ياسين الحراق: شاعر وباحث في التاريخ
يعبر الطبخ عن مستوى الحضارة الإنسانية، باعتباره جزءا من التاريخ البشري، فالشعوب التي تتقن فنون الطبخ تتقن أيضا فعل الحضارة. ومن ثمة كان الطبخ انعكاسا للتميز الثقافي والذوق السليم؛ لاسيما وأن الطعام قد ساعد عبر العصور على تطور المجتمعات ونموها وتوسع المدن والحواضر، ومكن من إقامة تواصل تجاري بين مختلف الأجناس. لكنه بالمقابل، لعب دورا حاسما في نشوء الصراعات العسكرية ومد جسور البحث عن عوالم جديدة كاكتشاف القارة الأمريكية، إلى أن تحول - الطعام - إلى موئل خصب لاشتقاق علوم متعددة أهمها، علم التغذية. [1]
وانطلاقا من الأهمية التي صار عليها الطبخ في تاريخ الشعوب والحضارات، دونت العديد من مؤلفات الطبخ منذ القدم. ورغم الصعوبات التي يكتسيها البحث التاريخي في شقه الاجتماعي باعتبار اللقى المادية التي تعزز الخلاصات والاستنتاجات تبقى نادرة ويصعب الاعتماد عليها في تكوين إحاطة دقيقة عن مطبخ كل حضارة؛ فإن "علوم الآثار" و"الكودكسات" و"الباليوغرافيا"، كشفت عن معطيات هامة يمكن البناء عليها لتكوين صورة عن المطبخ العربي والمغربي المدون.
وهكذا دونت الأطعمة لأول مرة عبر الألواح البابلية المكتشفة عن طريق الكاتب الفرنسي جان بوتيرو Jean Battero ويرجع تاريخها إلى ما يقرب من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. وقد ترجمها إلى اللغة الفرنسية في كتاب "La plus vieille cuisine du monde ".[2]
وتكمن أهمية الألواح المكتشفة في تقديمها لمعطيات مهمة عن أنواع الطعام والمنتجات الموظفة في عملية الطهي خلال العصر القديم وهي منتجات لا تختلف كثيرا عن ما هو متداول الآن من خضروات وتوابل وفواكه ومشروبات غير أن ما يميزها هو إبداع شعوب بلاد الرافدين في تقنيات التحضير وأنواع الوصفات التي غدت مهجورة، وطرائق تقديم الولائم.
وإذا كان العراق له السبق في تدوين الطبخ وإن كان على ألواح طينية، فقد حافظ أيضا على تفرده في هذا المجال بإصدار كتابين خلال العصر العباسي يعدان مرجعا أساسيا في التنقيب عن تاريخ الطعام والمطبخ، وهما بالترتيب: كتاب "الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب" لابن سيّار الوراق خلال القرن العاشر الميلادي، حققه كل من حبيب الزيات والمستشرق الفنلندي كاي أورنبري، وسحبان مروة، ثم كتاب "الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية" لمحمد بن حسن البغدادي خلال الربع الأول من القرن الثالث عشر ميلادي الذي قام بتحقيقه كل من داوود الجلبي وفخري البارودي.
كما ينافس العراق، المغرب الأقصى إذ عرف خلال الفترة نفسها صدور كتاب مهم عن المطبخ المغربي الأندلسي، غير أنه يعود لمؤلف مجهول لم يتم بعد تحديد هوية صاحبه ولا تاريخ تأليفه بالتحديد بسبب البتر الذي تعرضت له الصفحة الأولى من المخطوط الوحيد المتوفر.
ويتعلق الأمر بمؤلف "أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين" الذي يعود إلى فترة القرن الثاني عشر ميلادي، حسب محقق الكتاب الباحث المغربي عبد الغني أبو العزم.
وتبعا لما سبق، لم يؤلف العرب كتبا في الطبخ إلا أواخر العصر العباسي وبالتالي فإن كل ما سبق هذا العصر لا يشكل سوى نتف متفرقة بين الكتب كما هو الحال عند صاحب مؤلف "منهاج البيان فيما يستعملها الإنسان" لابن جزلة الدمشقي وهو كتاب في مفردات الطب لكنه احتوى في متنه على العديد من الأطعمة المفيدة. لكن يتوجب الاستطراد لأن هذه الكتب الأولى تمثل صيرورة لتجارب سابقة في التأليف حسب ما يفهم من المعطيات الواردة ضمن متون الكتب ومقدماتها مما يعني، ضياع كل ما كتب سابقا. ويمكن استنتاج ذلك من هذا المقطع في مقدمة البغدادي «ثم أني قد وقفت على عدة كتب مصنفة في صنعة الطبيخ فقد ذكر فيها أشياء مستغربة لا تأنس الأنفس بها وجمع في حوائجها بين أشياء مستهجنة إذا جمع بينها لم تسكن النفس إليها»[3] وربما يكون لغزوات المغول على الغرب واستيلائهم على عاصمة الخلافة العباسية - بغداد - وإحراقهم للمكتبات بدءا من القرن الثالث عشر ميلادي، سببا وجيها في اختفاء عددا كبير من الكتب النفيسة بما في ذلك كتب الطبيخ. كما أن تحقيق هذه المؤلفات لم يتم إلا صدفة أو بمشقة وبالتالي ما يزال كثير منها لم يحقق.
ضمن هذا الأفق، يمكن عد كتاب "الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب" أقدم كتاب شامل عن الطبخ.
تضم الكتب الثلاث مجموعة كبيرة من وصفات الأطعمة، فضلا عن أهميتها الصحية، وآداب تقديم الطعام من طقوس ونظافة وترتيب وكيفية التصرف بعد تناول الطعام، حيث تكشف عن مظاهر حضارة دار الإسلام التي اتسمت بالذوق السليم والإلمام بمواد الأغذية وفعاليتها سواء في المشرق، أو في بلاد المغرب والأندلس خلال الفترة الممتدة من القرن العاشر ميلادي إلى القرن الثالث عشر ميلادي حتى أن ابن سيار خصص حيزا مهما للحديث عن أنواع القدور وعما يمكن تجاوزه من المعادن المخصصة في صناعتها «وإنما جعلت البرام لطبيخ اللحم والتنوريات لصبرها على النار، ولين داخلها، وسرعة نظافتها، وطيب طعمها، وإنها تؤدي كل ما تستودعه بحاله فلا تغيير ولا استحالة. ولو طبخ في الحديد وانتظر ساعة، لحال عن طبعه بالصدأ الذي يخرج من جسمه والفساد، لذلك ترك الطبخ فيه. وكذلك النحاس إلى أن يؤنك ومع ذلك يجتذب الزهومة ... ولو غسل مئة مرة»[4]
كما يختلف عدد الوصفات وأنواعها من الحوامض واللحوم والسموك والسواذج والمخبزات والثرائد والحلويات والشراب والهرائس والمجبنات والمعاجن وغيرها في كل كتاب، فقد تضمن مؤلف ابن سيار أكثر من 600 وصفة، بينما يقترب مؤلف البغدادي من 300 وصفة، في حين تضمن مصنف الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين حوالي 500 وصفة.
ولعل ما يلفت الانتباه في هذه الكتب، هي إهمالها للأطعمة المشهورة تبعا لما جاء في المقدمات. كما يصعب تحديد الطبقة الاجتماعية المستهدفة بكل نوع من أنواع الأطعمة باستثناء ما أورده ابن سيار في كون بعض الوصفات كان يفضلها بعض الخلفاء العباسيون كالمهدي والمتوكّل والمأمون، وإذا ما كانت هذه الأطعمة تقتصر على منطقة معينة دون أخرى، كما لا نجد ذكرا لعدد شائع من الخضروات والفواكه في عصرنا الراهن كالطماطم مثلا، وتركيزها بشكل كبير على وصفات اللحوم والمرق والألبان.
وعموما، فقد تميزت كتب التراث العربي بأنواع مختلفة من الطعام حيث احتفت حضارة دار الإسلام بالمطبخ وجعلته في مقام أعلى إذ لم يقتصر هذا الاحتفاء على تدوين الوصفات ضمن المصنفات بل تجاوز ذلك نحو الاحتفاء بالطبيخ شعرا مع كل من ابن ماسويه وإبراهيم بن المهدي وابن داية، وابن مندويه، والحارث بن بسخنر وغيرهم، فضلا عن إقامة طقوس للمطبخ والولائم. وبعد قيام دولة المماليك استمرت العناية بكتب الطبخ وكثرت المؤلفات حتى اشتق ما جاز أن يسمى بأدب الطبخ الذي شكل ظاهرة فريدة في الثقافة العربية والإسلامية.
ملحق وصفات الأطعمة:
شوربا:
«وصنعتها أن يقطع اللحم السمين أوساطا. ثم تسلى الألية الطرية ويرمى باللحم عنها. ويطرح اللحم في الدهن ويحرك حتى يتورد. ثم يلقى عليه غمرة ماء فاتر ويسير من ملح وكف وحمص مقشور وأعواد دراصيني رقاق وطاقات شبت يابس. فإذا نضج اللحم طرح عليه كسفرة يابسة وزنجبيل وفلفل مسحوقة ناعما، ويزاد الماء الذي في القدر ماء آخر فاترا. ويوقد حتى يغلى حق غليانه. ثم ينحى الشبت عن القدر، ويؤخذ من الأرز المنقى المغسول دفعات، يطرح في القدر حسب الحاجة، وتترح على النار حتى ينضج الأرز، ثم تقطع النار من تحتها. ويذر على رأسها كمون ودارصيني مسحوقين ناعما، وتمسح جوانبها بخرقة نظيفة وتترك على النار ساعة ثم ترفع. ولا تترك حتى ينعقد الأرز شديدا. ومن أراد جعل فيها من اللحم المدقوق كببا.»[5]
مالح ناعم:
«صنعته أن يؤخذ شبوط طري فيشق جوفه ويخرج ما فيه ثم يغسل جيدا، وينشف من الماء، ويملح تمليحا كثيرا، ويلف في قطعة كساء ويدرج. ثم يحط في غرفة أو موضع حار لا يعبره هواء نصف نهار أو أقل أو أكثر. وليكن نهار صيف(...) وغسل غسلا جيدا. ويداف الزعفران بماء الورد ويطلى جميعه باطنا وظاهرا. ثم يؤخذ الكمون والكسفرة والدارصيني المدقوقة ناعما مع شيء من أظفار الطيب. ويشق فيه شقوق دقائق، ويجعل فيها من ذلك، ويذر في جوفه منه أيضا. ثم يجعل في مقلى نحاس مبيض أو برم، ويسكب عليه من الشيرج ما يغمره، ويترك في تنور على نار هادئة، ويغطى رأسه. فإذا شرب الشيرج ونشف عنه وتورد رفع. وهو يؤكل حارا وباردا. وقد يؤكل مع البدنجان المقلو ومع الكامخ الرجال.»[6]
بوران:
«صنعته أن يؤخذ الباذنجان فيسلق في ماء وملح سلقة خفيفة. ثم يخرج وينشف ساعة. ثم يقلى بالشيراج الطري حتى ينضج ويقشر من قشره ويترك في صحن أو قدح ويضرب بملعقة جيدا حتى يصير مثل الخبيص. ويلقى فيه يسير من ملح وكسفرة يابسة. ثم يؤخذ اللبن الفارسي ويخلط به الثوم، ويلقى على ذلك الباذنجان ويخلط به جيدا. ثم يؤخذ اللحم الأحمر ويدق نعما ويكبب صغارا وتسلى الألية الطرية ويسرح اللحم فيها ويحرك حتى يتورد. ثم يغمر بماء. ويسلق حتى ينشف الماء ويعود إلى دهنه، ويجعل على وجه الباذنجان. ويذر عليه الكمون والدارصيني مدقوقين ناعما ويستعمل.»[7]
صفة الصنهاجي الملوكي:
«يؤخذ طجين كبير عميق ويصنع فيه من لحم البقر الأحمر منه المقطع دون شحم من فخذه وسنه ووركه، ويضاف إليه زيت كثير جدا وخل وشيء يسير من المري النقيع وفلفل وزعفران وكمون وثوم، ويطبخ نصف طبخة، ثم يضاف إليه من لحم الغنم الأحمر منه أيضا ويطبخ، ثم يضاف إليه من الدجاج المنظفة المفصلة والحجل وفراخ الحمام واليمام كذلك والعصافر والمركاس والبنادق، وينثر عليه لوز مقسوم، ويعدل بالملح، ويغمر بالزيت الكثير، ويدخل الفرن ويترك فيه حتى يتم نضجه ويخرج، فهذا الصنهاجي السادج الذي يستعمله الخواص (...).»[8]
تفايا صقلبية:
«يؤخذ اللحم السمين الدوارة الرخصة والصدرة لكل رطل ثمان بيضات قد نقيت وشقت أرباعا، ويغمر بالماء، وتنزع رغوته حتى يتصفى، فإذا تصفى ألقيت عليه فلفلا وكزبرا يابسا، وتجعله على نار الفحم، وتحركه أبدا حتى تنضج البصلة واللحم، فإذا نضجت دققت أربع حبات ثوم عن الرائحة ورميتها في القدر مع غصن سداب، وتغرف وينثر عليها فلفل وقرفة وسنبل.»[9]
لون خمري من دجاجة:
«تذبح دجاجة سمينة، وتبيت في ريشها ليلة، ثم تنتف وتسلق صحيحة سلقة خفيفة، ثم تشوى على الجمر شيئا معتدلا، وتقطع قانصتها وكبدها دون سلق الدجاجة، وتقطعها تقطيعا دقيقا جيدا مع يسير ملح وبصلة صحيحة وغصن صعتر وأربع عيدان بسباس وأربع ورقات أترج ورطل ونصف شراب طيب وأوقيتين مري وأوقيتين زيت عذب ودرهم دارصيني ومثله قرافا وأربعة دراهم فلفل ورأس ثوم منثور (...)، فإذا طبخت هذه المرقة فصلت الدجاجة وطرحت في القدر، وخمرت بمحاح أربع بيضات مسلوقة مضروبة بشيء من مرق القدر ثم تقدمها بعد أن تهدأ ساعة إن شاء الله.»[10]
بيض محشو:
«يسلق الببض وينقى من قشره ويشق بنصفين، وتخرج الفصوص وتجمع في صحفة، ويرمى عليها كزبر أخضر وماء بصلة وتابل وقرفة، ويصير عجنة، ويحشى به البيض، ويربط بخيط، وتمسك بعود صغير ويحل شيء من بياض البيض، ويدهن به مع قليل زعفران، وتغبر بغبار الدرمك، وتقلى بزيت عذب بنار لطيفة، وينثر عليه بعد كمالها سداب مقطع، وتقدم؛ ويصنع لها مرق من حشوها، وينثر عليها سنبل وقرفة إن شاء الله.»[11]
صفة مخ مزور:
يؤخذ من الجوز أربعون جوزة، إما أن يكون رطبا طريا، وإما يابسا حديثا، نقيا، فيكسر ويقشر من قشرته حتى يظهر بياضه، ودقه دقا ناعما، واعجنه ببياض بيضة، وإن جعلت محها لم يضر، واجعله في قدح زجاج، واجعل القدح في قدر فيها ماء، وأوقد تحت القدر حتى يغلي الماء، فإنه ينعقد في القدح، ويصير مخا عجيبا لذيذا طيبا، فقدمه وكله، إن شاء الله.[12]
الإحالات المرجعية والهوامش
[1] - الزكري حسن، "تاريخ الطبخ"، مجلة رباط الكتب الإلكترونية، عدد 6 يوليو 2021.
[2] - أنظر-: "كتاب أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في وادي الرافدين" لجان بوتيرو:
Jean Bottéro: "La plus vieille cuisine du monde", L' Histoire, No. 49, Octobre, 1982. (pp. 72 - 82). Paris, France.
[3] - البغدادي محمد بن حسن، "كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية"، تحقيق داوود الجلبي، مطبعة أم الربيعين (الموصل/ العراق) الطبعة الأولى: 1934، ص 6.
[4] - الوراق، أبي محمد المظفر بن نصر بن سيار، "الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب والفاظ الطهاة وأهل اللب"، تحقيق: إحسان ذنون الشامري ومحمد عبد الله القدحات، منشورات دار صادر (بيروت)، طبعة:2012، ص:24.
[5] - البغدادي محمد بن حسن، "كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية"، تحقيق داوود الجلبي، مطبعة أم الربيعين (الموصل/ العراق) الطبعة الأولى: 1934، ص 28.
[6] - نفسه، ص: 61/62.
[7] - نفسه، ص:38.
[8] - مجهول، (أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة) تحقيق عبد الغني أبو العزم، منشورات دراسات الأندلس وحوار الحضارات: مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى: 2003. صفحة: 24.
[9] - نفسه، ص: 105.
[10] - نفسه، ص: 113.
[11] - نفسه، ص :121.
[12] - الوراق، أبي محمد المظفر بن نصر بن سيار، "الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب والفاظ الطهاة وأهل اللب"، تحقيق: إحسان ذنون الشامري ومحمد عبد الله القدحات، منشورات دار صادر (بيروت)، طبعة:2012، ص:143.