JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

عندما ينفصل التاريخ عن المألوف (الجزء 2)


 

د. يونس البقالي - باحث في تاريخ الافكار والمؤسسات


من يملك افتراضا، يتحكم حقيقة...



لو شئنا التحديد، لقلنا أن الأثير بمعناه الفيزيائي، جغرافية افتراضية سارعت إلى استغلالها والحلول فيها، الولايات المتحدة الأمريكية في غفلة من الآخرين، حصل ذلك بشكل مكثف بعد الحرب العالمية الثانية، وفي وقت أغفل دورها رواد الاستراتيجيات الحربية، وقد كانت مرحلة حرب النجوم[1]، في وقت لاحق، منعطفا تاريخيا دبّر فصول معاركها الأمريكيون باقتدار عندما اتجه الأمريكيون إلى تكثيف حضور المعلومة الأمريكية عبر وسائل الإعلام والاتصال على سطح الأثير. فقد برعوا في استثمار جوانب الخداع المتخفية في أي حرب عندما برروا اتجاههم إلى رفع الإنفاق العسكري، ونصب منظومة الدفاع الاستراتيجي، بكون الاتحاد السوفياتي يهدد السلم العالمي، وأنه بكل بساطة "محور الشر" الذي يعرقل كل مساعي السلام والرفاه في هذا العالم. لقد تم إظهار التوجه العسكري الأمريكي في إطار حرب النجوم، من قبل الإعلام، على أنه "دفاع استراتيجي"، وصمام الأمن والسلم العالميين، في الوقت الذي كان الأثير فيه يشهد هجوما معلوماتيا عبر شتى القنوات بهدف كسب التأييد، وإظهار السوفييت كأصل للشر في الأرض.



استغلت الولايات المتحدة الأمريكية أيما استغلال، الانعطافات التاريخية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وقد كانت بحق مساهما فعالا في فتح مداخل الثورة التكنولوجية الثالثة، أمام العالم، بعدما صار للمعلومة أهميتها الاستراتيجية، ولقنوات تسريبها الحظوة المثلى في أي اقتصاد ما بعد صناعي. ففي هذه الفترة بالذات، ظلت مجتمعات الجنوب منشغلة بتجاوز المطبات والمخلفات التي ورثتها عن الفترة الاستعمارية، ومنهمكة في استنزاف قدراتها بغاية إقامة صرح الدولة الوطنية، وما زاد من تفاقم أوضاعها، أن رفع أثقال الاحتلال، قوبل بضرورة الانجذاب لأحد المعسكرين، الشرقي بتوجهه الاشتراكي، أو الغربي بمنظومته الليبيرالية الرأسمالية. في الجانب الآخر وجدت القوى الاستعمارية الأوربية نفسها، وقد انتهت إلى الوقوف على مساحة جغرافية مدمرة ومنهكة من ثقل الحروب والأزمات، رقعة جغرافية ممزقة بين معسكرين فرضا توجههما الاقتصادي والسياسي على قسمي أوربا المتواريين خلف التاريخ.

في ظل هذا الواقع، استطاع الأمريكيون، في خضم حربهم الباردة ضد السوفييت، أن يجعلوا من الأثير فضاء لتسويق أنماط من الصور عن نموذج الرفاه الأمريكي، صور أقل ما يمكن أن يقال عنها، أنها استعراضية ومغرية، استطاعت فعلا أن تشكل قوة ناعمة تسربت ببطء، ولكن بفعالية قل نظيرها، في داخل العقل الكوني الجمعي، وقد أبدعوا إبداعا في ابتكار تقنيات واساليب تسويق هذا النموذج.

لم يكن السوفييت بمناشيرهم وأفكارهم الثورية والرائدة، ليتمكنوا من دمج الفرد في الجماعة، ولا حتى دفع الأمم إلى التكتل في أممية اشتراكية تنهي الصراع الطبقي، وتحقق مجتمع العدل والمساواة، غير أن الأمريكيين، على النقيض منهم، عملوا عبر الأثير، على استحضار الفطرة البشرية بالكثافة اللازمة داخل الصور التي يتم تسويقها عن نموذج الرفاه الذي يطمح إليه أي فرد، في أي مجتمع كان، وكأن مراد السوفييت دمج الفرد في الجماعة، ومراد الأمريكيين فصله عنها.

من هنا صار الأثير آلية الأمريكيين لبناء نموذج رفاه مغري يخاطب الفرد، لا الجماعة، نموذج يهدف لتنميط الفرد على ثقافة الاستهلاك، وإشباع رغباته، في انسجام مع الفطرة التي جُبل عليها. نموذج، يحفز في الفرد النزوة نحو تحقيق الإشباع، واللهث وراء الرغبة، والتي عادة ما كانت تنتهي بالإقبال على المنتوج الأمريكي، ماديا كان أم افتراضيا، ففي جميع الأحوال ظلت صورة الأثير، وصوت الأثير، حلبة للدوران بين المنتجات الأمريكية، وكل حلقة منها، تصلك ضرورة بالحلقات الأخرى، وتعيدك إليها، فمتى شاهدت شريطا سينمائيا من إنتاج هوليود، سينتهي بك الأمر إلى الإقبال على محل وجبات أمريكية، وتعاطي سجائر أمريكية، والتصرف على النمط السلوكي الأمريكي أحيانا، وكأنك بذلك ترتقي إلى مرحلة الاندماج في الحضارة المتاحة للبشرية جمعاء.

ولم يكن الأثير محلا للتسويق فقط، وإنما صار إطارا لاستعراض القوة، وحقلا لإبراز القدرة على الهيمنة والاحتواء، بشكل مبالغ فيه، جعل صورة الولايات الاستعراضية تسبق وقعها عند كل تدخل عسكري، مهما كان صغيرا. وكذلك كان، فقد تغلب نموذج الرفاه الأمريكي، وتمكن بشكل غير مسبوق من أن يستفرد بالعالم عبر آليات تحكم عن بعد، ظلت دواليب اشتغالها تدار في الأراضي الأمريكية، ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي، وإن ساهمت فيه التناقضات الداخلية التي ظل يرزح تحتها النظام الشمولي السوفياتي فإنها غير كافية لتفسير أسباب الانهيار، إذ ما زاد في تأجيج السخط على النظام، تأثر المجتمعات الشيوعية بنموذج الرفاه الأمريكي، في روسيا السوفياتية، كما في مجتمعات أوربا الشرقية أساسا عموما. وبمجرد تفكك المنظومة الاشتراكية، انتهى الفضاء الأثيريإلى أن يصير مجالا أمريكيا بامتياز، أنعشه الأمريكيون، وكثفوا من حضور آليات التضمين والاحتواء فيه، بشكل يجعلهم متحكمين من الدرجة الأولى في تدفق المعلومة، كيفما كانت صورها، وبذلك تأتى لهم أن يوجهوا فعلا، لا افتراضا، أكبر شبكة تواصل بشري شهدها التاريخ.

صارت هذه الجغرافية الافتراضية التي علت السطح، حصان طروادة الأمريكي لاختراق عالم، ساحة المعركة الحقيقية فيه؛ العقل، والمستهدف؛ الإنسان نفسه. وسيدوّن التاريخ هنا، أن أمة، هي الأولى هيمنت على العالم، بتركها تقاليد الانتشار البري للإمبراطوريات الإقطاعية إذ ارتبطت بالأرض والانتاج الفلاحي، وتجاوزها الإرث البريطاني الذي دفعته فكرة التجارة الحرة، وتسويق المنتوج الصناعي، إلى الانتشار شرقا وغربا سعيا منها للهيمنة على الجغرافيات البحرية الاستراتيجية. يكفي أن نأتي على ذكر الإعلام السمعي البصري، ووسائل الربط والاتصال الناقلة للمعلومة بداية، ثم الأنترنت، وشبكات التواصل والاتصال، وغيرها، بعدما تأتى لها أن تصير القوة الأبرز في زمن العولمة، لنفهم الأمر.

كُتبت فصول التاريخ الأولى في البر ثم في البحر، وصارت الآن قواعد التحكم والهيمنة راسخة في هذا الفضاء الأثيري الممتد، فمن يملك آليات الاشتغال فيه، يملك مفاتيح التحكم والتضمين والاحتواء، وإن صح القول، يتحكم في منابع تدفق المعلومة، وبالتالي في العقل.

لقد بني المجد الأمريكي على استثمار جغرافية افتراضية لتسويق منتجات افتراضية، بدورها تحفز النهم إلى الإقبال على المنتوج الأمريكي -ماديا كان أم افتراضيا _ نحو كل فرد مهما كان انتماءه الجغرافي، أو الحضاري.لقد حولت الولايات المتحدة الأثير إلى مجال خصب لإنتاج الثروة، كما جعلت منه ساحة لإسقاط استراتيجياتها الحربية، وتدوين فصول من معاركها خارج مألوف الحروب الكلاسيكية. فكثيرا ما خاضت هذه القوة الليبيرالية حروبا استباقية على المستوى الفكري لتشويه صورة الخصم أمام العالم، وعزله قبل أي تدخل عسكري ميداني، وسيلتها في ذلك الآلة الدبلوماسية على المستوى المؤسساتي، ووسائط الاتصال والإعلام على المستوى الافتراضي لكسب التأييد الشعبي، من جهة، وتبرير أي تدخل عسكري لاحق، من جهة ثانية، مهما كانت محدوديته. شهدنا ذلك على الأقل، بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر، خلال التدخل العسكري الغربي في مجموعة من دول الجغرافيا الاسلامية الاستراتيجية، بداعي محاربة الإرهاب.

فلما كانت غاية الولايات المتحدة الاستئثار بالعالم، والحيلولة دون صعود قوى منافسة، فقد لجأت إلى خوض حروب استباقية، عادة ما هدفت أولا إلى عزل الخصم، وكسب ورقة المشروعية التي تمنحها حق التدخل، ولو من جانب واحد، وهو ما تذهب إلى تأكيده وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في وقت سابق، عندما نقرأ فيها: «ولا تزال الولايات المتحدة مستمرة في جهودها لضمان الحصول علي دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر...كما أننا سنشن حرب أفكار للانتصار في المعركة»[2].

صار الأثير حقا، مع مطلع الالفية الراهنة، مجالا أمريكيا بامتياز تم استثماره عبر منظومة الأقمار الصناعية للتحكم في تدفق المعلومة كيفما كانت صورها. ارتبطت حيوية هذه الجغرافية الافتراضية بالتأثير في كل شيء ما دامت المعلومة عماد هذا العصر، وقد سمح استثمار المنظومة المعلوماتية بتطوير القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، وشرعنا في الحديث عن اقتصاد حقيقي في مقابل اقتصاد افتراضي، هذا الأخير الذي تحوّل في ظرف عقود إلى عماد ثروة الأمم، ومعيارا للتعبير عن مستوى تقدمها وتجاوزها للتاريخ، كما اعتبر آلية للوقوف على مدى اندماج الأفراد والمجتمعات في المستقبل، تكفي الإشارة إلى أن ما يفوق ثلثي الثروة الأمريكية إنما هو حاصل من هذا التدفق الهائل للمنتجات الافتراضية، الذي لولا استغلال الأثير ما كان ليحصل.

إلى حدود التسعينيات من القرن الماضي، لا أحد كان يتوقع هذا الإحلال المكثف للتقنية المعلوماتية الذكية داخل الحياة العامة للمجتمعات البشرية، كما لم تكن أدق الدراسات المستقبلية لتستشرف وتيرة إدماجها المتسارعة في مناحي الحياة المتشعبة، حتى صارت كثافة الارتباط بالتكنولوجيا المعلوماتية، والقدرة على تمتين الارتباط بالأثير، علامة تقدم الأمم، ودليل رقيها. ففي ظرف عقدين تامين، باتت «الشبكات الاجتماعية، وشتى أدوات الربط المعلوماتية، بمثابة آليات انقلاب في حضارتنا الراهنة».[3] لقد استطاعت بحق الثورة التكنولوجية المعلوماتية أن تنتج ذكاء اصطناعيا تجاوز في فاعليته مألفنا الذهني، بل وأصبح تعبيرا عن الوجود، بعدما تمكّن من «اختراق الشاشات ليكتسح عميقا حياتنا الحقيقية»[4].

تمّ على ما يبدو، في زمن المعلوماتية هذا، وصل ارتباط الرفاه الإنساني، نوعا ما بالأثير، خارج السطح الذي نحيا عليه، وصار بذلك الأثير، مكسبا لتوثيق أواصر الروابط البشرية، وملاذا لتكثيف شبكة التواصل العالمية، بما ضمنه من منابع الإثراء للأفراد والأمم، وبما اختزله من الأبعاد المترية والزمنية. وعليه، فالمستقبل لن تتشكّل معالمه خارج منظومة ما هو متاح للبشرية من التقنية، ومن ذلك، بلا شك، تقنيات الذكاء المرقن التي أتاحت هذا الترابط الكثيف لشبكة التواصل البشرية بشكل غير مسبوق، وبدرجة تحولت معه إلى «محفز أساسي لكل الانقلابات التي يحيا على وقعها عالمنا المعاصر»[5].

من هنا، وبناء على ما وثّق الصلات البشرية، وعبر بها في مدارج الفعل التاريخي، يمكننا أن نستشرف المستقبل من خلال مداخل لها ما بعدها، ومنها أساسا: الخريطة السياسية والنظام الدولي _ الاقتصاد والمال _ الدين والثقافة _ العلم والتقنية. وإن كان لا بد من إنزال هذه العناصر على مدارج الفاعلية والتأثير في مسارات الفعل البشري، فإن العلم والتقنية، بما يتيحان من خلق لشروط مادية وذهنية مغايرة للمألوف، تكاد لا تستقر على حال، فإنهما مما يعيد تشكيل أنماط المعرفة والسلوك، ونظرة الإنسان للكون والمحيط الذي يحيا فيه. وبذلك يحل لنا أن نوثق رباطهما بالدين والثقافة مهما ظل الجدل حاصلا بينهما. وما السياسة والاقتصاد والمال إلا نتاج لطبيعة مناهج تصريف السلوك والفعل البشريين، ومضمار لعمل التقنية.

من هنا، واستحضارا لما هو قائم من الشروط الثقافية والحضارية الممتدة على هذا الكيان الجيوتاريخي المطل على انعطاف تاريخي غير مألوف، وانسجاما مع الصلات الموثقة بين عناصره من داخل منظومة تقنية تعدت نظامها الآلي، إلى نظام رقمي تجاوز حقا التاريخي الحسي المألوف، فإن ما ستحدده السياسة من ترسيم حدودي وترابي، وما سيدبره الاقتصاد من معاملات بشرية لن يخرج عما يتيح الواقع من الشروط الجيوثقافية والتقنية. وبذلك صار لا بد بما هو متاح من المستجدات قبل الجائحة وبعدها أن يتم تشكيل الخريطة السياسة والنظام العالميين على قواعد جديدة، بدورها سترسم معالم النظام الاقتصادي والمالي المستجد.



الهوامش


[1] استراتيجية عسكرية أطلقها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في ولايته الأولى، عرفت بمبادرة الدفاع الاستراتيجي، كبرنامج حربي يهدف إلى تبني منظومة دفاعية موجهة ضد أي هجوم بالصواريخ الباليستية السوفياتية، وهو ما ساهم في عودة التوتر الدولي من جديد، وإدخال العالم في المرحلة الثانية من الحرب الباردة بعد مرحلة من التعايش بين القوتين. وقد رافق هذه الاستراتيجية حرب إعلامية موازية عبر وسائل الإعلام الغربية، اتجهت إلى تمثيل الاتحاد السوفياتي على أنه "امبراطورية الشر" كما جاء على لسان رونالد ريغان.


[2] وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2002 ، مجلة شؤون الأوسط ، العدد 110، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، ربيع 2003، ص 123.


[3]Laurent Alexandre, La guerre des intelligences : comment l’Intelligence Artificielle va révolutionner l’éducation, Paris, éditions Jean-Claude Lattès, Première édition, 2017, P. 13.


[4] Ibid. P. 14.


[5] Ibid. P. 14.

عندما ينفصل التاريخ عن المألوف (الجزء 2)

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة