د. يونس البقالي - باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات
تقديم
لا شك أن الكوارث الطبيعية، وما رافقها من انعكاسات وخيمة على الاقتصاد والمجتمع خلال فترات طويلة من التاريخ الحديث والمعاصر، شكّلت عاملا من عوامل فاقة وبؤس الإنسان المغربي، وإملاقه، وتيهه في البلاد بحثا عن مواطئ قدم أكثر أمنا. كما اعتبرت المساغب والجوائح أحد أسباب التراجع الديموغرافي الذي لازم البنية الديموغرافية المغربية لقرون، كما أنها حالت دون أية إمكانية لتطوير الإنتاج ومراكمة الثروات، خاصة وأن الاقتصاد المغربي ظل متقوقعا داخل بنية الاقتصاد الفلاحي المتمحور حول الأرض، وما تجود به.
ومن تأثيرات هذه الكوارث الطبيعية أيضا، أنها منعت أية امكانية لاستقرار ملكية الأرض وتركّزها، بشكل يسمح بتطوير أنماط الانتاج الزراعي. ففي معظم الأحيان كانت هذه الكوارث تفتِك بعائلات بأكملها وتُرحّل الباقي منها، لتتحول الملكيات المتخلى عنها إلى أوقاف، و أراضي بوار.
على العكس من المغرب، أصبح الوضع في أوروبا مغاير لما كان عليه في السابق، بفعل موجات الثورة الصناعية التي عمّت الغرب الأوروبي منذ نهاية القرن الثامن عشر. لقد استطاعت العديد من الدول الأوروبية الغربية تطوير أساليبها في مواجهة الكوارث الطبيعية، واختراع تقنيات الكفيلة بتمكينها من تجاوز واقع الندرة في الإنتاج، في الوقت الذي ظل فيه المغاربة متّكلين على الإرث التقني التقليدي الذي تركه الأجداد، ومتعلّقين برحمة السماء، فإن جادت تنعّموا، وإن حبَست نِعمها هَلَكوا، ولم يكن لهم من آليات لمواجهة الكوارث الطبيعية، أو حتى التخفيف من حدّتها، سوى الدعاء والترحُّم على الموتى.
كذلك كان الحال، واستمر على ما هو عليه إلى حدود فترة الحماية، عندما تجرّأ المستعمر، وباشر استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي، وكثّف من عمليات تجفيف المستنقعات المتاخمة للأراضي الزراعية، بفضل ما توفّر لديه من التقنيات والأساليب العلمية في النشاط الزراعي. فإلى أي حد امتد أثر المساغب والجوائح في مغرب ما قبل الحماية؟ وكيف أمكن لواقع "الندرة" أن يشكّل معالم الاقتصاد المغربي خلال هذه الفترة؟ وكيف تعامل المغرب مع الآثار الناجمة عن المساغب والجوائح؟
1 - مغرب ما قبل الحماية: الأزمة الممتدة...
جميع الدراسات التي اتخذت من المجتمع المغربي لما قبل الحماية موضوعا لها، تكاد تتفق على أن هذا المجتمع – بوصفه تشكيلة اجتماعية واقتصادية – اتّسم وضعه بسمات من التقهقر والركود والانكماش في التقليد. وسواء تعلّق الأمر بالحياة الاقتصادية للمغاربة أو بالبنى الاجتماعية أو التشكيلات السياسية والعوائد الثقافية... الخ، فإن طابع الثّبات والركود، وأحيانا كثيرة، التقهقر، ظلّ بمثابة سمة مميّزة للوضعية التاريخية الممتدة على فترة ما قبل الحماية، وعلامة بارزة لتمثيل حال المغاربة خلال تلك المرحلة.
وإذا كانت الجهود الإصلاحية التي قام بها بعض السلاطين، قد سَعت في بعض من مَراميها، إلى إخراج البلد من قوقعته المنعزلة، وربطه بما كان يحيط به من المتغيّرات الكونية، ونقله بالتالي لموقع تاريخي يليق بحجم إسهاماته الحضارية السابقة، فإنّ مثل هذه الجهود بقدر ما استطاعت بعث روح التجديد في الجسد المغربي والاستجابة للظرفية المرحلية المحيطة بفترات حكم هؤلاء السلاطين، فإنها سرعان ما تبدأ في الترنُّح لتقع من جديد بمجرد ما يُباغت الموت هؤلاء السلاطين.
نقف على تجارب تاريخية قوية للإقلاع، رامت تخطيط مسارات للتقدم، والخروج من المأزق، بغاية الارتباط بالمشترك الحضاري الكوني في جانبه التقني والاقتصادي على الخصوص. وهو التحدي الذي حفزّ همم عدد من السلاطين المغاربة خلال فترات من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، ولعل تجربة أحمد المنصور السعدي (1578- 1603م)، خير مثال على ذلك، إذ هي مغامرة فريدة من نوعها استطاعت أن تضمن للمغرب موطأ قدم بين الامبراطوريات العظام في ذلك العصر، مهما أثارت تحركات هذا الحاكم من الجدل بين الباحثين. كما أن تحديثات السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757- 1789م) بدورها استطاعت إيقاف التشرذم الذي طال جهاز الدولة المركزي، وبناء مخزن مركزي حديث، عبر من تدخلات عناصر جيش البخاري في السلطة، وإقرار نظام مالي منفتح على الآفاق التي تتيحها التجارة الخارجية، غير مرهون في ضيق عائدات الضرائب الداخلية.
إذا كانت هذه التجارب علامة تحيل إلى قدرة المغرب على الانبعاث، وفك رموز الانحلال، فعادة ما كان يلي فترات القوة والاستقرار، أزمات سياسية، وحالة من التفسّخ السياسي وانحلال الدولة، تستغرق من البلد سنوات وعقود، قبل أن تعود الأمور إلى مُستقرها، وكأن الدولة المركزية طيلة فترات التاريخ الحديث والمعاصر ظلت مقيدة في ديناميتها التاريخية داخل نظام دوري يترواح بين القوة والضعف، التماسك والانحلال، التمركز والتسيب.
لقد غدت فترات الضعف واللاّستقرار التي عاشها المغرب خلال فترات ما قبل الحماية، حالة مزمنة يصعب على الباحث تجاوزها والقفز عليها لحظة استعراضه لملامح التاريخ المغربي الحديث والمعاصر. ورغم المستجدات والمتغيرات التي أحاطت بالمغرب خلال تلك المرحلة، والتي شكّلت فرصة سانحة للقفز على أسباب الأعطال التاريخية باتجاه ما هو متاح للبشرية آنذاك، فإن تأثيرها لم يكن ليطال البنية الداخلية للمجتمع المغربي، ويؤثر فيها باتجاه التحديث.
لقد ظلت البنية الذهنية والمادية لمغرب ما قبل الحماية رهينة التقليد، الأمر الذي جعل منها بنية تكاد تكون راكدة، تُقِيم الثبات على الحال قاعدة، وتطمئن لفهمها التقليدي للظواهر، وغدَا ميكانزيم اشتغال هذه البنية ميّال في طبعها لرفض الانفتاح على المتاح الحضاري، لتتجه شيئا فشيئا نحو التفكّك والانحطاط والتقهقر، وإن ببطء، قبل أن تتدخل الأطراف الخارجية عنوة في البلاد.
مؤشرات كهذه قد تحيل في معناها المادي إلى أننا أمام مجتمع يكاد لا يراوح موقعه التاريخي، محجوز في تناقضاته الداخلية التي ما فتئت تَكبر، وتصبح بادية للعيان عندما بدأ الأجنبي الأوربي يتدخل بشكل سافر في الأوضاع الداخلية للمغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبحدّة أكبر خلال العقود الأخيرة من هذا القرن، وذلك على الرغم من المحاولات المُضنية التي بدل الجهد فيها السلطان الحسن الأول (1873- 1894م)، من أجل إعادة ضبط الأوضاع والحفاظ على تماسك المجتمع.
أصبح الوضع خلال هذه المرحلة من تاريخ البلاد مفكّكا على جميع المستويات، تجلّى ذلك في تدهور الأحوال المعيشية للسكان بعدما ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وتفاقمت آثار الأزمات المالية في وقت تضرّرت فيه العملة بشكل كبير، وكثرت الضرائب والأعباء المالية المفروضة على المغاربة. كما اتّجه الاقتصاد المغربي نحو التراجع بعدما ضعفت القدرة التنافسية للمنتجات المغربية من المواد الفلاحية والحرفية أمام غزو السلع والبضائع الأوربية للأسواق المغربية، وانكمشت التجارة البرية لحساب التجارة البحرية المرتبطة بالأسواق الأوربية، وانتهى الأمر بوضع الميزان التجاري المغربي في حالة عجز مستديم، خاصة وأن المغرب لم يكن يتوفر على الإمكانات الانتاجية واللوجستيكية التي تؤهله لضمان التوازن في معاملاته التجارية الخارجية العابرة للبحار والمحيطات.
بالإضافة إلى ذلك فإن القرار السياسي بدأ ينفلت تدريجيا من يد السلطة المركزية، عندما صارت توجيهات الدبلوماسيين الأجانب تؤخذ بعين الاعتبار لحظة إصدار القرارات المخزنية المتعلقة بالشأنين الداخلي والخارجي. تلاشت بذلك إرادة النخبة المخزنية، وتشتَّت القرار السياسي، وأفرزت المرحلة واقعا متأزما دبّ فيه الوهن، في ظل إعلان النُّخب إفلاسها وعدم قدرتها على لَمِّ إرادة المغاربة من أجل التعامل مع الوضع الجديد بطرق وأساليب مغايرة لما كان عليه الأمر في السابق.
امتدّت الأزمة المغربية لعقود قبل فرض الحماية عليه في 30 مارس 1912م، وقد كرّس ديمومتها سلسلةٌ من الأزمات المحلية المرتبطة بتحرُّك بعض القبائل في مناطق بعينها، وأخرى تعدّت خطورتها حدّ التأثير على مجالها الجغرافي، لتَطال السلطة المركزية نفسها وتُخلخل استقرار البلاد. وما فاقم من حدّة الأزمة أيضا، انشغال المغاربة بمضايقة الأجانب في الكثير من المواقع، ودفع التسربات الاستعمارية عن أطراف البلاد. ولما كان عصب قوة الدولة في اقتصادها، فإن واقع الندرة والركود اللذان ظل الاقتصاد المغربي يرزح تحت نيرهما لفترات طويلة، لم يكن ليسمح بتثبيت أركان السلطة المركزية على الجغرافيا المغربية الممتدة، كما حال هذا الواقع دون تنسيق سبل التعامل مع الأجنبي الذي تمكن تدريجيا من إيجاد ثغرات تفك ارتباط العديد من القبائل بالسلطة المركزية. ولعل التعاقب الدوري للمساغب والكوارث الطبيعية ممّا زاد في خلخلة الأوضاع، وهدّد التماسك بين السلطة والمجتمع، وأضر بالترابطات التاريخية التي أنتج من خلالها المغاربة فعلهم التاريخي.
ففي حالة المغرب، كما في كثير من العوالم التقليدية، لم تشكّل "الأزمة" نِتاجا طبيعيا لخلل وظيفي مؤقت، ولا لحظة عابرة مرتبطة بمخاض اجتماعي انتقالي، بل شكّلت – وكما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات التاريخية – ثابتا من ثوابت التاريخ، تَتَماها معه، بالقدر الذي يمكِّنُها من أن تعيد تشكيلَه. بدل أن تُشكّل الأزمات "استثناء"، يُعيق بأثر خفيف الديناميكية التاريخية للمغاربة، فإنها ظلّت تتكرّر بشكل دوري، حتى كادت تصير بمثابة القاعدة التي ينضبط لها التاريخ، و مصيرا مُحتَّما يَحيا المغاربة على انتظاره.
عادة ما نميز في هذه الأزمات، على مستوى الشّكل والطبيعة، بين أزمات بشرية، الفاعل فيها إرادة الإنسان إذ تنشد التغيير بالفعل، أو برد فعل يلحقها بالأذى، وأخرى طبيعية تتدخل فيها الطبيعة بشكل مباشر وتام، تَعطِب آثارُها ديناميكية المجتمع التاريخية، وتعيق استدامتها، وتشتّت استقرار وتماسك المجتمع، ومنها كوارث طبيعية، أشدّها وطأ على البلاد، الجوائح والمساغب، التي يرافقها عادة، اجتياح الجراد وموجات الجفاف وانتشار الأوبئة والمجاعات والطواعين... الخ. من باب الإشارة، وتأسيسا على ما سبق ذكره، لا يمكننا أن ننفي أن ثمّة علاقة تجمع بين الأزمات السياسية والجوائح والمساغب، فالأولى، أي الأزمات السياسية، تبقى في معظم الأحيان نِتاجا طبيعيا، وامتدادا تاريخيا لما تحدثه الكوارث الطبيعية من ضرر يلحق بالمجتمع والاقتصاد المغربيين.
فكيف إذن أثّرت هذه الكوارث على البنية الاجتماعية والاقتصادية لمغرب ما قبل الحماية؟ وكيف جاء انعكاسها على حركيته التاريخية، وديناميكية مكوناته الاجتماعية والسياسية؟
2 - المساغب والجوائح وتعميق واقع النّدرة.
لمّا كانت الكوارث الطبيعية بمثابة «تغير في مجرى النّظام السائد في هذا الكون، النظام الذي ألِفه الإنسان وتعوَّد أن يتعامل معه»[1]، فقد أثرت بشكل فظيع وجذري على البنية الاجتماعية لمجموعة من القبائل المغربية، وبقدر ما ساهمت في تراجع البنية الديموغرافية وحالت دون استقرار المجموعات البشرية في مناطقها المعهودة. وإنها - أي الكوارث الطبيعية – غيّبت أي إمكانية لاستقرار ملكية الأرض وتمركزها، بالشكل الذي يضمن تطوير الإنتاج الفلاحي وتنميته، والانتقال به من واقع الندرة إلى الوفرة في الإنتاج، مادام الاقتصاد كلّه مرتكز على الفلاحة.
كانت الأوبئة على سبيل المثال، «تحصد عائلات بأكملها، فتضيع ممتلكاتها، وتُفوَّت أحيانا لصالح الزوايا مقابل إيوائها لضحايا تلك الأوبئة والمجاعات، وأحيانا أخرى لصالح قواد المخزن، وأمغارات القبائل»[2]، فما إن تمرّ موجة من الوباء أو الجوع، حتى يخلّف أثرها دمارا هائلا تتعدّد أوجهه، حيث تصبح الموارد الاقتصادية هزيلة، وقوة العمل البشرية واهنة وضعيفة، فيركد الإنتاج الفلاحي، وتتأثر به الصناعة الحرفية في المدن التي تكون في العادة وثيقة الصلة بما تدرّه الأرض من منافع وخيرات زراعية وحيوانية. تتراجع بذلك الموارد المالية، ليفتح الباب لانتشار النهب والسرقة وما يليها من الفتن والاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وتصبح العديد من القبائل مُجبرة على الامتناع عن تأدية الضرائب إلى المخزن، مما يعرّضها في الأخير إلى "الحرْكات" المخزنية قصد جباية هذه الضرائب بالقوة، حفاظا على قيام الدولة واستمرارها.
لقد ظل المغرب طيلة فترات ما قبل الحماية، مرتبطا أشدّ الارتباط برحمة الطبيعة، وتقلّبات أحوالها، ففي ظل بنية اقتصادية زراعية تتّكل في إنتاجها على تقنيات وأساليب عتيقة وتقليدية لم تتفاعل مع حاجات ومتطلّبات العصر، استمرت البلاد تعاني من غضب الطبيعة، وتخضع لشروط الجو والمناخ. ومثل هذه البنية الإنتاجية هي ما حَتّم على العديد من الدراسات التاريخية والبحوث الأكاديمية، أن تؤطّر الفعل الاقتصادي المغربي في مفهوم رئيس، هو مفهوم "الندرة الاقتصادية" التي طَبعت واقع الإنتاج المغربي لما قبل الحماية. وهو مفهوم أصبح بنظر العديد من الباحثين شرطا ضروريا لزِم استحضاره عند الكتابة عن التاريخ الاقتصادي المغربي، من أجل تحليله وتفسيره والإحاطة بأحواله.
ولعلّ الاقتصاد الفلاحي العتيق الذي طبع تاريخ المغرب لقرون، أضحى أحد أهم عوامل اللاّستقرار خلال الفترة التي سبقت فرض الحماية، في بلاد انفتحت بطبيعتها التضاريسية والمناخية على تقلّبات أحوال الجو. فقد كان للجفاف الذي عادة ما يَدوم لسنوات، ضرر كبير على المجتمع والاقتصاد المغربيين. فلا يتوقف الأمر عند القحط الذي قد يعمّ البلاد بسببه – أي الجفاف -، وإنما يمتدّ ليفتح الباب على مصراعيه لانتشار الجراد الذي يأتي على الأخضر واليابس في كثير من الأحيان، فتنتشر المجاعات، ومعها تَكثر الجُثث، لتتفشّى الأوبئة والطواعين بعدها، فيكثر الهرج والمرج بين الناس، وهو ما يدفعهم إلى استبدال مناطق سكناهم، وطَرْق باب الهجرة - إن اقتضى الأمر ذلك – باتجاه مناطق أكثر أمنا وأوفر غذاء، وعادة ما تَعمُّ الفوضى وانعدام الأمن المناطق المنكوبة. هكذا تجري الأشياء عادة، في سلسلة حلقاتها مترابطة، إذا تداعت منها حلقة، انسلّت معها باقي حلقات السلسلة، وتشتّتت.
تُبرز الأحداث التاريخية التي ترصد الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمغاربة ما قبل الحماية، أن هؤلاء ظلوا مرتبطين بشكل وثيق بالمناخ وتقلّباته، فإذا جادت السماء، تمكّن الناس من زراعة الأرض في اطمئنان، و«جاءت "الصابة" طيّبة في مقدارها وأثمانها، أما إذا حدث الجفاف، فمعنى هذا ضعف المحصول أو بطلانه، وارتفاع أسعار الغلال»[3]. لقد كان الجفاف بذلك، بمثابة الوعد المشئوم الذي يشغل ذهن العوّام ويتعلّق به حديثهم حتى يأخذ منه حيّزا كبيرا يمتد لأيام وشهور، بل إنه عُدّ من الثوابت في خطاب المغاربة أثناء استطلاعهم لأخبار بعضهم البعض، والسؤال عن أحوال البلاد، وأحيانا كثيرة ما جُعِلت الكوارث معيارا لضبط التواريخ. وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدلّ على عمق تأثير الجوائح في الحياة العامة للمغاربة، لأن كلّ شيء يتأثّر بها إن ظَهرت، ويَسْلم إن لم تظهر، والجفاف منها، حلَقة لسلسلة من الأزمات التي لا تتوقّف.
يصوِّر الناصري هذه الوضعية بشكل فريد، فيقول:
«ثمّ عَقِب ذلك انحباس المطر ولم تنزل من السماء قطرة وأُجيعت الناس، وهَلكت الدوابّ والأنعام، وعَقِب ذلك الجوع، ثمّ الوباء[4] على ثلاثة أصناف، كانت أولا بالإسهال والقيء في أوساط الناس بادية وحاضرة، ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصّة، هلك منهم الجَمْع الغفير، وكان إخوانهم يحفرون على من دُفِن منهم ليلا، ويَسْتلِبونهم من أكفانهم [...] وبعد هذا كله حدث الوباء بالحمّى في أعيان الناس وأماتهم، فهلك منهم عدد كثير»[5].
كانت هذه صورة عن الجوائح التي أصابت المغرب دفعة واحدة خلال سنة (1295هـ/1878م)، وقد اعتبرها الناصري من أشدّ السنين على المسلمين[6]، لتعدّد المصائب والكروب فيها. غير أن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن الأثر لا يتوقّف عند حدود السنة الواحدة، وإنّما يمتدّ ليشمل سنوات أخرى لاحقة، وقد تشتدّ حدّة الأزمات والكوارث الطبيعية لتعمّ سائر تراب البلاد، أو مناطق شاسعة منها.
ما من شك في أن الاقتصاد المغربي خلال القرن التاسع عشر، قد ظلّ عتيقا يتّكل في تنمية ثرواته على القطاع الأول الذي مارسه الإنسان منذ بدايات اتّصاله بالحضارة لآلاف السنين. ولم ينفكّ المغاربة في بحثهم عن الثروة والرخاء عن الارتباط بالفلاحة بإنتاجَيْها الزراعي والحيواني، إذ ظلّت لقرون المصدر الأول عندهم لسُبل العيش، ومقصَدا مطلوبا لتنمية الثروة، بل إن «الفلاحة لم تكن تعرف غير الحبوب وغراسة أشجار الفواكه»[7].
في حين كان المجتمع الأوروبي الرأسمالي قد قطع أشواطا في التحولات الاقتصادية، وتجاوز موجات الثورات الصناعية التي قَلبت بنياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... الخ، حيث أصبحت بوادر الانفصال عن مرحلة الرأسمالية الصناعية، القائمة أساسا على الاستثمار في الإنتاج الصناعي، والانتقال إلى الرأسمالية المالية التي تتّكل على أساليب ومكانيزمات جديدة في عمليات الاستثمار، بادية للعيان، بعدما طَفا على السطح فاعلون جُدد حرّكوا الإنتاج، وسهروا على تنشيط الاقتصاد الرأسمالي، كالبنوك وشركات المساهمة المفتوحة على تعدّد المساهمين في رساميلها الضخمة. هذه الأخيرة التي أصبحت آلية تحريك الإنتاجين الفلاحي والصناعي الأولى في العوالم الرأسمالية، كما شكّلت الفاعل الرئيس في عمليات الغزو التجاري التي قامت بها المجتمعات الرأسمالية للأسواق الإفريقية والأسيوية التقليدية.
فخلال القرن التاسع عشر أصبحت المدن بمثابة المحرِّك الأساس للاقتصاد الأوروبي، وهو ما جعل منها مراكز استقطاب للسكان الذين بدأوا يتحركون في مجموعات صغرى، وبشكل موسمي من الأرياف في اتجاه المدن، قبل أن تصير الهجرات الداخلية الأوروبية تتمّ في حركات نزوح جماعي تأخذ وجهة واحدة نحو المدن. وقد «حرّك هذا النزوح البشري، ذلك الصعود المفاجئ والسريع للصناعة، والتي ما فتأت حاجاتها من اليد العاملة القادرة والمؤهلة تتزايد، بالإضافة إلى صيرورة التحديث التي مسّت القطاع الفلاحي، فجعلت المكننة المتزايدة لآليات الإنتاج الزراعي الفلاحة أقرب إلى الاستغناء عن اليد العاملة البشرية»[8].
وقد أعطى التزايد المثير لعدد السكان في أوروبا، «قوة دافعة كبيرة للاقتصاد»[9]، وقد أدت هذه الزيادة بدورها إلى «توليد قوى عاملة جديدة، وقوى عاملة فتية تحديدا، وزيادة في أعداد المستهلكين»[10]، الذين تكدّسوا خاصة في المدن، وتكبّدوا عناء بناء القوة الصناعية الأوروبية. بذلك أصبح العالم الأوروبي يبدو أكثر شبابا من أي وقت مضى، فتوافرت فيه محفزات الانطلاق والمبادرة، في الوقت الذي كانت فيه القارات الأخرى تبدو ساكنة وشبه مستقرة في نموها السكاني البطيء.
ومما زاد من قدرة البنية الديموغرافية الأوروبية على التضخم، ذلك التطور الذي شهده الميدان الطبي، والتحسُّن الذي مسّ شروط العيش، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته كثافة شبكة الطرق والسكك الحديدية والمعابر جميعها، في كسر عزلة الأرياف وربطها بالحواضر، فما «كان يكبح النمو السكاني في المرحلة ما قبل الصناعية لم يكن ارتفاع معدل الوفيات بين الناس، بل الكوارث الدورية مثل المجاعات وسوء التغذية التي كانت محصورة محليا في أغلب الأحيان».[11] وإذا كان وقع المجاعات قد خف على مجتمعات الغرب الأوروبي خلال تبك الفترة، فإن ذلك قد حصل بفضل ما أتاحته الثورة التقنية من سرعة في التدخل، وتدارك المصائب، وما كان ذلك ليحصل إلا بفضل النجاعة الكبيرة «في خدمات النقل، بالإضافة إلى التحسن العام بطبيعة الحال في كفاءة الحكومة والإدارة»[12].
أمّا بالنسبة للمغرب، وباعتباره أحد البلدان التقليدية آنذاك، فقد استمرّت الفلاحة في تحريك دواليب اشتغال الاقتصاد المغربي، وشكّلت مجال اشتغال الغالبية العظمى من المغاربة، ولم يكن هؤلاء يتنفّسون الصعداء إلا في مواسم هطول الأمطار بالقدر الكافي. كما أن الإمكانيات التقنية المتاحة آنذاك لم تكن لتسمح بتطوير الانتاج، فبالأحرى العمل على تطوير تقنيات النقل والتسويق، «ففقر التربة وعتاقة التقنيات لا تؤثر في الحصول على مردودية مريحة، إلا في المواسم الفلاحية الجيّدة»،[13] ومهما طال أمدها، إلا وأعقبها فترات من الجفاف والقحط تدمر المحصول، وتدفع في اتجاه استنزاف المخزون.
يتبع في القسم الثاني على موقع باب المغاربة فكونوا في الموعد.
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] أحمد صدقي الدجاني، "الكوارث الطبيعية، آفة الجراد"، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة الدورات، الرباط، 1409ه، ص 15.
[2] عبد السلام حيمر، "النخبة المغربية وإشكالية التحديث"، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2001م، ، ص 84.
[3] محمد الأمين بزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"، منشورات كلية الآداب العلوم الإنسانية، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 18، الرباط، 1992، ص 34.
[4] المقصود هنا الكوليرا
[5] خالد الناصري، "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، تحقيق وتعليق أحمد الناصري، منشورات وزارة الثقافة والاتصال، الدار البيضاء، ج3، 2001م، ص 182.
[6] المقصود بهم المغاربة، فعادة ما يستخدم هذا المصطلح في المصادر المغربية، للدلالة على المغاربة، إذ لم يكن للحدود من معنى كبير في دار الإسلام التي تجتمع داخلها جميع أوطان المسلمين. ولم يكن لمفهوم "الوطن" أن يترسخ داخل الوعي الجمعي للمغاربة فبالأحرى أن تتداوله الكتابة التاريخية، حتى يصح الحديث عن "مغاربة" مقابل "جزائريين" أو "تونسيون"... الخ.
[7] عبد الكريم غلاب، "قصة المواجهة بين المغرب والغرب"، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 186.
[8] Jean-Claude CARON et Michel VERNUS, « L’Europe au XIX siècle, Des nations aux nationalismes 1815-1914 », Edition Armand Colin, Paris, Deuxième tirage, 2001, P : 21.
[9] إريك هوبزباوم، "عصر الثورة (أوروبا 1789 – 1848)"، ترجمة فايز الصُّياغ، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2007، ص 321.
[10] نفسه، ص 321.
[11] نفسه، 323.
[12] نفسه، ص 324.
[13] Jean BRIGNON, Abdelaziz AMIN, Brahim BOUTALEB, Guy MARTINET, Bernard ROSENBERGER avec la collaboration de Michel TERRASSE, « Histoire du Maroc », Hatier, Casablanca, Librairie nationale, 1967, P : 304.