التي لم تكن لتخرج في تكوينها عن إطار المعتقدات والأفكار التي رسّخها فيهم الفكر الطرقي والعقل الفقهي.
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] عبد السلام حيمر، "النخبة المغربية وإشكالية التحديث"، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2001، ص 70.
[2] أحمد بوكاري، "الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب (1204-1330هـ / 1790-1912م)، الإحياء الديني وقضايا المجتمع والعصر"، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المحمدية، الطبعة الأولى، 2006م ، ص 95.
* يخصص أحمد بوكاري صفحات من كتابه (الأحياء والتجديد ...) للحديث عن تأسيس الزاوية الكتانية وشيوخها في تعاقبهم على المشيخة، ومؤلفهاتهم الصوفية والفقهية، وأساتذتهم، بالإضافة إلى أسس وأركان الطريقة، ومواقف الزاوية التاريخية، ومواقف بعض العلماء منها. أنظر أحمد بوكاري، "الإحياء والتجديد ... "، الصفحات من 95 إلى 123.
** تتفق حول هذا الحكم العديد من الكتابات التاريخية، التي ترى في كون شيوخ الزاوية الكتانية المتأخرون قد جمعوا في فكرهم ومواقفهم، بين شخصية الصوفي والسلفي الإصلاحي، وهو ما يجعل طريقة الزاوية مجالا لتداخل الفقه والتصوف، فكلاهما ينضبط لتعاليم السنة ومن بين الدراسات التي أنجزت حول الموضوع، نذكر دراسة عبد الجليل بادو في "كتابه السلفية والإصلاح".
[3] عبد المجيد الصغير، "تجليات الفكر المغربي، دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوّف"، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1994م ، ص 236.
[4] نور الدين الزاهي، "الزاوية والحزب، الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي"، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2003م، ص 15.
[5]Lévi Provençal, « Les historiens des CHORFA- Essai sur la littérature historique et biographique au Maroc du XVIᴱ A XXᴱ siècle », Maisonneuve et Larousse, Paris, 2001, P: 377-378.
[6] أحمد بوكاري، "الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب (1204-1330هـ / 1790-1912م)، الإحياء الديني وقضايا المجتمع والعصر"، ص 112.
[7]نفسه، ص 113.
[8] عبد الإله بلقريز، "الخطاب الإصلاحي في المغرب"، دار المنتخب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997، ص 161.
[9] أحمد بوكاري، "الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب (1204-1330هـ / 1790-1912م)، الإحياء الديني وقضايا المجتمع والعصر"، ص 111.
[10] عبد السلام الطاهري، "الفكر الإصلاحي بالمغرب –الخطاب السلفي المخزني نموذجا-"، الرباط، الطبعة الأولى، 2008، ص 186.