لا يستقيم الحديث أولا عن مصطلح دارج في المجتمع، إلا وكان البحث عن مدلوله اللغوي أولا من الناحية الأتيمولوجية أساسيا ومهما، على اعتبار أن الكثير من المصطلحات استطاعت أن تجد لها مستقرا في المعجم اللساني التداولي على مستوى اللغة العامية للناس، وبعدها تزرع هذه المصطلحات محمولاتها ومدلولاتها التي قد يكون لها الأثر البالغ على تماسك الثقافة الإنسانية والقيم المجتمعية بشكل عام، لأن ظهور العديد من المصطلحات خاصة التي ترتبط منها بحقل معين تسرب إلى منظومة التفكير الإنساني مثل الفيروس الخطير، كان تحولا سلبيا لمسار الثقافة الإنسانية وعلى تطورها وتناميها، وهكذا كان العقل هو أكبر متضرر من كل هذه الظواهر اللغوية التي أصبحت تتجدر باعتبارها ممارسات سلوكية غريبة ومضره بالإنسان عامة.
نعود مرة أخرى إلى أصل الكلمة في اللغة العربية، إذ أن معجم "قاموس المعاني-عربي عربي- فإن فعل "ثاقف" مشتق من المصدر "مثاقفة" وجمعها "أثقفة" "وثقف"، ويقال أيضا، "ثاقف فلان غريمه" أي لاعبه بالسلاح وإظهاره للمهارة و القدرة، وأيضا "ثاقف جاه" بمعنى خاصمه، ويقول العرب قديما، "ثقاف الرماح" وهي أداة من حديد او خشب تقوم بها الرماح وتسوى وتعدل. ويقال أيضا، بينهما "ثقاف" أي خصام.
إن هذا التحديد في اللغة هو واضح وظاهر، ولا وجود في اللغة إلى ما يشير فعلا إلى مايعتبر اليوم في مجتمعنا أنه "ثقاف" يعني منع من الاتصال الجنسي الطبيعي بين الزوجين أو إفشال لأحدهما، ولكن قوة المصطلح في أنه يشير إلى الخصام أحيانا حيثما كان السياق يشير إلى ذلك، وأيضا إلى القوة ووجود طرفين قد يعمد أحدهما إلى إذاية الأخر، فالمصطلح يتفاعل بفعل الثقافة السائدة في كل مجتمع، وحسب الاستخدام الشائع، وبالتالي قد يقع الاتفاق على تشكيل دلالي معين له، فينحرف عن مدلوله العادي ويساء استخدامه.
إما من الناحية السيكولوجية، فان الظاهرة الشائعة في المجتمعات المتخلفة خصوصا، أصبحت تعتبر مكونا من مكونات الثقافة المجتمعية، وخصوصا المجتمعات العربية والإسلامية وغيرها التي تعيش أزمة قيم وثقافة حقيقية وسوء استخدام العقل وعدم أعمال العلم والدين بشكل صحيح، بعيدا عن التفسيرات والتأويلات الخاطئة المبنية على المعتقدات الفردية أو العرقية المؤثرة، خصوصا من طرف بعض السحرة الذين يجيدون التلاعب بضعاف العقول، وهنا يمكننا استحضار نقطتين أساسيتين في الموضوع، أولاهما تتعلق بالاهتزاز النفسي الذي يعيشه الإنسان المتخلف، وتأثير هذا الخلل على توازناته الداخلية، إذ تضعف النفس ويفقد العقل تحكمه في الأمور الداخلية والخارجية، فيصبح عرضة لدخول العديد من المعتقدات الخاطئة القائمة على الترجيح أو الاعتقاد في المتخيل الشعبي، ولعل النقاش القديم عند اليونان في الفصل بين الاعتقاد الأسطوري والفكر الفلسفي قد كان نافعا للغرب، من أجل القطع التام مع كل أصناف هذه الاعتقادات الخاطئة والمتسلطة والتفسيرات الخيالية، إذ أنها تتكاثر كتخيلات داخلية فتتحول إلى صور مفبركة داخليا؛ وبتفسير نورولوجي تقوم الاضطرابات الكيميائية الناتجة عن تأثر الخلايا العصبية وتهييجها أو تحفيزها بشكل خاطئ، فتحدث اضطرابات على مستوى النواقل العصبية والعصبونات المتحكمة في الصور الذهنية، وتبدأ هذه الكيانات بالتشكل بشكل غير حقيقي، أي أنها تكون مجرد انعكاسات لإشارات كهرومغناطيسية قوية، وتصاب بعض الخلايا بالتلف أو الضرر، ما يعني اضطرابات في النسق الهرموني والكيميائي، وتأثير ذلك على الوظائف الدماغية بشكل عام أو نسبي، وهذا ما يجعل التأثر بالكلمات والصور الخارجية متاحا، فيفقد العقل قدرته على تصفية المعطيات، وخصوصا منطقة المنطق التي تصاب بشلل نصفي، ولا تقوم بدورها الطبيعي بعزل الصور الخيالية عن الواقعية، وهذا ما يدفع بعض الناس إلى الاعتقاد أنهم يسمعون الأصوات الغريبة أو يرون أشباحا، وحتى في منامهم قد يعيشون قصص زواج مع الجن وغير ذلك، إذ أن نقصان الدم في الدماغ وعدم مروره بشكل طبيعي يتسبب في نقص الأوكسجين؛ وبالتالي، يرسل المركز العصبي إشارات قوية ومرعبة لتنبيه النائم قصد تغيير طريقة نومه وتعديل التنفس ليصبح طبيعيا، أما على المستوى الشعوري والنفسي، فإن الكلام له تأثير قوي على الشخص، وإن التعاطي المستمر لهذه الممارسات والتفسيرات الشائعة عليها، وكذا القصص الخرافية التي تؤكد أن فلانة عجزت عن جماع زوجها أو عن الإنجاب بسبب فعل سحر خارجي، أو العكس، كأن فلانا يعجز عن جماع زوجته أو عن الانتصاب بسبب ماقام به آخرون لمنع الزواج وغير ذلك، فإن هذه الأقوال تعزز وتحفز الدماغ على تقبلها وتكرارها وبالتالي تصبح إحساسات مثبتة في نفسية الشخص وذهنه، ويتخذها كل من الرجل والمرأة خصوصا على أنها أسباب لفشلهما الجنسي وعجزهما، وهذا ما يزيد من قوة الاعتقاد أن هذا الفشل هو ناتج عن سحر خارجي، فنرى تهافت هؤلاء على السحرة والمشعوذين الذين يعمقون لديهم هذه المعتقدات بطرق التفافية واحتيالية متقنة، ويعمل الساحر على توريط الحاضرين عنده في جو المعتقدات الوهمية والخرافية، مستخدما مواد مخدرة يطلقها عبر "البخور "معتمدا أيضا على طرق قريبة من التنويم بالإيحاء والتمويه، تساعده على إدخال الحاضرين في الهلوسات والتلاعب بعقولهم، أما ما يجعل مفعول هذه الطرق مستمرا، فهي التمائم التي يحملها هؤلاء اعتقادا منهم أنها ستطرد الجن المسؤول عن "الثقاف" وتساعد المرأة أو الرجل على الإنجاب أو الانتصاب وغير ذلك، فأخطر ما في الأمر هنا هو الاعتقاد الذي يرسخه الساحر وباقي أفراد العائلات والمجتمع في ذهن الشخص، أما الاعتبار الثاني، فيتعلق بالوعي الجمعي، وانخراط أفراد العائلة والجيران وأفراد المجتمع المصغر أيضا في هذه المسرحية، خصوصا في الأعراس بالبوادي والجبال، وحتى المدن حاليا، وهنا سبق أن حضرنا عرسا بإحدى القرى الموجودة بإقليم امنتانوت جماعة تاولوكلت، وهي منطقة جبلية أمازيغية معزولة عن العالم، وحضورنا في هذا العرس جعلنا نكتشف مباشرة هذه الاعتقادات التي تسبق عملية "الدخلة" وتخوفات أهالي العروسة أولا؛ وما إن تكثر الضغوط النفسية على العروسين خصوصا أن سنهما لا يزال صغيرا، إلا وتبدأ التأويلات عن وجود سحر "الثقاف" للعروسة أو العريس بهدف إفشال العرس، وهذا ما يصيب العريس بالفشل والإحباط النفسي الذي يؤثر على قدرته الجنسية، ويجعله مشوش الذهن، وقد تحدث بعض الأمور الخطيرة من قبيل الانتقام من العروسة واتهامها بأنها ليست عذراء، أو الاشتباه في أفراد العائلة الآخرين على أنهم قاموا ب "تثقيف" الرجل"، وبعد تدخلنا في حالة العروسين اللذين لا يتجاوز عمرهما 21 سنة، لاحظنا ان هناك توتر شديد وارتفاع نسبة الأدرينالين عندهما، وظهور أعراض التعرق والارتجاف والشعور بالارتجاع وألام المعدة، وهي تمظهرات جسدية ناتجة عن اضطراب هرموني قوي داخليا، وهذا ما لايمكن تفهمه من طرف العائلة المعزولة عن الواقع، وهذا ما يدفعنا كباحثين ميدانيين أولا، إلى افتراض قوة وتأثير ما يسميه عالم النفس الكبير "كارل غوستاف يونغ" بالوعي الجمعي، ومدى تأثيره باعتباره ثقافة أو تقليد عائلي أو عرقي، وأن ظاهرة "الثقاف" وغيرها من المسميات المرتبطة بعالم السحر والشعوذة، لازالت تجد في المجتمع المغربي والعربي الأرضية الخصبة للعيش والتكاثر مثل الطفيليات البرية التي تقاوم التطور العلمي والفكري والأصل الديني. وهنا نشير إلى أن غياب مراكز نفسية متخصصة في دراسة هذه الظواهر ورصدها وتقديم معطيات وإحصاءات دقيقة عنها يجعل مسالة التدخل والمعالجة صعبة، ويزيد من مقاومة هذه الأفكار مثل الفيروسات، والدليل أيضا أن عدد "الفقهاء" و"السحرة" ومن يسمون أنفسهم "علماء الفلك"، ربما أكثر بكثير من الأخصائيين والأطباء النفسانيين في المجتمع المغربي، وحتى الانفصال الغريب بين الدراسات النفسية والاجتماعية وبعض المراكز المحتشمة في بلادنا، تعطينا انطباعا سلبيا حول اهتمام الدولة والباحثين الأكاديميين بهذه الظواهر الخطيرة التي تساهم في تكريس الجهل والتمزق النفسي والاجتماعي، و في تشتيت الأسر ودمار العلاقات الزوجية، إضافة إلى الإشارة بأن الاعتقاد بوجود "الثقاف" لم يعد محصورا على فئة الفقراء والأميين فقط، وإنما إنضاف إليه الجاهلين من الأغنياء وأشباه المثقفين الذين يسارعون بدورهم إلى السحرة والمشعوذين والسادات والأولياء طمعا في الشفاء وفك هذه العقد وتخليص أبنائهم من "الثقاف"؛ وهذا ما يفسره بشكل دقيق الدكتور مصطفى حجازي في كتباه الرائع: "سيكولوجية الإنسان المقهور"، واعتبر من خلاله أن العديد من الأسباب الاجتماعية والثقافية تساهم في تكريس هذه المعتقدات الخاطئة وتكرس الفهم المنحرف للدين والثقافة أيضا، وحقيقة الأمر، نعتقد من وجهة نظر علم النفس المرضي أن هذه الظواهر تكرس " الثقاف" الحقيقي الموجود بالفعل في أذهان الجاهلين، إذ أن هذه الظاهرة لا تساهم فعليا في منع الإنجاب وإنما هي موجودة كالأصنام في أذهان المغفلين، وهي الأوهام والأصنام التي طالب الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" بتحطيمها والكفر بها، كما أننا نؤكد كباحثين في علم النفس المرضي، أن الحقل السيكولوجي في المغرب مطالب بالخروج من رفوف الجامعات والمكتبات، والمحاضرات الأكاديمية باللغات الأجنبية، ودخوله معترك المجتمع الحقيقي من أجل شن حرب ومواجهة في وجه التفكير الخرافي والأسطوري الذي خرج وتخلص منه اليونان قديما لكنه وصل حديثا إلى العرب وهو يتحكم في البنية الذهنية والتفكير الجمعي واللاشعوري.
.