JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

النّظرية النّقدية للدّولة عند عبد الله العروي


 

سُفيان البرّاق - باحث في علم الافكار والأدب




انصبّ تركيز عبد الله العروي حول النظرية النّقدية للدولة الحديثة بأوروبا، فحاول إبراز انبعاث الماركسية الفوضوية التي وجّهت نقداً لنظريّة هيغل في الدولة. لقد فنّد فيورباخ الموقف المثالي الهيغيلي، انطلاقاً من قوله: "الكائن هو الفاعل والفكرة هي الصّفة". اعتنق ماركس، بلهفةٍ شديدة، هذه القاعدة وكانت هي المُنطلق ليُطبّقها على حكمٍ من أحكام هيغل بخصوص تصوّره للدّولة. إنّ فيورباخ وماركس، كلاهما انتقدا هيغل من مرجعيةٍ فلسفية، كما أنّ هناك توافق كبير بينهما في نقد هيغل، الأوّل (فيورباخ) يقول: "ما علينا إلّا أن نضع في مقولات هيغل الصفة محلّ الفاعل ونجعل منه الأصل، ما علينا إلّا قلب الفلسفة التأمّلية إلى أن نكتشِف الحقيقة صافية سافرة". ويعبِّر ماركس عن الفكرة ذاتها بقوله؛ "يجعلُ هيغل دائماً من الفكرة الفاعل ومن الفاعل الحقّ الصفة؛ إلّا أنّ التطوُّر عنده يأتي دائماً من جهة الصّفة".([1]) فيورباخ يُفنّد هيغل بمسلمات الأنوار فقط، في حين أنّ ماركس يُفنّد هيغل بمنطق هيغل وبمسلّمات الأنوار.

إذا كان هيغل يقرُّ بأنّ الدولة في ذاتها تنقسمُ عقلاً إلى دائرتين: الأسرة والمُجتمع المدني، فإنّ كارل ماركس يلاحظُ أنّ الدولة ترتكزُ من جهة على وشائج القرابة ومن جهةٍ ثانية على علاقات الإنتاج (وسائل المعاش).

التطوُّر عند ماركس يأتي دائماً من جهة الصفة، لا من جهة الفاعل الموصوف كما هو الشّأن عند المذهب المثالي. ماركس هنا، عاد ضمنياً إلى من بدأوا بحوثهم من الواقع، أي إلى الكُتّاب الماديين خلال القرن الثامن عشر، الذي يعدُّ التواءً حاسماً في تاريخ البشرية. وسيقف ماركس موقف فلسفة الأنوار تماماً كما فعل فيورباخ، وسرّ هذه العودة إلى فلسفة الأنوار هو المنظومة الهيغيلية المبنيّة على نفي نظريّة التعاقُد وسابقية المصلحة الفردية؛ أي نفي منبع الأنوار.

سَرَدَ عبد الله العروي نقد ماركس لهيغل بكلّ تفاصيله الجزئية والدقيقة. مثلاً؛ يعلّل هيغل ضرورة الحكم الملكي الفردي بضرورة تشخيص السيادة في إرادة فردية. ماركس ردّ على قول هيغل بعبارةٍ فيها من التهكّم والسخرية ما فيها: "ليست السيادة سوى روح مجموعة الإرادات الفردية، الدولة تجريد، أمّا الواقع الملموس فهو مجموعُ الشّعب".([2]) ينطلقُ هيغل من الدولة ليجعل من رعاياها تفريعات لها، في حين أنّ ماركس المعتنق للدّيمقراطية، ينطلقُ من الإنسان الملموس جاعلاً من الدّولة إنساناً مركّباً اصطناعياً. نستشفُّ من هنا أن ماركس لا يستطيع تجاوز آفاق فلسفة الأنوار.

بيّن عبد الله العروي أنّ هيغل أخطأ حيث لم يَرَ أنّ مقدّمات الأنوار ليست تصوُّراً سطحياً وتطوُّعياً بل هي انعكاس لواقع قائم. إنّ نظرية التعاقُد تعبيرٌ عن واقعٍ، ولا يكفي التنصل من الواقع والاستهزاء بالنظرية أو إظهار تناقضاتها الذّاتية. لقد عارض هيغل نظرية التعاقُد، وبشدّة، بالدولة الجوهرية – دولة الدّولة، الّتي هي تعبيرٌ عن واقعٍ معاش. واستهزأ كذلك بدولة التعاقد والإنتاج، وهي دولةُ الواقع كما يعرفها الفرد المُنتج، والتي وصفها بأمانة ودقّة منظِّرو القرن الثامن عشر رغم ظنهم أنهم تخيلوا طوبى عقلانية. هذا الاستهزاء هو السبب والحاجز الرئيسي الذي حال دون فهم هيغل للدّولة.

كارل ماركس نهل من المتن الهيغيلي وتأثر به إلى درجةٍ كبيرة. لكن عندما طالعتُ هذا الفصل تبيّن لي أنّ ماركس ارتدّ على هيغل وأنهكه بالانتقادات. مثلاً أدرج عبد الله لعروي في معرض هذا القول، عبارةً لماركس: "لقد اختلطت على هيغل الدّولة بصفتها مجموع مظاهر حياة الشّعب والدّولة السياسية. الأولى هي ما يعنيه الدّستور عند مونتسيكيو، والثانية هي ما يعنيه الدّستور في عُرف الثورتين الأميركية والفرنسية". يؤكد عبد الله العروي في أكثر من موضع بأن ماركس، ورغم نقده لهيغل، لم يستطع الانفلات من مُصطلحات هيغل. إنّ نقد ماركس، كما صرح عبد الله العروي، هو تعبيرٌ عن موقف الأنوار في لهجة هيغل ومن هنا صعوبة تأويله، أي أنه وظّف منطق هيغل ضدّ هيغل. إنّ نقد هيغل للأنوار كان نقداً سطحياً، ويرى التناقض الحاصل بين المجتمع والدّولة، بين الاقتصاد والسياسة، بين الفرد والحكومة، فيجعلُ منه تناقضاً منطقياً وهذا ما دفعهُ، بالضبط، إلى وضع الجوهر في الدولة والسياسة والحكومة.

لقد عارض ماركس هيغل من جهتين: الأولى؛ يعترفُ له أنه على حقّ عندما يرى خلق الدستور السياسيّ الدستور الجوهري، الاجتماعيّ – المادّي، لكن يؤاخذهُ لكونه لم يُدرِك أنّ الثاني متعلِّق بالملكية الفرديّة وبشكلها المُحدّد زمنياً. ومن جهةٍ ثانية؛ يُؤاخذهُ لكونه لم يفهم أهميّة الشّكل السياسيّ في صورته المستقلّة، وهو ما دفعهُ إلى تصوُّر المستقبل في ثوب الماضي.

كارل ماركس في المرحلة الأولى من حياته أعطى فكرتين: الأولى قائمة على جوهرية الدّولة والثانية قائمة على شكلية الدّولة السياسية التي ستقودهُ إلى الديمقراطية. فتجاوز الأولى والثانية، هو الذي سيُعبِّر عنه ماركس بالشّيوعية حيث تتوحّد الدولة السياسية بالاجتماعية.

مفهوم الدّولة عند هيغل يعكسُ من النّاحية التاريخية الحقائق السياسيّة للدّولة المُطلقة الوسيطية، وفي هذا السيّاق لم يُتِحْ له منهجهُ التأمُّلي المنطقي استيعاب التغيُّر التاريخي الجذري الّذي شهِدهُ المجال السياسيّ خلال عصر الأنوار. هذا العصر استطاع الكشف عن تناقض بين المُجتمع الإنتاجي والدّولة، هو تناقضٌ منطقيٌّ في الحقيقة. على النّقيض من هذا؛ نجد أنّ الماركسية قد اعترفت بهذا التناقُض وعمِلت على تجاوزه من الناحية النظرية. فالتباعُد الحاصل بين الدولة والمُجتمع الإنتاجي سببهُ هو التطور التاريخي، وطمر هذا التباعُد يتوقفُ على تغيير الوضع الّذي تسبّب في هذا التباعد الشارخ أي تغيير نظام الملكية.

أكّد الأستاذ عبد الله العروي في آخر صفحات هذا الفصل بأنّ الركيزة الأساسية عند فلاسفة الأنوار هو المُجتمع. أمّا الدولة، في رأيهم، مجرّد تركيب اصطناعي، الهدفُ منه خدمة المُجتمع، وهو ما يُطلق عليه هيغل لفظ: المجتمع المدني.

وجد ماركس بأنّ الملكية هي أصلُ الدّولة بالمعنيين المنطقي والزمني. ونبّه أيضاً على ذلك الخلط الحاصل عند هيغل بين الدستور بمعنى سياسي ضيّق، والدستور بمعنى اجتماعي عام، وهو ما جعل هيغل يتكلّمُ بالفعل عن تناقضات المجتمع عندما يتعرّض إلى تناقضات الدّولة فيغفلُ المُشكل السياسيّ. يأتي فريدريك إنجلز ويُلقِّحُ تحليل ماركس، وينزعُ الجدل من الدولة ليضعه حيث يجب أن يكون، أي في المجتمع، وبالذّات في مجال العلاقات بين الطبقات. يقول عبد الله العروي في هذا المضمار: "يحقُّ لنا أن نقول إنّ النّقد الّذي وجهه ماركس لهيغل– عدم التعرُّض للسياسة بالفعل - قد اختفى من عرض إنجلز"([3]).

"كان أمام ماركس طريقان: انطلاقاً من نقدين موجّهين لهيغل: يقودُ الأوّل إلى تعميق فكرة استقلال الكيّان السياسيّ كما أفرزهُ التطوُّر الحديث، والثاني إلى إذابة جدل الدولة في جدل المُجتمع النّاتج عن المِلكية الخاصّة وصراع الطبقات".([4]) لقد ظنّ هيغل أنّه قد وضع حداً لذلك التناقض الذي استمرّ منذ مدةٍ طويلة بين حرية الفرد وبين السلطة في نِطاق الدولة العقلية كما تصوّرها، لكن الماركسيون على العكس تماماً من ظَنِّ هيغل، معتبرين أن التناقض آنف الذِّكر سيظلّ متواصلاً طوال حقب تاريخية متوالية.

سرد الأستاذ عبد الله العروي، بطريقته المعهودة، هنا تصور هيغل للدولة، في إطار انفتاح عبد الله العروي على مفهوم الدولة في الفلسفة الحديثة بأوروبا، حيث بيّن ذلك النقد الذي تبِع هيغل من طرف ماركس الّذي ارتدّ عليه. استطاع عبد الله العروي في هذا الفصل أن يبلور أفكاراً قد لا تنقضي عدّاً في عدد محدود من الصفحات، فلو أردنا أن نطالعها من مصادرها الأصلية لاستعصى علينا الأمر. ليكون بذلك الأستاذ عبد الله العروي قد قدّم خدمةً جليلة للفكر العربي لا يمكنُ إنكارها أو التغاضي عنها، حيث درس مختلف المعارف واشتبك مع ميادين معرفية كثيرة، ونهل من المصادر الأصلية لروّاد الفلسفة، وما إن اختمرت أفكاره حتى بلورها في إنتاجاتٍ بديعة افتتحهابالإيديولوجية العربية المعاصرة سنة 1967م في طبعتها الأولى، مرورا بسلسة المفاهيم، ثم بعض الأعمال الرّوائية.


الهوامش


مقولتين أدرجهما عبد الله العروي في كتابه: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، 2014، ص 49.[1]


المرجع نفسه، ص 54.[2]


مرجع سابق، ص 72.[3]


، المرجع نفسه، ص 73.[4]
النّظرية النّقدية للدّولة عند عبد الله العروي

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة