د. يونس البقالي -باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات
لا غَرو في القول أن الولايات المتحدة الأمريكية، لازالت القوة العظمى الأولى، ففيها تجتمع مظاهر القوتين الناعمة[1] والصلبة معا، فعلى قدر ما يبدو نموذج الرفاه الأمريكي مغريا، يبدو البلد قادر على التدخل العسكري في أي موقع على هذه الأرض. ففي وسع هذه الدولة، «ذات المعين الكبير من مقومات القوة الصلبة والناعمة أن تبلغ أهدافها، بجعل الآخرين راغبين ومنجذبين لاتباعها وتغيير سلوكهم في قضايا ومواقف معينة، وليس بأمرهم وقهرهم على فعل ما تريد أو ردعهم عن فعل ما يريدون فعله ولا ترغب هي فيه»[2]، ومع ذلك، خارج أي استخدام للقوة الصلبة، فإن تصدير نماذج جاهزة ونمطية من الثقافة والأيديولوجيا، أحيانا ما يولّد شعورا بالنفور قد يتطور إلى العداء، إذ يستمر التعامل معها على أنها آلية استعمارية غير مباشرة، «ففي العالم الاسلامي تنتشر معالم الهوية الأمريكية في الكوكاكولا وماكدونالد والجينز والموسيقى، لكنها لم يتولد عنها محبو وود وصدقية للسياسة الأمريكية»[3]. هذا، وإن التقدم الأمريكي خلال العقدين الأخيرين، صار بهامش تفوق أضيق كثيرا مقارنة بما كان عليه خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، خاصة وأنها، ومنذ تفكك الاتحاد السوفياتي، في اللحظة التي وجدت نفسها وحيدة في مركز القيادة، لم تعمل على توظيف هذه القوة في اتجاه إنشاء نظام دولي يروم تعميم النفع على الجميع.
مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وما تلا ذلك من انهيار للمعسكر الشرقين وجدت الولايات المتحدة نفسها في ساحة يغيب عنها الخصم، ولحظة مواتية لقيادة العالم نحو مصيره التاريخي. غير أن هذا الواقع بقدر ما غدا في الأمريكيين الشعور بالفخر، فإنه حرك فيهم مشاعر الرهبة والحذر، وأحيانا التردد، فهم مقبلين على عالم لا يجدون فيه عدوا أيديولوجيا مباشرا يمنحهم شرعية القيادة، كما أنهم صاروا في مواجهة عالم لم تكن لتتوضح معالمه بعد، ولن يرغبوا في الانسحاب منه في ظل وجود فرصة تاريخية تجعل من الولايات المتحدة، القائد الأوحد للعالم. أمر كهذا، انتبه له ثعلب السياسات الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر عندما أكد على ضرورة «العودة إلى المبادئ الكلاسيكية للسياسة الخارجية الأمريكية واستحضار عدو إيديولوجي»[4]، غير أن ما انتبه له أيضا هو الوضع الدولي الجديد الذي لم يعد يسمح باستخدام القوة بتلك الكثافة التي كانت عليها في السابق، في ظل التقلبات التي كان يشهدها العالم، لأن «القضايا التي يمكن حلها بالعمل العسكري آخذة في التناقص ، كما أن نوع القوة التي تملكها الولايات المتحدة آخذة في التلاشي يوما بعد يوم من حيث ملائمتها للازمات الدولية التي يمكن توقع حدوثها»[5].هذا ولا نغفل مسألة جوهرية ظلت تتحكم وتوجه القرار السياسي للقادة الأمريكيين عندما يتعلق الأمر بالقضايا السياسية الدولية، وهي أن التوجه الداخلي، وطبيعة النظام الليبيرالي الذي تتبناه الولايات المتحدة، يجعل للنقاش الداخلي الدائر في البلاد نصيبا في توجيه القرارات السياسية الخارجية. فالأمريكيون منشغلون أكثر بما يهمهم ويرتبط بهم في الداخل أكثر من انشغالهم بما يجري خارج الحدود، وأن نجاحات الحزب الحاكم تقاس بمستويات النجاح في الداخل، لا الخارج.
لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب الليبيرالي عموما، سينتهي إلى فقدان ذلك الموقع المركزي الذي ظل من خلاله يؤثر على الأحداث، ويوجهها لخدمة مصالحه، ولتثبيت وضعه الجيوسياسي المعتبر. غير أننا لا ينبغي أن نبني على هذا القول لنفهم منه بأن الولايات المتحدة دخلت طور الركود، فتراجعها غير ناتج البتة عن الضعف بقدر ما يعني ذلك أن هناك قوى جديدة طفت على السطح، وصارت تتقاسم معها نصيبا أوفر من الثروة العالمية، وبالتالي نصيبا من التأثير. فالنمو الذي تسجله القوى الصاعدة بشكل ثابت خلال العقدين الأخيرين، في مقابل تباطؤ النمو في الولايات المتحدة، هو نتاج لحالة طبيعة تلزم علينا ضرورة التمييز بين سوق مكتملة، قطعت أشواطا متقدمة في نموها، وأخرى لازالت في أطوار نموها التي لم تكتمل بعد. وإذا كان ذلك لا يطرح تحديا مباشرا، فإنه «يخلق عالما معقدا لا بد من مواجهته»[6].
سيظل النظام العالمي البديل، في كل الأحوال، منبثقا عن العولمة، ولن يخرج عن سياقها، فضغط الولايات المتحدة على الحكومات من أجل فتح أسواقها، والاندماج في سوق عالمية موحدة تحت حضانتها، لم يؤدي بالنظام ضرورة إلى الاكتفاء بخدمة الأجندات الأمريكية كغاية منشودة، بل فتحت السوق المعولمة آفاقا جديدة للقوى الصاعدة عندما استثمرت الوضع لصالحها بكفاءة غير متوقعة، كما سمح النظام الدولي الجديد بظهور فاعلين جدد، وما رافق ذلك من تعاظم لدورهم في صناعة القرار الدولي، أو التأثير فيه على الأقل، وقد أدى ذلك بما لا يدعو للشك، إلى جعل مفهوم القيادة مفهوما ملتبسا، فبالأحرى أن تقود دولة ما العالم كله.
ولعل انسيابية التدفقات المادية والافتراضية بهذا الشكل غير المسبوق، وسط شبكة العلاقات الإنسانية المعقّدة، أضرّ كثيرا بمفهوم الدولة التقليدي، وأفقد أي إمكانية لأن تقود دولة ما النظام العالمي مهما بلغت قوتها. وبالنظر إلى ما حصل فعلا، لا نملك إلا أن نقر بأن العولمة بقدر ما وافقت بالاسم نظام الأحادية القطبية، بقدر ما فارقت بالفعل جاذبية هذا النظام، ولن يكون نظام ما بعد الجائحة، قطبيا، بل جغرافيا عديم القطبية، ولم تكن العولمة سوى الانحدار الذي تهاوت عليه العديد من المفاهيم التقليدية التي ظلت تأطر الفعل البشري لقرون. فعالم عديم القطبية «ليس ببساطة ناتجا عن صعود دول أو منظمات أخرى، أو بسبب إخفاقات وحماقات السياسات الأمريكية، ولكنه أيضا نتيجة حتمية للعولمة، فقد زادت العولمة من حجم التدفقات وسرعتها وأهميتها عبر الحدود بالنسبة لكل شيء تقريبا»[7]. وأحيانا ما كانت تتم هذه التدفقات خارج سيطرة الحكومات، ومنها التدفقات الممنوعة كالأسلحة والمخدرات التي أثرت على سيادة بعض الدول، وهددت تماسكها، كما سمحت بدعم قدرات دول أخرى، وتقوية موقعها في محيطها الجغرافي، وتأثيرها على القرارات الدولية، ومنها الدول المصدّرة للطاقة. ولا يُستثنى من ذلك، المنظمات غير الحكومية والشركات العابرة للقارات، التي وجدت نفسها تتدخل في سيادة العديد من البلدان، وتوجّه مصيرها.
بهذا «أصبح من الظاهر، بشكل متزايد، أن كون دولة ما أقوى دولة في العالم لم يعد يعني امتلاك احتكار قريب للقوة، فقد أصبح أسهل من ذي قبل بالنسبة للأفراد والجماعات أن يراكموا ويوظفوا قوة مؤثرة»[8]. ولعل ما سيقوي الطرح الانفصالي، بغض النظر عن التوجهات الحمائية المنتظرة للدول، هو تعذر التوافق على نظام تجتمع عليه القوى الرأسمالية التقليدية والقوى الصاعدة على كثرتها وحجم ما ينتظرها من التحديات المرتبطة بسيادتها ورفاه مجتمعاتها. «فمع وجود أطراف كثيرة تمتلك قوة واضحة وتحاول أن تمارس نفوذها، سيكون من الأصعب أن تبني استجابات جماعية، وتجعل المؤسسات تقوم بعملها، فحشد العشرات أصعب من حشد قلة قليلة»[9]. فعالم ما بعد أمريكا، كما يحلو للبعض تسميته، عالم مركب ومتشابك، سيتشكّل «فوق الدولة وتحت الدولة وخلال الدولة»[10]، ومع ذلك فإنه سيُحتفظ لهذا البلد بدور ريادي بعيدا عن الفهم التقليدي لمعنى القيادة كما تمثّل في أذهاننا خلال تاريخينا المعاصر.
إن النظام العالمي المستجد سيفارق بشكل تدريجي وحتمي، الخريطة السياسية التي ألفناها لعقود، والذي يبدو في الأفق، أن الاتجاه الهيكلي للخريطة الجيوسياسية العالمية ينبئ بوضع «النهاية لسيطرة الغرب على العالم»[11]، إن لم نقل نهاية "الغرب" نفسه، كمفهوم وبنية ظلت لقرون توجه مسارات التاريخ، وتدون فصوله، خاصة في خضم تضارب الرؤى بين كياناته الوطنية، وتباعد وجهات النظر فيما بينها، عندما يتعلق الأمر بقضايا تهم مصيره، أو تتعلق بمستقبل البشرية ككل. نقف على أمثلة لذلك حتى داخل الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر نموذجا لتكتل أبى إلا أن يجعل من المبادئ والقيم الليبيرالية الغربية ركائز لدستور عابر للحدود الوطنية، كما نستشف ذلك من حجم الخلاف الحاصل بين أوروبا والولايات المتحدة حول بعض المسائل الدولية ذات البعد الاستراتيجي[12]. فلا شك إذن، أن «تدبير شؤون العالم، أو هذه التعددية التي تلوح في الأفق، يبدو العالم الغربي فيها غير قادر على التصرف ككتلة واحدة، كما أنه منقسم بعمق حول قضايا الأمن والاقتصاد، وعلاقات الشمال بالجنوب، ودور المنظمات الدولية... فظهور الدول الغربية كمجموعة من الحلفاء لا يعني أن ذلك حقيقة واقعة».[13]
حقيقة كهذه، هي ما دفعت باسكال بونيفاص إلى التساؤل بحس المستغرب، عن المانع من فك ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة، والجدوى من وجود الناتو، في ظل وضع جيوبوليتيكي مغاير تماما لما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. وضع يراه زاخرا بالآفاق الواعدة في الجهة الأخرى من العالم، حيث تبدو أوروبا أقرب إلى تقاسم تطلعاتها مع باقي الأمم، بما في ذلك خصومها الشرقيون، عندما يتعلق الأمر بقضايا تتجاوز حدة تهديدها مصير الغرب إلى مصير البشرية جميعها. «فاليقينيات التي بني عليها تحالف الناتو تنتمي لواقع جيوبوليتيكي آخر، مخالف تماما للمشهد الدولي الحالي»[14] بنظر الرجل، فما الداعي إلى الوفاء لها، واستحضارها بشكل متجاوز لما يفرضه العقل الرياضي، ومنطق المصالح المشتركة.
لا شك أن أبواب الدبلوماسية مشرعة، في ظل واقع مفتوح على مشهد جيوبوليتيكي تتجاذب فيه المصالح، وتتشابك على أرضيته المنافع، واقع ستتأثث فضاءاته بالجغرافيا والاقتصاد، وستتوارى الثقافة والسياسة فيه نحو أركان ثانوية. وعليه، فالخريطة السياسية لعالم الغد ستتجه لتشكيل معالمها بقوة، ليس على مقاسات السياسة، وإنما على ما يفرضه الاقتصاد، حيث تكمن منابع الرفاه والمنافع المشتركة. وربما تنبني العلاقات بين الدول داخل الجغرافية الاقتصادية الواحدة، على تجاوز نظام تقسيم العمل التقليدي، نحو نظام للاتصال والترابط أكثر تكاملا وواقعية، يتوافق وقدرات وكفاءة كل دولة داخل محيطها الجغرافي، نظام سيتجاوز الطبيعة السياسية للمكوّن، بشكل ما، ويستحضر القدرة والكفاءة كمقوّمات للشروع في الارتباط. ولعل التركيز على بناء اقتصاد جذاب ومستديم يستوعب شروطه التاريخية والمجتمعية، هو ما سيضمن تحقيق التماسك المنشود والاستقرار المأمول لأي تجربة سياسية.
الهوامش
[1]يقترن مصطلح القوة الناعمة ومفهومها بجوزيف ناي في التسعينيات، ومع ذلك تعود جذور معناه بصورة غير مباشرة إلى كتابات أساتذة المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية في الحرب الباردة. فالقوة الصلبة يتم اللجوء إليها للإرغام أو العقاب على القيام بفعل بما يرضي الطرف الآخر أو العدول عنه. في حين أن القوة الناعمة تغري وتقنع وتحث علىالاستجابة والتوافق مع أجندة صاحب القوة الناعمة. ودرس ناي معطيات البيئة الدولية بعد الحرب الباردة وحلل عناصرها مثل الأيديولوجية والثقافة والمعلومات والمؤسسات والتقنية والتعليم والقيم السياسية والسياسة الخارجية وأنماط الدبلوماسية وعدها من مصادر القوة الناعمة إلى جانب مصادر القوة التقليدية مثل الموقع الجغرافي والمساحة والسكان والقدرات الاقتصادية والعسكرية.
[2]كاظم هاشم نعمة، "القوة الناعمة الصينية والعرب"، مجلة سياسات عربية، عدد 26، أيار-مايو 2017، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ص 28.
[3] نفسه، ص 29.
[4] كيسنجر هنري، نحو نظام عالمي جديد، ترجمة أحمد محمود، مجلة الثقافة العالمية، الجزء 2، العدد 17، السنة 13، يوليو 1996 ، ص 12.
[5] نفسه، ص 12.
[6] جوزيف س، ناي، "هل انتهى القرن الأمريكي"، مرجع سابق، ص 93.
[7] ريتشارد ن. هاس، "ما بعد الهيمنة الأمريكية"، مرجع سابق، ص 30.
[8] نفسه، ص 31.
[9] نفسه، ص 31.
[10] آن ماري سلوفتر، "الميزة الأمريكية- القوة في القرن الشبكي"، العنوان الأصلي للمقال: "America’sEdge. Power in the Networked Century"، المنشور في مجلة "Foreign Affairs"، عدد: يناير-فبراير 2009، ترجمة، حمدي أبو كيلة، الثقافة العالمية، عدد: 159، مارس-أبريل 2010، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2010، ص 38.
[11] Pascal Boniface, Comprendre le Monde, les relations internationales expliquées à tous, Paris, Armand Colin, quatrième édition, 2017, P. 19.
[12] Pascal BonifaceRequiem pour le monde Occidental, Paris, Éditions Eyrolles, 2019, P. 128 – 135.
[13] Ibid. P. 130.
[14] Ibid. P. 131.