د. عبد الدين حمروش - كاتب وباحث وأستاذ جامعي مغربي
صدرت للشاعر عبد الرحيم الخصار، مؤخرا، روايته الأولى "جزيرة البكاء الطويل". إلى الآن، مازالت ترافق الخصار صفة "الشاعر"، حتى وإن في سياق تقديم روايته المذكورة. بذلك، يكون الخصار آخر الشعراء المغاربة الذين التحقوا بالكتابة في الرواية. لماذا يهجر الشعراء الشعر باتجاه الرواية، ولو بشكل مؤقت أو عابر؟ وما عساهم يكونون قد أضافوا إلى فن الرواية؟ ما من شك في أن الإجابة عن السؤالين، وأسئلة أخرى يمكن افتراض طرحها، تحتاج إلى مُقاربة مُقارنة، ذات أوجه جمالية، سوسيولوجية وثقافية.
لم أقتن الرواية بعدُ، وإن بتُّ مُستعجِلا قراءتها. الاستعجال يأتي، هنا، بدافع ملامسة تجربة الكتابة الجديدة لدى الخصار، بعد أن خبرناه (إلى حد) شاعرا، كاتب مقالة ثقافية، وحتى ناقدا في أحايين قليلة أخرى. غير أننا، بعكس المجرى، الذي أضحت تحفره "جزيرة" الروائي، سنولي بوجهنا شطر الشاعر، وبالتحديد شطر آدم الذي عاد عودته. والواقع أنني لم اقرأ للخصار ديوانا كاملا، باستثناء ذلك الذي حمل عنوان "عودة آدم [1]"، في ظل بقاء قراءاتي السابقة له عند حدود نصوص متفرقة، كُتب لها أن تنشر هنا أو هناك.
استقر الديوان لدي أكثر من سنتين، دون أن أخط عنه ملاحظة واحدة. ويرتد ذلك إلى الاعتقاد، الذي وطّنتُ نفسي عليه، منذ ذلك الحين، في أن الخصار بحاجة إلى قراءة متأنية. مبدئيا، كل قراءة منذورة لأن تكون منشغلة بموضوعها الشعري. غير أن للخصار عنوانا آخر: في ما أضحى يكرسه من استمرارية شعرية منتظمة من جهة أولى، ومن حضور إشعاعي في المحافل الشعرية من جهة ثانية، ومن تنويه نقدي عبر ما كان يتوج به من جوائز أدبية من جهة ثالثة. هكذا، أخذ الشاعر يقترح علينا نفسه، باعتباره عنوانا عاما لجيل بأكمله. فعلاوة على أحمد بركات وعبد الإله الصالحي، من الشباب المتأخرين الذين أوقفت عليهم دراسات مطولة نسبيا، ينضج لدي الانطباع بأن ينال مني الخصار بعض الاهتمام القرائي بشعره.
كنت أشرت إلى مسألة "التكاملية" في "عودة آدم"، وإن قُصد بها فعل القراءة للمجموع الشعري، وليس غيره، حينئذ. هاهنا، أريد أن أقدم معطى عن الديوان، وهو احتواؤه نصا طويلا. هذا المعطى يؤول بالعمل الشعري إلى التوصيفة التالية: الديوان/ النص (القصيدة). بخلاف معظم الدواوين، وبخاصة المغربية، يعود إلينا آدم في نص واحد، استغرق صفحات عديدة (62 صفحة من الديوان). وباستثناء البياضات/ الفراغات، الموضوعة لإيقاف التدفقات الشعرية الهائلة، وبالتالي تمييز كتلة شعرية لاحقة عن كتلة أخرى سابقة، لا نكون إلا بإزاء نص واحد طويل وممتد. ما يظهر من انفصال بين الكتل، لا يبلغ حد منح أي واحدة منها وحدة "المقطع"، أي ذلك البناء الذي ينمو عبره النص الطويل مقطعيا. وللإشارة، فإن المقطعية، التي استثعملت في نصوص عديدة لدى الشعراء الشباب، أريدَ بها تحقيق وظائف مختلفة، من بينها:
- التحكم في هيكلة النص الطويل؛
- توزيع هذا النص إلى وحدات قائمة بذاتها (تشكل نصا متكاملا بنفسها)؛
- توفير قدر هائل من الشعرية، بتركيز العناية على "السقطة" الأخيرة.
بالنسبة إلى "عودة آدم"، وإن كانت تتخلله فراغات بين الكتل، إلا أنه لا يندرج ضمن النصوص "ذات البناء المقطعي". ذلك أن الديوان، بالطريقة التي بُني بها وعليها، يستوجب قراءة خطية (سردية). بالنسبة للقراء المُتعجِّلين، وهم يتصفحون الأسطر الشعرية، يمكن التوقف عند هذه الصورة الشعرية أو تلك. غير أن ما هو مسموح به لذلك النمط من القراء، نجده يمتنع على غيره من نمط القراء النقاد. والسبب يرجع إلى الديوان نفسه، بقيامه على سردية معينة، هي من صميم بنائيته المعمارية والدلالية. كيف ذلك؟ في البداية، ينبغي التنصيص على الإطار السردي لنص الديوان. فالشاعر، وهو يروي روايته، يتبنى، في الوقت ذاته، رواية أخرى. وإن شنا التمييز بين الروايتين، ذكرناهما متعاقبتين على النحو الآتي:
- رواية الكتاب المقدس (أو الكتب المقدسة): والموضوع، هنا، يتصل بقصة آدم وحواء، وخروجهما من الجنة. والملاحظ أن تفاصيل هذه الرواية لا تتعدى إشارات رمزية خاطفة، بالإحالة إلى خطيئة قطع التفاحة، من قبيل قوله في بداية النص:
أول رجل على هذه الأرض
أومأ للشمس وناداها باسمها
(..........)
كان يمكنني أن أبقى هناك
لكن يدي طالت شرك التفاح (ص:9)
أو قوله:
كنت أرعى بستانا من الأحلام
ثم خذلني التفاح (ص:44)
أو الإحالة إلى صراع الأخوين قابيل وهابيل، على طريق الاستمرار بارتكاب الخطيئة نفسها، مثلما يشير إلى ذلك قوله:
كان قابيل واحدا
ألقى الندم في بئر
ومضى (ص:31)
- رواية الشاعر: وفي هذه، ينتصب الشاعر راويا لسردية أخرى، من صميم ما يسمى "الخيال العلمي". العمل الشعري، هنا، يكاد يأخذ بمعظم ما جاء في الديوان من صفحات شعرية. الرواية الأولى مجرد "خلفية"، بينما الثانية هي "اللوحة". جانب الخيال العلمي لا يتعدى بعث آدم في زمننا المعاصر، ومن ثم جعله يتابع ما يجري (مُلاحظا، مُعلقا، نادما، مُتأسفا، مُدينا، إلخ). لنكتف بتسجيل سؤال آدم القوي هذا، في سياق كل ما يحتمله من استنكار (على الأقل):
إلى أين تمضي أيها العالم
وأنا الأب الأول لكل هذا الأبد؟ (ص:48)
آدم الأول من صنع مشيئة الإله، بينما آدم الثاني من بعث خيال الشاعر. في السردية الدينية، الأب آدم ارتكب خطيئة قطع التفاحة، ما استحق معه الطرد من الجنة. يقول الشاعر في سياق هذا المعنى:
ربما كانت عقابا
ربما كانت غنيمة حرب، لم أخضها (ص:17).
- أما في السردية الشعرية، وإن ظلت الإحالة إلى "الخطيئة" و"العقاب" قائمة، بصور رمزية متنوعة، فإن الخطيئة الجديدة لا تعدو قرار "تعمير الأرض" بالأبناء والأحفاد. هل كان القرار صائبا من قِبَل آدم؟ لنستمعْ إليه يُجبْ في هذه الأسطر:
ستمر القرون تباعا
سيحرث أحفادي هذه الأرض
وسيجنون نهاية كل صيف
غلالا من التّعب (ص:31)
تبدو الغاية من بعثة آدم الشعرية، "فتح عينيه" على المآسي المخلفة، عقب قرار تعميره الأرض بالأبناء والأحفاد. وأعتقد أن التحسيس بالندم، تمّ "تدفيع" آدم فاتورة قراره ذاك، عبر جعله يشاهد فظاعات العالم، في مختلف عصوره المتعاقبة. إن لم يكن الأمر عقابا، فالأمر أشبه بمحاكمة للأب الأول، اقتصرت فصولها على تلاوة بيان الجرائم المرتكبة، بحق الإنسانية والعالم أجمع. الشاعر يأتي إلينا بآدم، مُتحدثا إلينا باسمه عما يشاهد، في عودته هاته. يقول الشاعر/ آدم، وهو بصدد رصد بعض المفارقات من زمن المابعد، في مساحة شعرية مكثفة:
على الشاشة في المقهى
كانت القنابل تسقط
على رؤوس أحفادي
فيما الجالسون حولي يزرعون أبصارهم
في هاتف أو جريدة
يثرثرون حول المدافئ التي تعطلت
وطلاء الأظافر والقطط المريضة (ص:30)
وإن كان تصويب العدسة يتجه إلى الأزمنة المعاصرة، عبر ما باتت تضج به من حروب وكوارث، وأوجه بؤس اجتماعي، ومظاهر مدنية وارت الطبيعة والأصل، إلا أن عودة آدم كانت شاملة لمختلف فصول الزمن اللاحق، منذ أن استعاده ربه إليه. يقول الشاعر على لسان آدم:
فيمر الأحفاد تباعا أمامي
موسى وقد شق البحر بعصاه
ثم لم يتبعه أحد
يعقوب حين أعاد القميص
النور إلى عينيه
نوح وهو يضع العالم في سفينة
أديسون الذي أنار الكوكب ومضى
جوبا بعد أن سقطت نوميديا
من بين يديه
(إلخ)
وإن أقررنا باقتراف آدم خطيئتين، بعد حادثة التفاحة وتعمير الأرض، إلا أن البؤرة المركزية في السرديتين، معاً، هي: استمرار الخطيئة في الأجيال اللاحقة، بما يجعل الإنسان مجبولا على اقتراف الخطايا. قوله التالي، في سياق استعارة رمزية الصخور، يؤكد هذا المعنى:
الحرب التي ترج العالم الىن
دون طبول ورايات
بدأت بصخرة
(.............)
لكن الصخور ظلت تسقط تباعا
على جماجم العصور (ص:31)
في الديوان، تشتغل آليات شعرية متنوعة. إحجامنا عن الخوض في مردودياتها الجمالية، كان من ورائه الوقوف على "المنطق"، الذي اعتمده الشاعر في بناء دلالة الديوان ومعماريته. إلا أن من وراء المنطق نفسه، كان الخروج بهذا الاستنتاج العام: الخصار، وهو يستثير حساسيته الشعرية، إنما كان يتكئ على أساس من العقل. ولذلك، بدا طبيعيا ألا يضحي الشاعر بالمعنى لحساب الشعر. وبعبارة أخرى، الشعر يصير، هنا، في خدمة المعنى. وأتصور أن في هذا بعينه، أضحى الخصار يختلف عن كوكبة من شعراء جيله، الذين آثروا فعل التدمير (المجاني في الغالب) على عمل البناء. في الأمثلة الشعرية، المسوقة، أدناه، من مواضع مختلفة، ما يؤكد المقصود:
فمرت القرون تباعا
كما لو أنها قطيع من الأبقار البرية
تتدافع متعجلة لتغرق في النهر (ص:22).
- كانت نظرة المرأة
مثل زجاج تكسّر للتو
أما الطفل، فكان غصنا
في غابة ثلج (ص:27)
- كنت رجل السماء الوحيد
أومئ للضوء
فيغدو هضابا ووديانا تلمع
تهبُّ أنفاسي على شجر الخلد فيزهر
أمد يدي حين أسهو
وأمسك بنجمة (ص:43)
المراجع
[1] الخصار عبد الرحيم، عودة آدم، (شعر) الطبعة الأولى، منشورات المتوسط، إيطاليا، 2018