ياسين الحراق - شاعر وباحث في التاريخ
ومن هنا، يمكن الانطلاق
من البدايات الأولى للشعر العربي للتأصيل لفعل المقاومة، حيث أورد ابن كثير عبر مؤلف
الكامل في التاريخ، قصائد ممزوجة برائحة الدم والغبار لكونها تؤرخ للحروب العربية المريرة
بشبه الجزيرة العربية كحروب قبائل ربيعة مع ملوك اليمن.[1] فيكشف من
خلالها الشاعر عن هويته وأصالته، وتطلعاته نحو المواجهة والإصرار على التحدي منطلقا
من قيمه وقناعاته لاستنهاض الهمم ونبذ مظاهر الضيم والاستلاب. ويتضح ذلك بشكل أساس
في نقائض الحارث بن عباد و عدي بن ربيعة التغلبي، وفي حرب البسوس بين بكر وتغلب التي
نشبت بموجبها حرب أخرى أكثر ضراوة وإن كانت آلياتها الرئيسىة هي الكلمات المنظومة:
وَلَقَد تَرَكنا الخَيلَ
في عَرَصاتِها كَالطَيرِ
فَوقَ مَعالِمِ الأَجرامِ
فَقَضَينَ دَينًــــــــا
كُنَّ قَد ضُمِّنَّهُ بِعَزائِمٍ غُلبِ
الرِقــابِ سَوامِ
مِن خَيلِ تَغلِبَ عِزَّةً
وَتَكَرُّمًـــــا مِثلَ اللُيوثِ بِساحَةِ الآنــــامِ [2]
وكذلك في واقعة ذي قار الواقعة
سنة 609 م التي خلدها الأعشى في شعره واصفا أعظم نصر حققته قبائل العرب على الفرس قبيل
ظهور الديانة الإسلامية:
وَجُندُ كِسرى غَداةَ الحِنوِ
صَبَّحَهُم مِنّا كَتائِبُ تُزجي المَوتَ
فَاِنصَرَفوا
جَحاجِحٌ وَبَنو مُلكٍ غَطـــــــــارِفَةٌ مِنَ الأَعاجِمِ في آذانِهـــــــــا النُطَفُ
إِذا أَمالوا إِلى النُشّــــــــابِ
أَيدِيَهُم مِلنا بِبيضٍ فَظَلَّ الهـــــــــامُ
يُختَطَفُ
وَخَيلُ بَكرٍ فَمــــــــا
تَنفَكُّ تَطحَنُهُم حَــــــــتّى تَوَلّوا
وَكادَ اليَومُ يَنتَصِفُ
لَو أَنَّ كُلَّ مَعَدٍّ
كانَ شارَكَنــــــــــا في يَومِ ذي قارَ
ما أَخطـاهُمُ الشَرَفُ[3]
كما يتميز التاريخ الشعري
العربي، بحضور قصائد شائكة احتوت ألوانا من الصراع الأدبي، نستخلص منها شعر النقائض
الأموي العباسي وهو قالب يجهد فيه الشاعر نحو الدفاع عن سمو القبيلة ومكانتها أكثر
مما يجهد نحو الدفاع عن سمو الذات ورفعتها. لكن ماذا عن فعل المقاومة داخل القصيد المغربي
؟ هل يمكن التأصيل لشعر المقاومة بالمغرب؟ هل واكب الشاعر المغربي في منجزه أطوار الاستعمار
الفرنسي الإسباني مثلا ؟
واكب الشعر بالمغرب منذ
عهد الأشراف الأدارسة، التحولات الاجتماعية والثقافية والعقائدية والسياسية. ومن ثمة
تعددت الأغراض والتجارب داخل القصيدة المغربية دون أن تنزاح عن مفهوم المقاومة؛ حيث
ازدانت المكتبة المغربية بضروب مختلفة من الكتابات الشعرية وإن كان أغلبها لم يحد عن
النسق المشرقي في التعبير.
فقد أورد الجغرافي أبو عبيد البكري في مؤلفه المسالك والممالك، مختارات
هامة من الأدب المغربي خلال فترة حكم الأدارسة مؤرخا لتجربة أول نتاج شعري مكتوب بالمغرب
ويتمثل في نظم المولى إدريس الثاني وهو يدافع عن أحقيته في تولي السلطة مناكفا
خصومه في صراع سياسي متواصل. غير أن النصوص التي أوردها البكري تتوجب التعامل معها
بحذر، فالبكري لم يكن أمينا في نقل عدد من الأبيات بعد أن نسب بعضها خطأ للمولى إدريس.
في حين أنها تعود لشعراء آخرين ونورد كمثال لذلك هذا البيت الشعري الذي يعود لأبي طالب
الذي يؤرخ للمرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية:
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب [4]
ويبدو أن المولى إدريس،
كان يكثر الاستشهاد بالشعر حتى اختلط ذلك على الرواة لكن ما يهمنا منه، هو الأحداث
التي يكتنفها فتنقل ذلك الصراع السياسي حول السلطة ومقاومة إدريس الثاني لمختلف الأطماع
السياسية:
كأنك لم تسمع بمكر ابن أغلب وما قد رمى بالكـيد كل بلاد [5]
ومع تفكك دولة الأدارسة
بالقضاء على أخر سلاطينهم الأقوياء، على يد مصالة
بن حبوس حامل لواء الدعوة الفاطمية في المغربين الأوسط والأقصى، وفشل هذا الأخير
في بسط سلطة مركزية قوية، دخل المغرب مرحلة صراع القبائل توجت بمواجهات دامية بين قبائل
برغواطة ومغراوة وقبائل زناتة وصنهاجة انتهت بتوحيد المغرب من قبل دولة الملثمين. ولم
نجد في المصادر ما يفي بأغراض شعر المقاومة رغم تعدد الشعراء فمعظم المؤلفات ركزت اهتمامها
حول الجوانب السياسية التي ميزت المرحلة، غير أن الدراسات الحديثة تزعم أن دولة المرابطين
شهدت تراجعا ثقافيا كبيرا باعتبار الثقافة ترفا، وعاملا من عوامل الفساد التي أنهكت
بلاد الأندلس. ومن ثمة نأى المرابطون بأنفسهم عن تقريب الشعراء إلى بلاطهم. ويبدو أن
هذا الموقف قد أغضب شاعرين كبيرين فمالا في شعرهما نحو هجاء الدولة المرابطية:
وللشعراء اليوم ثلت عروشهـــــم فلا الفخر مختال ولا العز تامــــك
فيا دولةَ الضّيْمِ اجْمِلِي أوْ تجَامَلي فقد أصْحَبت تلك العرى والعرائك [6]
أما ابن سهل اليَكِّي
فيمضي بعيدا في هجائه للمرابطين:
في كُلِّ مَن رَبَطَ اللِّثامَ
دَناءةٌ وَلَو انَّــــهُ يَعلـــــــو عَلى كيوانِ
المُنتَمُـــــــــونَ لِحِميَرٍ
لَكِنَّهُم وَضَعوا القُرونَ مَواضِعَ التيجانِ[7]
وخلال عهد الموحدين تزايد
الاهتمام بالشعر والأدب بشكل عام بعد أن صار السلاطين الموحدين يقربون إلى بلاطهم الأدباء
والعلماء؛ إذ جعلوا منهم وسيلة دعائية تعضد شرعيتهم السياسية سواء في المغرب الأقصى،
أو بالأندلس. كما برز من الأمراء الموحدين من يقرض الشعر كالأمير أبو الربيع سليمان
الموحدي والسلطان عبد المؤمن بن علي.
وبما أن التاريخ الموحدي
غني بالمعارك والحروب التي تعددت أطوارها بين سلاطين الدولة الموحدية والممالك المسيحية
في إطار حروب الاسترداد، فإن الشعر لم يتوان عن إسماع صوته وفرض حضوره داخل حلقة الصراع
الموحدي الأيبيري. فقد ورد عن الشاعر أبو العباس الجراوي، قصيدة يستثير فيها القبائل
لمعاضدة جيوش يعقوب المنصور ومناصرته في قتال جيوش الإسبان جاء فيها:
هم المضريون الذين سيوفهم صواعق بأس تنتحي كل كافر
أوائلهم في الجود والبأس
غاية وكم تركوا من غاية للأواخر
دعاكم لما يحييكم
وارث الهـدى وجامع أشتات العلا والمفاخر[8]
أما ابن الأشيري، فيوثق
حسب مؤلف زاد المسافر ( ص: 102) لأواصر العقيدة التي تربط عرب المغرب الأقصى بعرب الأندلس
بعد عبور السلطان عبد المؤمن لنجدة الأندلسيين في معاركهم ضد الإسبان ورغم أن الدولة
الموحدية كانت ما تزال فتية إبان هذا العبور، فقد استطاعت تحقيق انتصارات حاسمة خاصة
في معركة السبطاط فكان لا بد أن ينتصر الشعر للسيوف العربية:
جَيشٌ مِنَ العُربِ الَّذينَ
إِذا غَزَوا كَوَوا الأَعـــــاجِمَ في الطُّلى
بِعِلاطِ
قَـومٌ إِذا
شَـمَـخَ العِـنــــــادُ بِـأَنفِهِ وَضَعـوا
السُّيوفَ مَواضِعَ الأَسواطِ [9]
كما انضم الشعراء الأندلسيون إلى إخوانهم المغاربة وأعلنوا المقاومة باستمالة
الأندلسيين للاصطفاف إلى جانب الجيوش العربية القادمة من شمال إفريقيا في مواجهة المد
الصليبي. ومثل هذه التجربة كثير من الشعراء كابن طفيل وابن سهل الأندلسي وابن الدراج.
كما لم يحد الشعراء في الفترة
التي تعاقب فيها المرينيون والسعديون على حكم المغرب، عن الالتزام بالقضايا المصيرية
بعد أن غدا العالم المسيحي متوازن القوة مع العالم الإسلامي. لذلك لم يعد النبوغ الشعري
يقتصر على الأغراض القديمة كالمدح والغزل والرثاء، إذ صارت أغراضه مرتبطة أكثر بالتقلبات
الاجتماعية والأحوال السياسية.
فإذا كان تحدي الدولة المرينية
يرتبط بمواصلة الدفاع عن عدوة الأندلس بمناصرة حلفائهم بنو الأحمر في مواجهة ممالك
الإسبان، فإن الدولة السعدية ابتليت بتحرير الثغور من المحتل البرتغالي.
ضمن هذا الأفق، خلق الشعراء
من أمثال مالك بن المرحل، ولسان الدين بن الخطيب، وعبد الله الهبطي، وأحمد بن القاضي،
وداوود بن عبد المنعم الدغدوغي، وأبو عبد الله محمد بن علي الهوزالي، وأبو عبد الله
محمد بن علي الفشتالي وغيرهم من الشعراء، معارك أخرى موازية لساحات الحرب مؤكدين على
أهمية رسالة الشعر في دينامية المقاومة. وعلى سبيل المثال نستعرض أبياتا من ميمية الشاعر
مالك بن المرحل يحث من خلالها السلاطين المرينيين وسكان المغرب على الجواز نحو الأندلس
قصد فك الحصار عن غرناطة. ولعل ما يميز ميمية ابن المرحل، كونها توثق لذلك التوافق
الذي قلما يحدث بين الفقيه والشاعر بعد أن تعددت تلاوة القصيدة على منابر المساجد بالمغرب
إذ نادرا ما يستشهد الفقهاء بالشعر:
لاَذَتْ بِكُمْ أندَلُسٌ
ناشِـــــــــدَةً بِرَحِمِ الدِّينِ ونِعْمَ
الرَّحِــــــــمِ
واسْتَرْحَمَتْكُمْ فَارْحَمُوهَــا
إِنَّهُ لا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مَنْ لا
يَرْحَمُ
ما هِيَ إِلاَّ قِطْعَةٌ
مِنْ أَرْضِكُمْ وأَهْلُهـــــــــا مِنْكُمْ
وأَنْتُمْ مِنْهُمُ
لكنَّها حُدَّتْ بِكلِّ
كـــــــــــافِرٍ فالبحـــرُ مِنْ حُدُودِها
والعَجَمُ [10]
من هنا صار شعر الجهاد والمقاومة،
جزءا مهما من حياة المغاربة ووسيلة إعلانية معبرة لم تخلو المصادر والمؤلفات التاريخية
منها. وفي الوقت نفسه وثيقة تفتح الباب المغلق أمام المؤرخ المفتون بالتفاصيل.
فرغم اضطراب أوضاع المغرب
عقب تفكك الدولة المرينية وضعف السلطة المركزية الوطاسية، واستغلال البرتغاليين الوضع
لصالحهم باحتلالهم لسواحل المغرب كرد فعل انتقامي على الجهاد المغربي بالأندلس، استمرت
علاقة المغاربة بالشعر رغم تراجع جودة هذا الأخير وانطباع نظمه بالجمود والصنعة
والركود. ويفسر ذلك باستمرار الصلة التي تربط القصيد بقضايا الوعي والنضال.
فمنذ تشكل نواة الدولة السعدية،
عملت على تحرير الثغور من المحتل، ولم يتأت لها ذلك إلا عبر واقعة الملوك الأربعة حيث
محقت من خلالها دولة البرتغال التي ضمتها إسبانيا. وعن نتائج هذه الواقعة نقتطع هذين
البيتين من نونية الشاعر داوود بن عبد المنعم الدغدوغي:
جنى النصر ما بين الظبا
والكنـــــائن على سابقاتها المذكيات الصوافن
ومن لم يخض
بحر الحروب فلا يـرى لحوزته دون العدا خير
صـــــائن [11]
إن التاريخ الأدبي بالمغرب
الأقصى، مفعم بالأشعار التي لا تعدم الروح المقاومة. ونظرا لهذا الزخم الكبير الذي
يزن المكتبة المغربية سنركز في مقالات ذات صلة على النصوص التي واكبت المقاومة الريفية
وكذلك المقاومة بقبائل الجنوب الصحراوية.
المراجع
[1] - ابن الأثير محمد، الكامل في التاريخ، ج1، مراجعة د/
محمد يوسف الدقاق، الناشر: دار الكتب العلمية (بيروت)،
طبعة 1987.
[2] - حسيب عماد، البناء
الدرامي في الشعر العربي القديم، منشورات مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة،
2012، ص: 71.
[3] - ميمون بن قيس، ديوان
"الأعشى الكبير"، شرح وتعليق د/ محمد محمد حسين- مؤسسة الرسالة – الطبعة
السابعة 1973 ص: 361
[4] - الفاسي محمد، المولى
إديرس الأزهر شاعرا والحركة الأدبية أيام الأدارسة، مجلة دعوة الحق، العدد 274، سنة 1989.
[5] - الفاسي محمد، المولى
إديرس الأزهر شاعرا والحركة الأدبية أيام الأدارسة، مجلة دعوة الحق، العدد 274،
سنة 1989.
[6] - الأعمى التطيلي، ديوان الأعمى التطيلي، منشورات المؤسسة الحديثة للكتاب، تحقيق
محي الدين ديب، طبعة 2014، ص: 19.
[7] - البهجي إيناس حسني، تاريخ دولة الأندلس،
منشورات مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، الطبعة الأولى 2018، ص: 416.
[8] -
كردي علي إبراهيم، الشعر العربي بالمغرب في عهد الموحدين، منشورات هيئة أبو
ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى (2010)، ص: 76.
[9] -
أبو بحر المرسي، زاد المسافر وغرة محيا الأدب المسافر، تحقيق عبد القادر
محداد، دار النشر: بيروت-
طبعة 1939م، ص: 102
[10] - مالك بن المرحل، مالك بن المرحل أديب العدوتين، دراسة وتحقيق، د: محمد مسعود جبران، منشورات المجمع
الثقافي (أبو ظبي) طبعة 2006، ص: 336.
[11] - المريني عبد الحق:أصداء معركة وادي المخازن في الشعر المغربي،
موقع وزارة الثقافة، اطلع عليه بتاريخ 23/04/2022.