JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Accueil

الموت والمحبة، مقتطف من رواية قادمة "رسائل الأرواح: مائة وستون عاما من العشق" للدكتور السعيد الفلاق


 




        الموت يعرفني وأعرفه، أطل علينا في الأسرة قبل ازديادي، ثم عاد مرات ومرات ليتخطف من قربي إخوانا وأخوات ظلت أرواحهم معنا رغم رحيلهم المبكر. مات أخي عبد العالي قبل مجيئي للدنيا، ورغم أنني لم أره فقد أصبح جزءا مني منذ الطفولة الأولى. كنت أحكي لأبي عن بطولاتنا معا، أشهر قصة كنت أحكيها كانت قصة الطائرة الغريبة التي اعترضنا سبيلها وأسقطناها وغنمنا ما بها من حلويات وبسكويتة ومعلبات سمك ومشروبات غازية، وكيف هددنا أصحاب الطائرة بمسدسنا التقليدي لنجعلهم يفرون بعيدا. كان أبي يفهم أنني أرغب في بعض الغنائم من دكانه الصغير. كان يناولني ما أرغب به ثم يمكنني من طلقة بالمسدس اللعبة الذي كان يطلق شبه نار باستعمال مفرقعات فلينية، ثم يعدني باستعمال بندقية الصيد عندما أكبر. هكذا تحول أخي الأكبر، الذي لم اره يوما، إلى سند وصديق أشد به ازري وأشركه في أمري وأتباهى به مع أقراني. عاد الموت ليتخطف أخا ثانيا جاء للحياة سنوات بعدي. كان طفلا جميلا بوجه كالقمر. لسعته حشرة ما في إحدى قدميه. لم نعرف إلا بعد تفحص جسمه الغض لنجد أثر لسعة يحيط بها لون أزرق في رجله اليمنى. أذكر كيف كان المشهد مؤلما، وكيف كان يخرج أبي من البيت ثم يعود ويسأل أمي وجدتي وأختاي فاطمة وفضيلة عن محمد، يجبنه بأنه مات، يدخل إلى غرفته، ينظر إليه، يعانقه ويبكي بحرقة وبصوت مرتفع، تحمر عيناه، تبتل وجنتاه بالدموع، يرتفع وينخفض صدره شهيقا ونحيبا ثم يصرخ: "آه يا ولدي". يغلق الباب، يمسح دموعه، ينظر إلينا ثم يقول: "محمد لم يمت، أنا خارج الآن وسأجده يلعب بينكم حين أعود". ثم يخرج ويعود ويكرر نفس الشيء . امتدت حركات الدخول والخروج والبكاء والنكران من الثلث الأخير من الليل إلى بزوغ نور الصباح. كنت أتشارك مع أبي، بأمل الطفل الذي كنته، في انتظار خروج محمد من الغرفة والقفز بيننا كعادته. خافت جدتي على ابنها من الجنون بسبب ذلك. خرجت مسرعة وعادت برفقة عمي أحمد. أمسك عمي بيد أخيه ثم دخل معه إلى حيث يرقد محمد على فراشه الدنيوي الأخير. حمله بين يديه، تأكد أنه ميت، وضعه في حجر أبي، عزاه وضمه إلى صدره وقال له: "محمد مات يا أخي، آجرك الله وألحقنا الله به مسلمين، تقبل أمر الله يا أخي، كلنا لها، ما الدنيا إلا عبور إلى دار البقاء، لا إله إلا الله ولا باقي سواه". سلم أبي بالأمر، دفن محمد ظهرا، لدى عودتهم من المقبرة أفصح أبي لأمه عن سر صدمته الكبيرة قائلا: "لقد كان محمد صورة طبق الأصل للصورة التي تشكلت في ذهني عن أبي، وأنا لا أريد أن يموت أبي". توالت زيارات الموت لبيتنا، بين عبد العالي ومحمد ولدت أمي طفلة ميتة وماتت أختي الزهرة التي كانت تصغرني بسنتين تقريبا. دفنتا جنبا إلى جنب مع عبد العالي فيما دفن محمد على يمين قبر جدتي منانة التي توفيت قبله بأقل من شهرين وكانت أوصت قبل وفاتها بأن يدفن أول طفل يموت من العائلة على يمينها تعبيرا منها على محبتها للأطفال وتوقعا ونبوءة منها عن قرب أجل أخي محمد. رغم أنها لم تفصح عنه بالاسم إلا أن نظراتها المطولة إليه وهي تقول نبوءتها كانت كافية لالتقاط الإشارة. لا زلت أزور قبره وقبرها والقبور الصغيرة الثلاثة لإخوتي كلما زرت القرية. أصبح الموت جزءا من حياتنا، عشته بمجموعة من الأحاسيس والمشاعر القوية، الحزن وألم الفراق ممزوجان مع تقبل القدر وأمل اللقاء. أدركت أننا حين نموت لا ننتهي بل ننتقل من حياة إلى حياة أخرى بمعالم وأبعاد مختلفة. ربما كانت هذه النظرة هي من خففت من فجائية الموت، وربما تكراره ومرافقته لي منذ الولادة. يوم عقيقتي توفيت زوجة جدي لأمي. احتارت الأسرة، التي كانت قد أعدت كل شيء للعقيقة، هل تقيم الحفل أم تؤجله؟. كان خبر الوفاة قد وصل فجرا من قرية تسلاغوة. أسرع أبي إلى أخوالي لاستشارتهم. دون تردد أفتاه خالي احميدو، الذي كان فقيها، قائلا: "سم ابنك وافرح به، فمنذ القدم هناك من يولد وهناك من يموت، الحزن والفرح يتعايشان في الدنيا يا صهري، فلا حرج عليك، لا تحرم ابنك من عقيقته". عزاهم أبي ثم عاد مسرعا لإقامة العقيقة. منذ طفولتي الأولى ترعرعت على حكايات الموت. حكاية جدي سي بوشتى وجدي سي احمد، وحكاية أخي عبدالعالي وأختي الزهرة والمولودة التي ماتت قبل أن تحمل اسما، ثم موت أخي محمد الذي شهدته بكل جوارحي. انتقلت من السماع عن الموت إلى رؤيته. رأيت كيف كان أخي محمد بيننا، ثم بين مساء يوم وفجر يوم آخر رحل إلى دار البقاء، وكيف عاشت الأسرة تلك اللحظات الدرامية والأيام المأساوية، وكيف كانت الصدمة قوية على أبي الذي رفض تصديق الأمر. بعد ذلك مات الأعمام تباعا مع سنوات قليلة بين رحيل كل واحد منهم. مات عمي أحمد ثم عمي محمد على فراش المرض، تبعهما عمي العربي بحادثة سير. عمي عبد السلام هو الوحيد الذي توفي عن سن متقدمة وقد زرته ساعات قليلة قبل وفاته. أما الآخرون فقد رحلوا بين الستين والثمانين. توفي عمي الخمار متأثرا بمرضه بمدينة القنيطرة. بوفاة كل هؤلاء ألفنا الموت وألفناه. فقد الموت فجائيته دون أن يفقد جرعات الحزن وألم الفراق. تساقطت فروع شجرة الشيخ تباعا، كل فرع ترك غصونا تكمل مسيرة الأوراق والثمار. كان العزاء في موت كل عم أنه ترك أبناء بررة بعده يبقون روحه بيننا ويذكروننا به في كل لقاء. لكن تجربتين اثنتين كانتا أكثر درامية وأكثر تأثيرا وأقوى وقعا في المشاعر المرافقة لموت الأحباب، إنهما وفاة جدتي منانة ووفاة عمي إدريس. عمي إدريس عن سن ناهزت الاثنين والثمانين سنة نازع لأكثر من أسبوع مضاعفات ضربة على رأسه تلقاها بعدما انفصل به غصن كان قد صعد فوقه لجني ثمار التين. كان رجلا نشيطا حريصا على القيام بأعماله بنفسه. صبيحة يوم من أيام شهر يوليوز كان قد ذهب إلى غرسة العوينة السخونة ليجلب بعض ثمار التين لأل بيته فسقط أرضا بعدما انكسر غصن الشجرة التي كان قد صعد عليها ليلتقط حبات التين الواقعة في أعلى الشجرة. مات بعدما لم يفلح الطب في إيجاد علاج لآثار الضربة التي تلقاها برأسه بعد ارتطامه بالأرض. مات عمي ادريس وهو بين أحضان الطبيعة إلى آخر أيامه. مات وهو لا يزال يعشق التراب والشجر ويعتني بغرساته ويقضي حاجاته بنفسه. اعتبرته الأكثر وفاء لذكرى الجد ووصاياه. لقد مات واقفا فوق الشجرة. كان آخر شيء قام به في الحياة هو صعوده فوق شجرة التين لجني الثمار. لم أحضر لحظات وفاته بحكم البعد، لكني كنت أتابع الأحداث أولا بأول وأعيش مع العائلة تلك اللحظات المتشنجة المشحونة بالألم والأمل. بعدما فقدوا الأمل بالمستشفى في علاجه عادوا به إلى بيته الذي لم يكن سوى بيت جدي. اجتمع حوله أبناءه وبناته وأبي. عمي الخمار كان قد فقد قدرته على السفر ولم يستطع التنقل من مدينة القنيطرة إلى مصمودة للوقوف مع أخيه في محنته. جلس أبي قربه أيام متتالية. كان يكلمه رغم انه لا يرد عليه، ويبكي أحيانا أخرى في صمت. كان يردد على مسامعه الشهادتين بشكل متكرر كل يوم ويتلو عليه بعض السور والآيات التي حفظها منذ أن كان صبيا. كنت أتصل عدة مرات في اليوم للسؤال عن حاله، حين كان يجيب أبي على الهاتف كان يكتفي بالقول: "عمك ينتظر فرج الله يا بني"، ثم نصمت معا حيث تخنقنا دموعنا، فأرد عليه بحشرجة: "دعك بقربه يا أبي، فرج الله عليه". ثم أتى الرد ذات صباح: "مات عمك يا ولدي، مات أخي إدريس، مات حامل أسرار جدك يا عزيزي، عزاؤنا واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون"، عزيته والحشرجة تتصاعد وتغطي على كلماتنا. ركبت سيارتي وذهبت إلى منتجع جبلي بضواحي كلميم، أجريت مكالمة واحدة قدمت فيها التعازي لأبناء وبنات عمي ولزوجته ثم أطفأت الهاتف وبقيت وحدي وسط أشجار المنتجع أتجرع مرارة ذلك الخبر الأليم وأعزي نفسي في رجل كان فيه العم والصديق، الرجل الذي كان ينتظرني بشوق لدى عودتي كل صيف لنحكي الحكاية ونروي التفاصيل ولأصطحبه لزيارة أبي وعمي الخمار. كانت عطلة الصيف على الأبواب، حيث كنت ضربت معه موعدا في عطلة الربيع، عندما زرته بالقرية، لزيارة عمي الخمار، لكن الموت سبقنا وبقي الموعد معلقا. ربما في حياة أخرى نلتقي ونفي بالوعد.

       كان المشهد الأكثر تأثيرا في نفسي من مشاهد الموت، مشهد وفاة جدتي منانة. أحيت ليلة المولد النبوي رفقة أبي بالأذكار والحديث في الأثر. كانت ليلة مشهودة من ليالي سنة 1984، صلت الفجر ونامت، ولم تتحرك ولم تتكلم صباح اليوم الموالي. تلك الليلة التي قضتها معنا في بيتنا حضر فيها محمد الإبن الأكبر لعمي ادريس. تكلمت ليلتها جدتي عن حاضر ومستقبل جميع أبناءها وأحفادها، عن طباعهم وخصالهم وعن مصائرهم وآفاقهم. كان الحديث في أغلبه ممزوجا بالهزل والضحك. ضحكت كثيرا تلك الليلة على غير عادتها وهي المرأة التي عرفت بالصمت والهدوء. صباح اليوم الموالي حاول أبي إيقاظها لكنها لم تستيقظ. ردت فقط ببعض الحركات والإشارات والإيماءات الطفيفة دون أن تفتح عينيها. استشعر أبي هول الموقف فأرسل اختاي فاطمة وفضيلة الى بيوت أعمامي لإخبارهم ودعوتهم على عجل. جاء عمي العربي الذي كان يسكن معنا في نفس البيت تقريبا، كانا منزلين منفصلين بحائط قصير لا يتجاوز قامة رجل بالغ. ثم جاء أعمامي تباعا أحمد، محمد وإدريس. كلموها فلم ترد عليهم. عندما أيقنوا بأن حالتها صعبة أرسلوا من يخبر عمي الخمار بمدينة القنيطرة، حيث وصل في اليوم الموالي. تركوها ممددة في فراشها حيث نامت تلك الليلة. كانوا يعطونها الماء والحليب والعسل فقط بجرعات قليلة خوفا من اختناقها ويتوقفون عندما تشير لهم بذلك عبر إشارة أو إيماءة على وجهها. كان منظر الأعمام الستة في الغرفة على مقربة من جدتي والحزن يعلو وجوههم والدموع تبلل لحاهم وهم جالسين القرفصاء واضعين أرجلهم خلف جلابيبهم الصوفية، منظرا رهيبا مهيبا يبعث القشعريرة في الأبدان والنفوس. كان الأبناء الستة يصرون على التناوب على خدمة أمهم وعلى إلقاء التحية عليها وتقبيل رأسها ويديها مرات عديدة في اليوم. كان أبي وعمي أحمد يتلوان بالتناوب على مسامعها آيات وسورا من القرآن الكريم عدة مرات في اليوم. فيما كان ينزوي الآخرون كل إلى زاوية في الغرفة ولا يغادرونها إلا لماما. انضم إليهم أخوهم عبد السلام وقضى رفقتهم تلك الأيام العصيبة. كان يوميا يقبل راسها و يدعو لها بالشفاء كواحد من أبناءها. لم يعد يخرج أي أحد منهم. اعتكفوا جنبها. حتى الصلاة، رغم قرب المسجد، كانوا يصلون في الغرفة ويختمونها بالدعاء لأمهم بالشفاء وطول العمر. كان إذا أراد أحدهم أن يعطي أمرا لأحد أبناءه يبعث إليه. كانت نساء وبنات وأبناء أعمامي يترددون على بيتنا عدة مرات في اليوم. لكن لم يكن يسمح لهم بالدخول كثيرا لزيارتها لكي لا تتأذى من كثرة المتواجدين حولها. كنت أجلس على مصطبة بالبهو قبالة باب الغرفة حيث يمكنني رؤية مشهد الرجال السبعة وهم جالسين بالقرب من أمهم في خشوع وحزن باديين. في اليوم السابع فتحت عينيها وتكلمت. طلبت منهم مساعدتها على الجلوس. بدت علامات الفرحة على وجوههم. تحلقوا حولها جميعا. تفحصت وجوههم واحدا واحدا وهي تبتسم. لم يكن أبي بينهم. كان في قيلولة بالغرفة المجاورة. قالت: "الله يرضي عليكم كاملين، أين التهامي؟". أجابوها: "لقد كان معنا، ذهب إلى غرفته قبل قليل، قد يكون قد نام من العياء". حملت رداء صوفيا أبيضا كان جنب رأسها، ناولته عمي أحمد ثم قالت: "اذهب وغطيه به يا ولدي". أجهشوا جميعا بالبكاء. رمزية الرداء الصوفي الأبيض لا تخفى عليهم. عندما عاد عمي أحمد ومعه أبي، الذي استيقظ عندما ألقى عليه أخوه الرداء، طمأنتهم جدتي بأن رضاها يشملهم جميعا ومحبتها لهم لا تقبل التجزيء، وبأن التهامي هو صغيرها وأصغرهم ولا زال بحاجة للعطف والرعاية. لم يجادلها أحد، مسحوا دموعهم استحياء منها. ارتسمت علامات الارتياح على وجوههم فرحا بتعافيها. كانت الدموع تنهمر من أعينهم مزيجا بين الفرح والدهشة في تلك اللحظة المشحونة بعواطف الأمومة وقدسية ورمزية الرداء الأبيض.لم تتكلم كثيرا ولم تبق جالسة بينهم إلا لحظات معدودة ثم أمرتهم بتمديدها مجددا. رفعت سبابة يدها اليمنى ونطقت بالشهادة ثم صمتت. بعد برهة سكنت حركاتها وتوقفت أنفاسها. فأجهش أبناؤها الستة بالبكاء. ردد أحمد الشهادة بصوت مرتفع، اقترب منها، قبل جبينها، أغلق عينيها، اتجه نحو إخوته وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، عزاؤنا واحد إخوتي". ثم أجهش بالبكاء فيما تقدم الإخوة واحدا واحدا لإلقاء التحية عليها. كان كل واحد منهم يقبل رأسها ويردد عليها الشهادة ويفسح المجال لمن يليه ثم ينزوي إلى ركن ويجهش بالبكاء في صمت. حتى عبد السلام، الذي كان قد ذهب إلى بيته وقت الظهيرة، عزاهم وجلس إلى جنبهم. بعد لحظات قام أحمد، غطاها بثوب أبيض ثم أمرهم بالتحضير للجنازة. كانت جنازة مهيبة. حمل نعشها أبناؤها الستة. أقيمت ليلة ذكر كبيرة حضرتها العائلة وأهل القرية والقرى المجاورة. أحتفظ بوصايا عديدة من وصايا جدتي، أهمها وصية تلاوة آيات من القرآن الكريم على روحها، حيث كانت تقول لي: "لا تنسى يا بني أن تتلو علي بعض آيات القرآن الذي تحفظه في المسجد وفي المدرسة".وهو ما زلت أقوم به إلى الآن كلما تذكرت تلك الوصية الغالية.

       كان رحيل الجدة والأعمام الستة الواحد تلو الآخر على مدى ثلاثين سنة تقريبا تجربة قرب من الموت وآلامه. كنت في كل مرة أتجرع ألم الفراق، ألم لا يداويه سوى أمل اللقاء. كانت المحبة هي السم وهي الترياق. إذ يأتي الألم على قدر المحبة. يضيء القلب بنور المحبة. المحبة تجعلنا نحزن ونتألم وتجعلنا نتقبل الرحيل ونأمل في اللقاء الأبدي. المحبة لا تعترف بالموت. المحبة تجعل من مات حيا في قلوبنا. حيا فينا بصفاته وأخلاقه، بحركاته وسكناته، بابتساماته وإيماءاته، بكلماته وعباراته. كل من مات منهم، بالمحبة لم يغادرني، بل سكن قلبي وأغنى حياتي. المحبة حولت الموت إلى حياة. المحبة جعلت الموت يبدو كمعبر بين حياتين، حياة هنا وحياة هناك، حياة محسوسة في الأجساد وحياة منتظرة في الخلود، حياة في العين وحياة في القلب. المحبة جعلت الموت مألوفا معروفا ومقبولا رغم الآلام التي يحدثه في لحظة العبور. المحبة تجعلنا نتحسس الحضور في غياب الجسد. المحبة حولت وجود الأحباب من وجود معرض للفناء إلى وجود بمعنى البقاء. المحبة جعلت الموت لا يخيفني رغم أنه يؤلمني. المحبة جعلتني أرى الهنا والهناك كعدوتين، عدوتين بينهما برزخ عبوره فيه الألم واجتيازه فيه الخلاص. تكرار تجارب الموت القريب جعلتني أرى المعبر عن قرب حتى ألفته ولم يعد يرعبني. أصبح الموت والألم عندي كتوابل الطعام بعضها مر لكنه يعطي النكهة الحقيقية والذوق الرفيع. الموت فقط حين يمتزج بالمحبة يعطي معنى الخلود والبقاء. فمن كان محبا ومحبوبا لا يموت. هو فقط يرحل أو يعبر البرزخ، ويبقى موجودا في قلوب محبيه. كذلك جدي الشيخ سي بوشتىالفلاق لم يغادرنا أبدا، ظل في قلوبنا موجودا يتبوأ فيها مكانة الرحيق من الورود والأزهار. حي في وجداننا ومشاعرنا، حي في حكاياتنا وأشواقنا، حي في سلوكنا وأقوالنا، حي في قيمنا وزهدنا، فهو لم يرحل لينقصنا، بل رحل ليغنينا...
الموت والمحبة، مقتطف من رواية قادمة "رسائل الأرواح: مائة وستون عاما من العشق" للدكتور السعيد الفلاق

نورالدين البكراوي

Commentaires
    NomE-mailMessage