د. يونس البقالي - باحث في تاريخ الافكار والمؤسسات
1- الطرقية: جهاد في الذات وفي الآخر.
مما لا شك فيه أن الإسلام الطرقي لم يكن لينتشر بهذه الكثافة التي تُحدِّثنا عنها الوثائق، ولا أن تترسّخ الزوايا في المجتمعات القبلية والحضرية، لولا ذلك التغلغل الأوروبي السابق في البلاد الإسلامية بصفة عامة، والمغرب بصفة خاصة، «فالتسرب الأوربي كان أحد الأسباب الرئيسية في انتشار الزوايا وتعدّدها، إذ أثار بذلك حركة منظمة من ردود الفعل المعادية للحضارة المسيحية»[1]، بعدما ثم جمع كلمة المسلمين تحت راية الجهاد ضد الغزو الأيبيري، فلا أحد ينكر الدور الفعال الذي لعبته الزاوية الريسونية في توحيد قبائل الشمال الغربي للمغرب، وجمعها على كلمة الجهاد ضد البرتغاليين في وادي المخازن.
من هنا، جاء القرن التاسع عشر، بما شهده من التحركات والتسربات الأوربية في الأقاليم الإسلامية، ليذكر المغاربة بأحداث ماضية ارتبطت بالصدام ضد المسيحيين، أحداث كان لها أثر بالغ على الوعي الجمعي للمغاربة، وقد تولّد عن هذا الشعور الديني الرافض للحضور الأوربي في البلاد، مواقف رفض لكل ما هو أوروبي، وما زاد من تعميقه أكثر، النوايا الإمبريالية التي أظهرها الأوربيون في تحرّكهم خارج الحدود الأوروبية، ومن ذلك مسارعة فرنسا إلى احتلال الجزائر سنة 1830، وتغلغل الإنجليز في الهند... إلخ. فأصبحت بذلك علاقة الزوايا بالأوروبيين في بدايات تواجدهم بالمغرب يتحكم فيها محددين أساسيين: «حرب شاملة على المسيحيين في جميع الأماكن وفي جميع الظروف، والمعارضة الممنهجة لكل أشكال الابتكار»[2]، خاصة إذا كانت وليدة الفكر الأوربي المسيحي.
مهما كان حضور الماضي في الوعي الجمعي للمغاربة متشكِّلا بصورته التامة، فإن موقف الزوايا من التعامل مع الأوروبيين خلال القرن التاسع عشر قد تأرجح بين واقعي الرفض والقبول في ميادين شتى، غير أن الواقع التاريخي يشهد بأن التحديث الأوروبي ظل في إطاره النظري عصيا على عقلية المغاربة، لتعارضه مع المسلمات المفاهيمية التي رسّختها الزوايا في ذهنية العامة، خاصة وأن حضور المستعمر في دار الإسلام قد أحيا ذلك التوجه الجهادي، الذي استمرت مؤسسة الزواية في تضمينه داخل بنيتها الإيديولوجية الرافضة للاندماج في مفاهيم "الآخر الأوروبي المسيحي". إذا كان العقل الأوروبي قد وجد نفسه منغمسا في إعمال الجُهد العقلي، بالتفكير في الواقع المادي المحسوس، من أجل إعادة اكتشافه، واستيعابه علميا، ثم محاولة تمثيله تقنيا، وذلك في مسعاه نحو المجد التاريخي والقوة الحضارية، فإن الفكر الطرقي ألزم المغاربة بالنظر إلى هذه التحديثات التقنية، على أنّها من إنتاجيات العقل الظَّلامي، المنغمس في المادة والبعيد عن الطهارة الروحية.
فمهما اقترب العقل المغربي من واقع التحديث الأوروبي، ووقف على قوته المادية، إلا وجاهد في البحث عن مسوِّغات تبخس التقنية الأوروبية قدرها، وتعلي من قدر العقل المأخوذ بالأمور الروحية، والمنشغل بالتفكير في الغيبيات. وفي هذا الصدد نجد الطاهر الفاسي[3]– أحد أفراد البعثة السفارية إلى الديار الإنجليزية سنة 1860م[4]– لحظة معاينته لواقع القوة المادية والتقنية التي أصبح عليها الإنجليز بفضل العقل التجريبي، ينكر على هؤلاء انشغالهم بالأمور المادية، وتفرغهم لتطويرها، كما يبخس التحديثات الأوروبية قدرها مهما بلغ انبهاره بها. ومن ذلك أمر إحداث الإنجليز للطاقة البخارية، إذ أن سبب إحداثهم للمركب البخاري في نظره، هو أن «صبيا كانت بيده ناعورة صغيرة من – كاغيد[5] - فجعلها متصِّلة بجُعَب في فم – بقرج[6] – على نار، وبعد اشتداد غليان الماء فيه، فجعلت تدور بقوة ذاك البخار فرآه رجل فتعجّب واستنبط هذا - البابور[7] – المعروف بعقله الظلماني»[8].
يبدوا من قوله هذا أنه – أي الطاهر الفاسي – يسترخص الفكرة والتقنية معا، ولا يأل جهدا في التمييز بين "الفكرة" كمصدر للإلهام، و"التطبيق" العلمي والتقني لها على أرض الواقع، كممارسة تتطلّب تمكنا وتخصّصا علميين، ومدة زمنية ليست بالقصيرة، بالإضافة إلى الجهد المادي والتنظيمي للعمل من أجل إنجاح مثل هذه المشاريع التقنية الضخمة في زمنها. ولابد أن الرجل إذ ينحوا هذا المنحى في تفسيره للتحديثات التقنية الأوروبية، فإنه بذلك يكشف عن جهله بالمنهج الإمبريقي الاستقرائي الذي يتطلّب من صاحبه إخضاع الممارسات العلمية لمراحل تتدرّج ابتداء من الفكرة والافتراض، قبل أن تصل إلى النتائج. كما أنه إذ يجتهد في نقله للواقع الأوربي، فإنه يبني نظره على أساس ما تلاقاه من تكوين وتنشئة ينهلان من المعرفة الفقهية والصوفية السائدة في عصره، ولا مجال هنا لأن يصير التاريخ عرضا للحكم بمنطق العصر الذي ننتمي إليه.
بدل أن يستوفي الرجل "القوة البخارية"[9] حقّها من الشرح باعتبارها عجلة تحريك الاقتصاد الأوروبي آنذاك، فإنه سرعان ما يتوقف عند حدود الفكرة التي شكلت فقط مصدرا لاستلهام التقنية. ويمضي بعد ذلك في التفسير موضحا موقفه الفعلي من التقدم العلمي والتقني الذي كان يشهده الغرب الأوروبي، وهو موقف رافض بطبيعة الحال لما ينتجه العقل الحديث الغارق بالخوض في الأمور المادية، على العكس من العقل المتنوّر المأخوذ بالأفكار الروحية. فالعقل عند الطاهر الفاسي على قسمين، «ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية، ويزيدهم ذلك توغّلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المومن المسائل المعنوية»[10].
ومما زاد من تعميق هذا الفهم الجمعي للكون والطبيعة، والنظرة الموحّدة للمعرفة، تكريس الزوايا لتلك الاعتقادات، وترسيخها لها في ذهنية العامة، من سكان البوادي والحواضر على السواء. فانساق بذلك المجتمع المغربي للتوجه الذي سار عليه الفكر الطرقي، ومال إلى التشبث بالغيبيات، في صورة تبدو وكأنها محاولة للهروب من مواجهة تحديات العصر التي جاءت ثقيلة ومتسارعة، وبعيدة عن المألوف.
من البديهي أن حلول الأجنبي مرة أخرى في المغرب خلال القرن التاسع عشر، يعدّ من بين أهم العوامل التي أثّرت على صيرورة الأحداث في البلاد المغربية آنذاك، وأحد المحركات الأساسية للتحولات الكبرى التي شهدها المشهد التاريخي المغربي. ولعل ظهور الأوروبيين على ساحة الفعل المغربية، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنتج مخاضا تاريخيا عسيرا كان لا بدّ للزاوية أن تكون طرفا فيها، ما دامت بنيتها أحد العناصر الأساسية التي أطّرت ووجّهت منذ زمن بعيد تاريخ المغاربة.من هنا، طفت على سطح الأحداث زوايا حديثة التكوين، أفرزها واقع المرحلة الذي تميّز بسياق تاريخي تغيّرت فيه قواعد الفعل، وتخلخلت فيه طبيعة العلاقات التي جمعت فيما بين المكوّنات المغربية. وكنتاج للمخاض الديني والسياسي الذي تعاظمت حدّته خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استطاعت الزاوية الكتانية أن تبرز على مسرح الأحداث عندما تمكّنت من احتواء جوانب من الخطاب السلفي وأدمجته في تشكيلة خطابها الديني، كما فرضت نفسها بقوة في ميدان التجاذب السياسي حينما حاولت مواجهة تحديات العصر، والخوض في الإشكالية المتعلقة بما يجب أخذه أو تركه عن الأوروبيين.وإذا كانت الزاوية الكتانية قد تأخر ظهورها في المغرب، وجاء صعودها في وقت ترسّخ فيه التغلغل الأجنبي في البلاد، فإن الزاوية الدّرقاوية تعتبر من بين الزوايا التي منذ البداية «تحرّكت في بنيتها آليات المقاومة وأعادت ربط المجتمع المغربي [...] بتاريخه المحلي»[11]، حتى سمي القرن التاسع عشر «بقرن الزاوية الدرقاوية مثلما سمي القرن الثامن عشر بقرن الناصرية»[12]. فكيف تعاملت الزاوية الدرقاوية ومريدوها مع الواقع التاريخي الجديد؟
عادت الزاوية للظهور بشكل نوعي خلال القرن التاسع عشر، خاصة مع بروز أشكال التغلغل الأجنبي في البلاد، هذا التسرّب الذي رافقه انتشار واسع للتحديثات الأوروبية، ومظاهر الحياة المادية بين شرائح المجتمع المغربي الحضري على الخصوص، وهو ما شكّل دافعا قويا في اتّجاه صعود نجم بعض الزوايا، وتنامي إشعاعها، ومنها الزاويتين "الدّرقاوية" و"الكتّانية" اللّتان نجحتا في إظهار مواقف معارضة للاستعمار والتسرّب الأجنبي، والإجهار بمعاداة الحياة المادية الأوروبية.
وإذا كان ردّ فعل الزوايا على الأوضاع التاريخية التي آلت إليها البلاد آنذاك، يُعبِّر في مظاهره العامة عن شكلٍ من الإرادة المستقلة في التعامل مع الأحداث، فإنه لا يعكس توحّدا في النظرة إلى الأجنبي الدخيل، وتنسيقٌا للمواقف إزاء الوضع الجديد، بقدر ما يعكس ذلك التشتّت والتنافي الذي صار قائما بين توجهات الزوايا في تعاملها مع الآخر الأوربي، ومظاهر التحديث التي رافقت حضوره في البلاد.
2- الدرقاوية: طريقة رفض الماديات:
بعدما برهن العلماء والأولياء في وقت سابق على فعالية قوية في مواجهة الأيبيريين ونقل المغرب من حالة الفوضى إلى حالة سيادة الدولة، حينما تمكّن السعديون من إعادة الاستقرار إلى البلاد، فإن الحركة الصوفية الطرقية ما لبثت خلال القرن التاسع عشر بصفة خاصة، «أن برزت مرة أخرى كقوة شعبية اكتسحت المدن والسهول والجبال واستقطبت العديد من المثقفين الذين تبوؤوا فيها مركز القيادة الروحية وحتى السياسية»[13].
لقد كان للزاوية الدرقاوية وتحركها التاريخي المناهض لجميع مظاهر التخاذل تجاه الاستعمار، دور كبير في تحريك المجتمع المغربي نحو وضعٍ رافض للتغلغل الأوروبي في البلاد. فبقدر ما ساهمت الرسائل التي ألّفها شيخ الزاوية العربي الدرقاوي في أواسط القرن التاسع عشر، ودعواته التحريضية، في «إثارة أتباع حركته بالجزائر ضد الاحتلال الفرنسي»[14]، فإنها بطبيعة الحال أجّجت في نفوس المغاربة جميعهم مشاعر الكره ضد الأوروبيين المتواجدين في البلاد، وأَنْكَرت عليهم بالتالي إقبالهم على المستجدات التحديثية وليدة الفكر الأوروبي.
من الواضح أن الدرقاوية قد التزمت بنوع من المرونة في علاقتها بالسلطة المركزية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعدما كانت وراء سلسلة الأحداث التاريخية التي شهدها الأطلس المتوسط خلال النصف الأول من هذا القرن، والتي أثرت على علاقة قبائل المنطقة بالمخزن المركزي. توارى الدور السياسي للزاوية الدرقاوية عندما قَلَّصت من انشغالاتها بشؤون الحكم والسياسة، ورَكَنت إلى تبنّي سلوكيات تُشجّع مريديها على الهدوء، واختيار الخلوات، والابتعاد عن النزعات المادية في عصرٍ بدأت تتعاظم فيه معالم الاقتصاد النقدي، وفضاءٍ تسرّبت إليه، ولو بإيقاع بطيء، المنتجات التقنية والسلع الأوربية. فكان لابد للطريقة، وهي التي تنهل في مبادئها العامة من المنابع الروحية والزهدية الأولى للتصوف، أن تحيي مشاعر الرفض لكلّ ما يتّصل بالواقع المادي، فبالأحرى التحديثات الأوروبية.
الحق أن صعود نجم الزاوية الدرقاوية على سطح الأحداث التاريخية لمغرب ما قبل الحماية، شكّل أحد أبرز عوامل الحركية السياسية والدينية للمجتمع المغربي خلال هذه الفترة. هكذا، نجحت الزاوية إلى حد كبير، في تشكيل معالم المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، كما فتحت المنافذ لبروز مظاهر الممانعة ضد أنماط السلوك المادية التوّاقة إلى الإقبال على سلع الترف، والمتعطّشة إلى المنتجات التقنية الأجنبية، وإن ارتبطت معظم مظاهر الحياة المترفة بنخب محدودة في حواضر بعينها.
من هنا يمكن الوقوف على مجموعة من التجليات التي تعكس طبيعة استجابة الطريقة الدرقاوية لمعطيات العصر. فمن ذلك لجوء الزاوية إلى اتخاذ أيقونات ورموز، أقل ما يُقال عنها أنها تَمظهر للصورة الشعبية التي تنزل إلى مستوى العوّام، وتمثُّل للتصوف في منابعه الروحية البدائية بمظهره الزُّهدي. ومنها «لَبْس المرقعة والتصريح بجواز لبسها من صوفي لآخر»[15]. ولعل مثل هذا التوجّه في الظهور، والذي اختارته الزاوية الدرقاوية، إنّما يحمل دلالات عميقة بالنسبة للزاوية، فهو أحد أشكال «التحدّي ماديا ومعنويا ضد التغلغل الاستعماري»[16]، وتعبيرٌ صريح عن رفض كل ما يَمتُّ بصلة بالحياة المادية الحديثة، وصدّ لجميع أشكال الحياة المترفة.
لقد اختارت الزاوية الدرقاوية النزول إلى الناس، والخروج عن تحكّم السلطة المركزية، ومناهضة الاستعمار، مُشكّلة بذلك حالة استثناء بين الزوايا الأخرى. ومما ساعدها على هذا التوجّه، عدم خضوعها للآليات المؤسساتية المتمحورة حول المركزية كما هي العادة بالنسبة للزوايا الأخرى، «حيث أن فروعها تحركت كل حسب موقعه الجغرافي، وحاجياته وإمكانياته ثم حسب الآليات التي يختزنها تاريخه المحلي. بهذه الصيغة أصبح المحلي هو الذي يحكم ويوجه الكوني/الإسلامي، عكس ما كان حاصلا في بنية الزاوية الناصرية أو التيجانية»[17]، والزوايا الأخرى التي يغلب عليها الطابع المركزي في تدبير شؤون الطريقة، والتعامل مع الفروع.
من المتفق عليه أن ردود فعل المغاربة تجاه التسرب الأجنبي، ومنه مظاهر الحياة المادية الأوربية، جاءت مشتتة غير منضبطة لخطة محكمة أو استراتيجية واضحة في المواجهة، غير أن القاسم المشترك بين جميع هذه الأعمال هي أنها مظاهر مقاومة مشبعة بروح جهادية ضد أوروبا في صورتها القروسطية، وليس ضد أوروبا في شكلها الحديث. ومن الواضح أن الزاوية الدرقاوية كان لها دور في إذكاء هذه النزعة الجهادية، والاتجاه بها نحو صدّ وردّ أي استجابة في الداخل لمظاهر التحديث الأوربية، فبالأحرى الحضور الأجنبي.
لقد جاء ردّ الفعل الطرقي تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية غير السَّوية التي ميزت تاريخ مغرب القرن التاسع عشر، متّسما بأنواعٍ من الكرامات والخوارق الغيْبية التي كان المغاربة يجدون فيها ملاذهم الروحي واستقرارهم النفسي، هروبا من جحيم الصّدمة التي أحدثها التفوق الأوروبي، واستنكارا لمظاهر الحياة المادية الحديثة التي ما فتأت تنتشر بين شرائح المجتمع المختلفة.وكان لازدهار التأليف في مجال التصوف، أثره العميق في تصريف الإنتاج النظري والعقلي لمغاربة هذه الفترة، نحو عوالم الكرامات والروحانيات البعيدة بطبيعة الحال عن تمثّل روح المفاهيم التي جاءت بها الحداثة كما تطورت في أوروبا. وهكذا انتشرت حركة التأليف في التصوّف الطرقي بشكل واسع، وشمِلت المؤلّفات الصوفية أبوابا متعددة. ولمّا كان الإنتاج غنيا إلى درجة كبيرة خلال القرن 13هـ/ 19م، فقد نشأ «صراع خافت أحيانا وحاد أحيانا بين الطرق، لاسيما الكبرى، وهو يبدأ من التنافس على احتواء أكثر ما يمكن من المتعاطفين، وإنشاء أكثر ما يمكن من الزوايا، وتوضيح الطريقة بواسطة نشر المذكرات والمؤلفات»[18]. وانتشرت كمثال على ذلك رسائل العربي الدرقاوي على نطاق واسع و«تداولها المثقفون حتى طبعت على الحجر بفاس»[19]. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدلّ على الأهمّية التي حظي بها التصوّف الطرقي بصفة عامة، والانتشار الكبير للمبادئ التي قامت عليها الطريقة الدرقاوية بصفة خاصة.
انشغل المغاربة كثيرا بالتصوف الطرقي الشعبي، ووجدوا فيه منهلا لإنتاج سلوكياتهم، وملاذا روحيا لتحقيق توازنهم الوجداني والروحي، وإطارا تنظيريا لتأطير ذهنيتهم وخلق المفاهيم الكفيلة بإعطائهم معنى للوجود والواقع، ومرجعا لتشكيل تمثّلهم وتصورهم للكون والطبيعة. وهكذا، بلغ انشغال المغاربة بالتصوف في منحاه الطرقي ذروته خلال القرن التاسع عشر، وجاءت الدرقاوية تعكس الطبيعة الوجدانية والسلوكية والذهنية لكثير من المغاربة خلال ذلك الزمن.
لقد لعب الفكر الطرقي عموما، والمرتبط منه على وجه الخصوص بالزاوية الدرقاوية، دورا كبيرا في تعميق إيديولوجيا الجهاد، والمقاومة الشعبية ضد التغلغل الأجنبي. كما شكّل سدّا منيعا، تشرّبت بمفاهيمه الصوفية وأنماط سلوكه الزّهدية، الذهنية المغربية، فاستعصى على مفاهيم الحداثة الأوروبية بالتالي، وإنزالاتها التحديثية، اختراق الوعي الجمعي للمغاربة، وتجاوز مفاهيمه التقليدية، وصار عصيا البحث عن مجالات لتأطير الذهنية المغربية، وتصريف سلوكياتهم باتجاه قبول فكرة التحديث، سيما إن كان هذا الأخير واردا من أوربا. فعاد بذلك من باب القاعدة، لا الاستثناء، أن تسوغ الذهنية المغربية السائدة لنفسها مسوّغات، تُبرر بها جميع أنماط السلوك والتفكير الرافضة لمظاهر التحديث الأوروبية، بعدما تمكّن الأوروبيون من اختراق العمق الجغرافي المغربي، ولم يَعُد وجودهم حبيس المجالات الترابية المتاخمة للموانئ التجارية.
وإذا كانت بموازاة الأعمال المسلّحة أحد أشكال المواجهة التي خاضها المغاربة ضد تغلغل الأوروبيين في تراب البلاد، فإن اللجوء إلى «الذكر وقراءة الدعوات»[20] من بين ما اشتدّ اللجوء إليه في فترات المحن، باعتبارها أحد مداخل الجهاد ضد النصارى، كما أنها قنوات لترسيخ شُحنات روحية في نفوس المغاربة، وتثبيت عزائمهم، وتهييئتهم وجدانيا لتبنّي مواقف الرفض والممانعة تجاه كل ما يأتي به الأوروبيون.
لقد مَنَع الانتعاش الصوفي الكبير الذي ساهمت فيه الزاوية الدرقاوية بقدر بالغ الأثر خلال القرن التاسع عشر، أية إمكانية لقراءة الآخر الأوربي في إطاره التاريخي الحديث، وتعذر بذلك تحيين نظرة المغاربة لأروبا، وللتاريخ، لتستمر المحددات التي تحكمت في العلاقة بين الطرفين خلال العصور الوسطى والحديثة حاسمة في توجيه الاستجابة تجاه كل ما يصدر، ويأتي من أوروبا. فأمام الواقع المادي الذي بدأت معالمه في التشكُّل بين ثنايا المجتمع المغربي في ظل تسرّب مظاهر التحديث الأوروبية، ونتيجةً لقوة الصّدمة التي أحدثها التفوق التقني الأوربي في نفوس المغاربة، أصبحت التربة خصبةً لنمو أشكال الممانعة تُجاه كل ما هو مادي أو يمتّ بصلة للتقنية الأوروبية.
من هنا يمكن تفسير التغلغل الواسع لسلوكيات الطريقة الدرقاوية بين شرائح المجتمع المغربي خلال القرن التاسع عشر. هذه السلوكيات التي حاولت التمظهر بمظهر الفقر والمَذَلّة، والميل إلى الابتعاد عن الخلق، بغاية التقرب من الخالق. فارتبطت نِتاجا لهذه الأفكار بمظاهر زُهدية صارمة، ومنها «تعرية الرأس والمشي بالحفا والسؤال بالأسواق والجلوس على المزابل مع الحذر من النجاسة والرقاد بالطريق وحمل القربة على الظهر وإعطاء الماء لله»[21].
ورغم التصدّي الذي لقيته الطريقة من طرف الفقهاء ورجال السلطة المخزنيون، فإن ذلك لم يمنع من انتشارها وتزايد أتباعها في جميع أنحاء البلاد. ويمكن اعتبار انتشار مثل هذه السلوكيات المُغرقة في إذلال الذات والبعد عن الواقع، بمثابة ردّ فعل على الزحف الاستعماري المادي، والذي لم يتأتّى للمغاربة استيعابه بشكل سريع.
هذا ونسجل أن الدرقاوية بقدر ما ناهضت الانغماس في الواقع المادي، وصدّ المغاربة عن الإقبال على مظاهر الترف والحياة الحديثة، فإنها ناهضت بشكل من الأشكال، «بعض الطرق التي كان مشايخها أكثر تَرَفا وأقلّ مَيلا إلى التجرّد الكلّي كما هو شأن الطريقة الوزانية»[22]. لأنها إلا حدّ بعيد، اعتبرت العمل الروحي «سلاما نفسيا وعقائديا في مواجهة التدخل الاستعماري»[23].
وإذا كانت الزاوية الدرقاوية بأدبياتها ومفاهيمها، تعبيرٌ صريحٌ عن الحالة الذهنية والسلوكية التي كان عليها المجتمع القبائلي بمغرب ما قبل الحماية، فإن الطريقة الكتانية نِتاج للمخاض الديني الذي ما فتئ يتعاظم بالحواضر المغربية عموما، والعاصمة العلمية فاس على الخصوص، حينما فرض التيار السلفي نفسه في الساحة الدينية، واستطاع أن يتجاذب الهيمنة على الحقل الديني وينازع الفكر الطرقي في ذلك. من هنا كانت الكتانية إطارا لاندماج التوجهين السلفي والطرقي، في محاولة منها لمواجهة تحديات العصر، والبحث في أسباب تأخر المسلمين، والخوض في الإشكالية المتعلقة بما يجب أخذه أو تركه عن الأوروبيين. فكيف كانت نظرة الكتانية للمستجدات التاريخية؟ وكيف جاء موقفها من التغلغل الأوروبي في البلاد، وما رافقه من تسرب لمظاهر الحياة الحديثة؟
الإحالات المرجعية والهوامش
[1]Alain QUELLIEN, « La politiques musulmane dans l’Afrique occidental Française » EMILE LAROSE, Libraire-éditeur, Paris, 1910, P : 158.
[2]Ibid. P: 161.
[3]هو أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمان بن محمد الرضى بن محمد بن الطاهر بن يوسف بن محمد أبي عسرية بن علي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي، ولد بفاس سنة1246هـ/1830م وتوفي بها وهو لم ينهي عقده الرابع في سنة 1285هـ/ 1868م. درس بها وبعد انهاء دراسته عيّن في القصر الملكي من جملة كتابه. انظر: محمد الفاسي في تحقيقه ل"الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية"، جامعة محمد الخامس، 1967، ص أ.
[4]تأتي سفارة الطاهر الفاسي إلى انجلترا في خضم المخاض الدبلوماسي والسياسي الذي كان يمر منه المغرب خلال أواسط القرن التاسع عشر، نتيجة تزايد الضغوط الاستعمارية عليه من طرف القوى الإمبريالية الأوروبية التي تنامت أطماعها في المغرب بشكل غير مسبوق، خاصة بعد هزيمتين عسكريتين تعرض لهما الجيش المخزني. كما أنها تزامنت وبداية حكم السلطان محمد الرابع (1859 – 1873م)، الذي سارع إلى القيام بتحديثات مسّت الجانب العسكري بشكل كبير، وميادين أخرى بشكل أقل.فمباشرة بعد توليه الحكم، عمِل محمد بن عبد الرحمان على إرسال سفارتين إلى كلٍّ من فرنسا وإنجلترا في السنة نفسها، أي في 1860م. وإذا كان قد بعث بوزيره إدريس بن محمد بن إدريس العمراوي إلى فرنسا في ظل حكم نابليون الثالث، فإنه أيضا قام بإرسال سفارة موازية إلى ملكة إنجلترا فيكتوريا، «والتي كلّف بها الأمينان الحاج عبد الرحمان العاجي ومحمد الشامي ومعهما الكاتب محمد الطاهر الفاسي»
[5]هو المصطلح الذي كان يُسمّى به الورق آنذاك.
[6]هو الإناء المخصّص لغلي الماء من أجل إعداد الشاي – أي الأتاي بتسمية تلك المرحلة – والكلمة في أصلها تركية.
[7]هو المصطلح الذي كان يطلق كتسمية على المركب البخاري.
[8]أبو الجمال محمد الطاهر الفاسي، "الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية"، تحقيق وتعليق: محمد الفاسي، سلسلة الرحلات 3 سفارية 2،جامعة محمد الخامس، فاس، 1967، ص ب.
[9] لا ننسى أن اكتشاف القوة البخارية سيفتح الباب في أوروبا للانتقال إلى اعتماد الطاقة البخارية بدل العناصر الطاقية التقليدية، إضافة إلى أنها مهدّت لاستخدام الفحم الحجري والحديد بكثافة وتدخلت في اختراع السفن والقطارات البخارية، بل إنها اعتبرت، إلى جانب التحوّلات التقنية التي شهدها قطاع النسيج، المحرك الرئيس للثورة الصناعية الأولى التي امتدت من 1760م إلى 1850م.
[10]نفسه، ص 28.
[11] نور الدين الزاهي، "الزاوية والحزب، الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي"، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2003م، ص 8.
[12]نفسه، ص 8.
[13]إبراهيم حركات، "التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية"، دار الرشاد الحديثة، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 1994م، ص 268.
[14] ص 59.
[15]نفسه، ص 63.
[16]نفسه، ص 65.
[17] نور الدين الزاهي، "الزاوية والحزب ... "، مرجع سابق، ص 10-11.
[18] إبراهيم حركات، "التيارات السياسية والفكرية... "، مرجع سابق، ص 268، 269.
[19]نفسه، ص 269.
[20]نفسه، ص 65.
[21]نفسه، ص 64.
[22]نفسه، ص 65.
[23]نفسه، ص 65.