نورالدين البكراوي - باحث في العلاقات المغربية الإسبانية ونزاع الصحراء
لا غرو أن الخوض في طبيعة الطوبوغرافيا المشكلة للدعاية السياسية الجزائرية صعب للغاية لما يعتريه من غياب صريح للمنطق، ويغدو على طول الخط أكثر صعوبة عند محاولة صياغة جديدة-لم تذكر من قبل- لأهم مبادئ هذه الدعاية وما قد تفرزه لنا من مفاهيم خاصة. وعطفا على ما سبق لنا التطرق إليه في الأجزاء الثلاث السابقة لمقالنا "طوبوغرافيا الدعاية السياسية الجزائرية"، من مبادئ متعلقة بتسييس جميع مناحي الحياة والإسقاط بالمماثلة ومبدأ الإسكات، فإن هذا الجزء سنستعرض فيه مبادئ أخرى تساهم هي الأخرى بشكل قوي في التأثير سلبا على الرأي العام للشعب الجزائري ونظرته للحياة، وتعطي الشرعية في الوجود للطغمة العسكرية الحاكمة وتطيل بدورها في عمر نظامها.
04)-مبدأ الاعتماد على نظرية المؤامرة. كل العالم يريد إسقاط شعلة الجزائر وتقدمها.
قد تكون نظرية المؤامرة ظاهرة كونية، وقد يقال أنها تطال الهواء الذي نتنفسه والطعام الذي نأكله والدواء الذي نتناوله والماء الذي نشربه... وأن أصحاب هذه المؤامرة هم سلالة نادرة ومجموعة صغيرة من أصحاب الأفكار المجنونة الذين ينهجون طرقا وأساليب جهنمية للسيطرة على العالم[1]. لكن في الجزائر وما يتم إنتاجه وترويجه يوميا من أخبار وتقارير وبرامج في وسائل الإعلام الجزائرية وما ترتكز عليه دعايتها، تعد نظرية المؤامرة مسألة غير عقلانية في جوهرها ومرضية لأبعد الحدود، وتنطوي على نوع من الجنون وتشوش العقل والحمق والارتباك يسقط فيه المنطق بالضربة القاضية- بشكل خاص- عندما يتعلق الموضوع بالمغرب.
ففي نهاية السنة الماضية، وبالضبط في 22 من ديسمبر 2021، أصدر البنك الدولي تقريرا سوداويا إنذاريا ذو طبيعة استشرافية مستقبلية حول الجزائر، مفاده أن الجارة الشرقية للمملكة المغربية مقبلة على زلزال اقتصادي وكارثة اجتماعية ستعصف لا محالة بالبلد؛ مع تفاصيل أخرى مثبتة بالأرقام والبيانات يمكن لأي أحد الاضطلاع عليها في الموقع الرسمي للبنك الدولي. هذا التقرير فتح أبواب جهنم في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعية الجزائرية وعلى رأسهم -كالعادة- وكالة الأنباء الجزائرية لتكذيبه والحط من قيمته والضرب في مصداقيته في مقال أصدرته بتاريخ 28 ديسمبر 2021، تقول فيه: " البنك العالمي يحيد عن إطاره المؤسساتي ويهاجم الجزائر".كل المواقع سارعت إلى تلفيق حكايات واهية لا أساس لها من الصحة من قبيل: نعث تقرير البنك الدولي "بالمغلوط" أنجز مجاملة ل" مملكة الشر والبؤس" (يقصدون المغرب) تماما كما جاء جليا في مقال لوكالة الأنباء الجزائرية بتاريخ 04 يناير2022 بعنوان:"التقرير المغلوط للبنك العالمي: محاولة لزعزعة استقرار الجزائر"، وتردف في نفس المقال أن المملكة المغربية هي التي دفعت بالموظف المرموق-الذي تقلد مناصب مهمة عبر تاريخه المهني، ويشغل حاليا منصب نائب رئيس البنك الدولي المكلف بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا- التونسي فريد بلحاج، إلى إعداد تقرير ضد السياسة الاقتصادية والتنموية للنظام العسكري، وتمت إجارته لينسج تقريرا سلبيا جدا عن الجزائر بغرض وضعها في موقف لا تحسد عليه أمام شعبها والرأي العام العالمي. ليس هذا فقط، بل تعداه الأمر إلى إيهام القراء بأن المغرب يتحكم في البنك الدولي، لتحبك قصصا (دون دليل يذكر) من وحي خيالها المريض الذي لا يصدقه عقل سوي عن علاقة التونسي فريد بلحاج بالقصر الملكي بالتحديد مع الأمير مولاي رشيد، كما جاء واضحا في الجريدة العمومية الجزائرية القديمة "الشعب"، في عددها 18753، بتاريخ 5 يناير 2022، حيث تصدر واجهتها مقال عريض وطويل بعنوان: " تقرير البنك العالمي حرره عميل للمخزن". أيعقل أن يكون المغرب وصل به النفوذ إلى التحكم بقرارات مؤسسة مالية ضخمة كالبنك الدولي؟ وهل الترسانة التي يملكها البنك العالمي في واشنطن، المكونة من خيرة الخبراء في هذا المجال في العالم، يمكنها حقا أن تصدر قرارات مغلوطة وفوق كل هذا مدفوعة الثمن؟ الجواب الشافي والكافي جاء من لدن الهيئة الدولية نفسها بعد أن ضاقت ذرعا من أكاذيب وافتراءات وتمادي الوسائل الإعلام الجزائرية الموغلة في صنع الوهم والخيال المريض بخروجها عبر موقعها الرسمي يوم الخميس، 6 من يناير،2022، تؤكد فيه ما يلي: " تقرير المرصد الاقتصادي للجزائر، الذي يخضع لمراجعة شاملة للجودة قبل إصداره، يستند حصرياً إلى البيانات المتاحة للجمهور والمشار إليها في التقرير، أو إلى البيانات التي يتم توفيرها مباشرة من جانب السلطات الرسمية الجزائرية. أما الغرض الأساسي من هذا التقرير فيتمثل في الإسهام في المعرفة والحوار البناء حول جوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجزائر. وتتماشى استنتاجات التقرير الأخير مع البيانات الرسمية المعلنة في تاريخ الموعد النهائي لإدراج بيانات التقرير (وهو في هذه الحالة الأول من نوفمبر 2021)، والتي تم إتاحة معظمها في النشرة الصادرة عن بنك الجزائر المنشورة بتاريخ 22 ديسمبر 2021.
لقد لاحظنا ومع الأسف أن بعض المقالات المنوه عنها أعلاه قد اعتمدت لغة ربما لم يتم التفكير فيها بشكل كامل من جانب مؤلفيها الذين لم يكشفوا عن هوياتهم. وعلى الرغم من كون هذه التعليقات غير مقبولة، فلن يتم الرد عليها لأننا من جهتنا لا نعتبر أنها يمكن استخدامها كموضع للنقاش".
وهكذا تعم وتنتشر قاعدة نظرية المؤامرة مع كل حدث كارثي تتعرض له الجزائر أو أزمة تعصف بنظام الجنرالات في شتى المجالات. وما نستخلصه من صفعة البنك الدولي للنظام الجزائري ما يلي: أولا، قطع الطريق على الدعاية السياسية الجزائرية التي كانت تحاول الطعن في مصداقية تقارير البنك الدولي ونزاهتها، ثانيا، إجهاض أي محاولة للاعتراض أو الشك لدولة أخرى متعثرة كالجزائر ضد توصيات ودراسات المؤسسة المالية والاقتصادية العالمية، ثالثا، توريط النظام الجزائري وكشف مناوراته التي تهدف إلى تخدير الشعب وتضليله وتدجينه وتأطيره وفق ما يسمى بنظرية المؤامرة.
05)- اعتماد مبدأ التوارث، كقاعدة عامة تتبناها الجزائر، التي تشتغل الدعاية عندها وتنشط كما تنطلق دائمًا من ركيزة موجودة مسبقًا، سواء أكانت أساطير وطنية أو مجموعة من الأحقاد والأحكام المسبقة التقليدية وإذكاء نزعة الكره تجاه المغرب؛ يتعلق الأمر باختلاق الحجج القابلة للنشر والتي يمكن أن تتجذر في المواقف البدائية، كالاستناد على حرب الرمال ومواجهات أمغالا وحرب المغرب مع صنيعتها البوليساريو.
06)- مبدأ الإجماع. إقناع الكثير من الناس بأنهم يفكرون "مثل أي شخص آخر"، مما يخلق انطباعًا بالإجماع حول قضايا يتبناها النظام كالعداء للمغرب وضرورة نصرة للبوليساريو والإيمان الراسخ بعدالة "الشعب الصحراوي" وربطه بالقضية الفلسطينية. ففي السادس من ديسمبر من سنة 2021، الكل هلل في الإعلام الجزائري عن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كانت القيادات الجزائرية تنتظر إدانة للمغرب وتتوقع صدور تصريحات تأتي على هواها ظنا منها أن مائة مليون دولار التي سلمتها لرئيس السلطة الفلسطينية (الذي أودعها في البنوك الإسرائيلية) وطبلت لها في صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي ستكون كافية لذلك. وتكرر الأمر يوم 05 من يوليوز 2022، في الذكرى الستين من احتفالات عيد الاستقلال الجزائري، لكن هذه المرة بجمع أهم الفرقاء السياسيين الفلسطينيين محمود عباس واسماعيل هنية، وقد تبين في الأخير أن الجزائر لم يكن همها المصالحة بقدر ما كان غرضها أخذ الصورة والترويج على أنها تلعب دورا بارزا في القضية الفلسطينية، في حين أن المسألة مجرد ركوب على الشكل ونفاق سياسي مفضوح لوجه من أوجه التطبيع الجزائري المسكوت عنه (والذي سنناقشه لاحقا في مبدأ خلق العدو الأزلي) منذ عناق الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة لشيمون بيريز والتصريحات المسربة في وثائق ويكيليكس الصادمة للسفير الجزائري السابق بسويسرا إدريس الجزائري بتاريخ 13 ماي 2009، حيث صرح آنذاك "بأنه سيضع تفسه وبكل سرور في خدمة الإسرائليين في مفاوضات مؤتمر نزع السلاح...".
07)-مبدأ التفوق. كل الاخبار المُضلِّلة الصادرة من أبواق نظامها العسكري، مأخوذة بالبحث الكاذب والخادع والمضلل في كيفيات إظهار الجزائر كقوة إقليمية ضاربة ومحورية متفوقة على جيرانها، والحقيقة أن جل التقارير الدولية تضع الجزائر في ذيل ترتيب جودة الحياة وآخر تقرير أوردته المجلة الإنجليزية المرموقة The Economist في شهر يونيو 2022، جاءت الجزائر العاصمة في المرتبة الرابعة ما قبل الاخيرة في قائمة أسوء المدن للعيش في العالم مسبوقة فقط بدمشق ولاغوس وطرابلس.
إن وسائل الإعلام الجزائرية تدعي أن أقوى جيش في إفريقيا هو الجزائري وقد شاهد العالم وتيقن من زيف هذه الكذبة الكبيرة في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر الذي يصادف 05 من يوليوز من كل سنة، حيث تم استعراض خردة من الأسلحة والمعدات السوفييتية المتهالكة العتيقة الطراز التي تعود للربع الأخير من القرن العشرين، وفي إحدى الخرجات الإعلامية المرتبطة باجتياح جائحة كوفيد 19، صرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن أول منظومة صحية في إفريقيا هي الموجودة في الجزائر وذهب هو للعلاج منها في ألمانيا، كما أنه في ظهور أخر قال دون خجل أنه في وقت ما، كانت الجزائر تتحدث بلسان ثلثي دول العالم في الحرب الباردة وهي من أدخلت الصين إلى الأمم المتحدة... وبطبيعة الحال، هذا الخطاب يطال كل شيئ، ففي 08 يوليوز 2022، (وقبيل يومين من عيد الأضحى المبارك الذي يخلد الذكرى الأليمة للمسيرة السوداء التي طرد فيها النظام العسكري الجزائري الغاشم 350000 ألف مغربي من الجزائر في 18 ديسمبر من سنة 1975 كردة فعل على نجاح المسيرة الخضراء) خرجت قناة AL24 NEWS الجزائرية، بوثائقي أقل ما يمكن وصفه هو بالمهزلة لأنه لا يمت للواقع بصلة عنونته ب: "المغاربة في الجزائر..هروب نحو الحياة"، حيث جمعت بعض اللقطات المصورة الخارجة عن كل سياق مع التعليق الصوتي، وأجرت الحوار مع ثلاثة شبان حرفيين مغاربة (يشتبه في الثالث) تضلل به الجزائريين وتحاول إقناعهم بأن المغرب غارق في الفقر والمهانة وقلة الحيلة عكس رفاهية الطوابير التي توجد في الجزائر الغنية، وأن المغاربة يهربون من وطنهم إما لأوروبا أو للجزائر العظيمة بحثا عن حياة كريمة... وفي فضيحة أخرى لا تقل دناءة وصفاقة، انتشرت مؤخرا صورة غلاف لإحدى الرسائل الجامعية التي تقدمت بها طالبتان جزائريتان لنيل شهادة الماستر في قسم علم الاجتماع، فرع سوسيولوجيا العنف والعلم الجنائي عن كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة "الجيلالي بونعامة" بمدينة خميس مليانة، الواقعة على نحو 120 كلم إلى الجنوب الغربي للجزائر العاصمة، تحمل هذه الرسالة عنوان "تسول المرأة اللاجئة السورية في المجتمع الجزائري" وتحته عنوان فرعي "دراسة ميدانية لِـعَيِّــنة من اللاجئات السوريات في كل من ولاية الجزائر العاصمة وعين الدفلى". لقِيت سخطا واستنكارا واسعين بين النشطاء السوريِّين والعرب في مواقع التواصل الاجتماعي، وصلتْ ببعضهم إلى استعمال عبارات قاسية جدا ووردت رسالة نارية من الدكتورة والكاتبة السورية أحلام العظم يبكي لما كتبته الحجر، ليس فقط للطالبتين الجزائريتين بل للمسؤولين في الجامعة وللنظام العسكري الأبله الذي تدنت له الأخلاق إلى هذا المستوى الفج للسماح بمناقشة هكذا بحوث أكاديمية تستهزئ بمعاناة الشعب السوري العظيم الذي عاش الويلات جراء الحرب. إلى أي حد وصل انحطاط النخوة والعروبة بهذا البلد؟
وإلى أي مستوى سيصل إليه جنون العظمة والإحساس الكاذب بالتفوق في وسائل الإعلام الجزائرية الذين يروجون أن أول رواية في التاريخ جزائرية (الحمار الذهبي)، وأن أول إنسان جزائري، وأن أحب البلاد عند الله بعد مكة والمدينة الجزائر.
"مؤخرا، صار الإعلام المصري مصدوما مما يسمع ويرى في الإعلام الجزائري. يحاول أن يفهم كيف أن الحضارة المصرية بقديمها وحديثها تحولت- بقدرة قادر- إلى تراث جزائري. يخرج الكثيرون، دون أية ذرة نقص أو حياء يلفقون معلومات ويمررون مغالطات مثل: أن أولا لأهرامات في العالم جزائرية. ولم تكن لتفتح القدس إلا بقوة الجزائريين، وبنيت القاهرة وشيد الأزهر وحفرت قناة السويس بسواعدهم. إن الدعاية الجزائرية منذ نشأتها سنة 1962، تلصق كل صناعة مغربية متميزة ومشهورة ومعروفة لدى العالم بالجزائر. صار من البديهي في الدعاية الجزائرية أن كل عمل إنساني جميل أصله جزائري، وإن لم يكن كذلك، فلابد وأن يكون قد تأثر بالجزائر. وفي هذا الصدد، سنتكلم باستفاضة عن المفهوم المستحدث الجديد المعروف لدى المغاربة ب "الخنشلة"[2] -الذي صارت الجزائر وإعلامها يحترفانه منذ عقدين- في الجزء الخامس من هذا المقال الذي سنخصصه قريبا لمبدأ تزوير التاريخ. فكونوا في الموعد على موقع باب المغاربة.
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] روب براذرتون، عقول متشككة، ترجمة هاني فتحي سليمان، مؤسسة هنداوي، 2021، الصفحة.12
[2] الخنشلة: هي سرقة موصوفة دنيئة، ويمكن تعريفها بأخذ السارق الجزائري تراث المغاربة أو أي تراث آخر ونسبه إلى الجزائر، وبعدئذ نكرانه على أصحابه الحقيقيين بالدعاية والإشهار الكاذب والإسراع إلى طلب تسجيله في هيئات ومنظمات دولية كاليونيسكو والإيسيسكو وغيرها من المؤسسات التي تعنى بالحفاظ على التراث المادي واللامادي للدول.