JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

عواطف المنحدرات

 


إكرام لغمامي - قاصة

في الوقت الذي حدجتني فيه بنظراتها، تذكرت الفئران التي كنت أتلذذ بحصرها في الزاوية في طفولتي، وأستمتع برؤية عيونها جاحظة وقلوبها تكاد تنفجر من شدة الخفقان، بعد أن تكون قد عاثت في حجراتنا أثناء نومنا. فقد كانت على وجهها الابتسامة الشرسة نفسها، وبعينين متقدتين كانت تنتظر سماع إجابتي، وأنا، كنت الفأر الذي لا يعرف ما الذي ينتظره.

ظل سؤالها يتردد في ذهني بلا توقف، لأنتبه فجأة لتفاصيل المكان؛ كنا نجلس متقابلين على حافتي سرير وثير في غرفة من زجاج، مفتوحة على منحدر شديد الوعورة. قفز قلبي من مكانه، خصوصا أني لم أكن قادرا على تذكر المشهد من بدايته وكيف انتهى بنا الأمر هناك، وحين التفت إليها مجددا بدا لي أني لا أعرفها، لكنها مع ذلك لم تكن غريبة عني. ومن مكان أجهله كانت تنبعث موسيقى سريعة زادت من حدة اضطرابي، وكنت لا أزال مع ذلك مجبرا على الإجابة عن سؤالها. كم كرهتها في تلك اللحظة! فكل الإجابات المحتملة التي فكرت فيها ستجعلني أفقدها، وكان ذلك آخر شيء أريده. أردت أن أستبقيها لمدة أطول، إلا أن تأخري أمامها كان يقتلني، وابتسامتها كانت تزداد شراسة واتساعـا، وقلبي يزداد انقباضا. أردت أن أصرخ في وجهها: "ما هذا السؤال اللعين؟!"

لكني بدل ذلك قفزت نحو المنحدر وكأن شخصا آخر قرر ذلك عني! لم أكن أريد التخلص من نفسي، بقدر ما كنت أرغب بالتخلص من شيء بداخلي لا يتوقف عن نهشي. استيقظت فزعا من أثر القفزة، لأجد نفسي في غرفتي محاطا بمشاعر تتأرجح بين راحة الاستيقاظ من كابوس، وضيق فقدان المرأة الوحيدة التي أحسست حقا أني أريدها. أشعلت الراديو، وجلست على حافة السرير، فإذا بالباب يفتح، والمرأة نفسها تدخل. وما إن وطئت قدماها أرضية الغرفة، حتى استحالت جدرانها زجاجا شفافا، وانفتحت على المنحدر نفسه.

مشدوها حدقت إليها وهي تقترب ببطء ساحر، ثم اتخذت مجلسها على حافة سريري فصرنا متقابلين. نظرت إليّ بحنو بالغ، ومدت يدها اليسرى ومسحت على رأسي ثلاثا وهي تبتسم. رضاها عني جعلني أشعر بدفء لذيذ يسري في أوصالي، لأصير حينها أسعد مخلوق في الكون. وكطفل أغرقتها بالأسئلة، كنت أريد أن أعرف عنها كل شيء، أردت أن أمتلكها، وكأني كنت أطعم وحشا بداخلي يزداد حجمه كلما اقتربت منها. إلا أنها اشترطت عليّ قبل أن تجيب عن أسئلتي الكثيرة، أن أجيبها عن سؤال واحد فقط. اسودت الدنيا أمام عيني فجأة، فقد تذكرت السؤال من الحلم السابق. "هكذا إذن؟" قلت لنفسي. "لو لم أسألها لما سألتني." وقفزت نحو المنحدر.

أشعلت الراديو، وانتظرتها بكل ثقة، ولهفة، وفكرة حلوة تطوقني كنصر: العدل هو أن تتاح للمرء فرصة تغيير قدره. مددت يدي إليها طالبا منها مراقصتي على أنغام الموسيقى السريعة، متجنبا أي حديث أثناء ذلك، ومكتفيا بجو المرح الذي أشاعه الرقص. كانت راضية عني وهي تمرر يدها اليسرى ببطء لذيذ على وجهي، فصرت بذلك أسعد مخلوق في الكون. توقفت الموسيقى، وفي اللحظة التي أجلستُها على السرير، أعلن المذيع عن استئناف برنامجه الحواري باستقبال اتصال جديد. وبينما كنت أسارع لإيقاف الراديو خشية أن يفسد علينا خلوتنا، انبعث منه صوت مألوف: "ألو، اتصلت لأقول إن هناك أسئلة معينة وجدت منذ الأزل، ليتسنى لعدد لا متناه من الأشخاص طرحها، فيما سيأتي من الأزمنة والعصور، بغض النظر عما يعنونه لبعضهم، أو ما يشعرون به، أو ما يودون معرفته حقا".

التفت إليها فوجدتها تبتسم وفي يدها اليسرى سماعة الهاتف، فما كان لي إلا أن أنهار أمامها في مشهد مأساوي غير مبال لصورتي التي كلفني تجميلها أحلاما عديدة: "افهمي أنني لست قابلا للترويض، ولن تجبريني مهما فعلتِ على التغير! لماذا لا تسمحين لي أن أكون كما أريد؛ كائنا حرا غير مطالب بتحديد موقف ثابت بخصوص أي شيء؟!". لكنها قالت بهدوء رهيب، وعيناها يتطاير منهما الشرر: "أجب عن السؤال".

كنت قلقا وأتصبب عرقا بدون أن أقوى على إخفاء الأمر، والسؤال القادم من أحلام سابقة يلاحقني بسخرية متعمدة. جلست منهكا على سريري، فقد أيقنت أنه من العبث الاستمرار في إلقاء نفسي من المنحدر، فالأمر محسوم سلفا. فجأة قامت من السرير مبتهجة، وسحبتني من يدي متوجهة نحو المنحدر. توقفت لبرهة ثم أشارت إلى السماء قائلة بحماس مريب: "انظر، انظر، أ لا تبدو الغيمات وكأنها فئران بيضاء بأجنحة هائلة؟"

"لا أدري". قلت بيأس. "فلم يحدث قط أن رأيت فئرانا مجنحة".

"ولن يكون أبدا بمقدورك أن تراها". قالت بغضب ثم دفعتني بعنف نحو المنحدر.

عواطف المنحدرات

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة