JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Accueil

عبد الحق بن سبعين: متصوف "انتحر" على سرج حصانه

 



ياسين الحراق - شاعر وباحث في التاريخ




تميزت علاقة المتصوفة بالفقهاء بالتوتر والمجابهة، دون أن يركنا للمهادنة وإن كانت نخبة الفقهاء، قد انزاحت عن المجابهة الفكرية لتتبنى أسلوب المطاردة والتنكيل بهذه الفئة مستغلة علاقتها بالبلاط، ومن ثمة كان لا بد أن تمضي نخبة المتصوفة في الحياة مطاردة تحاول ما أمكن الانفلات من مطرقة السلطة حينا، ومن سندان الفقهاء تارة أخرى.

    ضمن هذا الأفق، نستحضر شخصية عبد الحق بن سبعين وهو واحد من كبار رجالات التصوف خلال العصر الوسيط ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في العالم المسيحي أيضا سواء في حياته، أو حتى بعد مماته.

    نشأ أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن فتح في مرسية بالأندلس سنة 614هـ، الموافق لسنة 1218م؛ ولم تكن لفظة ابن سبعين سوى لقب شهرة عرف عنه؛ فالرجل كان يلقب نفسه بابن داره، والدارة في الحساب تقابل حرف الـ"ع"، الذي يقابل رقم سبعين.[1]

    ومن ثمة نذر ابن سبعين حياته للفلسفة والفلك والتصوف حتى غدا شخصية موسوعية فحاز بذلك، منزلة علمية رفيعة خاصة بعد رده على أسئلة فلسفية صاغها إمبراطور صقيلة (فردريك الثاني)، حيث أعجب هذا الأخير بأجوبة عبد الحق بعد أن بعث مسبقا إلى مناطق المشرق الإسلامي برسائل يستفسر من خلالها فلاسفته فلم يتلق من يستوعب بعمق مقاصد أسئلته.

    وتتعلق أسئلة إمبراطور صقلية حول عدة إشكاليات منها: هل العالم قديم أم محدث؟ ما المقصود بالعلم الإلهي؟ ما هي مقدماته الضرورية؟ وهل يمكن أن تكون له مقدمات؟ ما الدليل على بقاء النفس؟ وما هي طبيعتها؟ أين خالف الإسكندر الأفروديسي أرسطو طاليس؟

    ويبدو أن ابن سبعين كان أقل شهرة قبل الرد على أسئلة فردريك رغم حفره المعرفي العميق، ما جعل الأنظار تتركز حوله، وبالتالي دخل في جدال فكري مع الفقهاء بعد اتهامه بادعاء النبوة استنادا إلى قوله «لقد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله لا نبي بعدي»[2] ويشف احتجاج ابن سبعين على حديث لا نبي بعدي حسب المفكر العراقي هادي العلوي «عن نفس تواقة إلى للنبوة. إلا أنها نبوة المثقف لا نبوة النبي... فابن سبعين ونظراؤه في التصوف يجدون في أنفسهم من طاقات الفكر وعمقه وتوغله في الأبعاد ما يستصغرون معه الكتب المنزلة. وليس من شك أن ثقافتهم الواسعة لا تقاس بها الثقافة المتواضعة للأنبياء، فالأنبياء ليسوا فلاسفة ولا علماء ولا حتى مثقفين... بل هم بين مناضل اجتماعي كالمسيح ومؤسس دولة وحضارة كموسى ومحمد وحامل رسالة أخلاقية كبوذا..»[3]

    غير أن مؤلفات ابن سبعين ورسائله تدحض ما استنتجه هادي العلوي وما خلص إليه الفقهاء انطلاقا من العبارات السبعينية التي استندوا عليها؛ فهي في تقديري أقرب إلى الشنشنة وشطحات المتصوفة التي تصدر عنهم في حالة فيض روحي يكون خلالها الصوفي في مقام سكر ووجد، فيعطي بذلك فسحة أكبر لمنطق القلب ما يفضي إلى اهتيام العقل الصوفي، لأن العاقل يكون دقيق الحساب.

    كما وردت مجموعة من العبارات المعظمة للنبوة على لسان ابن سبعين سواء في رسائله الصقلية، أو في مصنفي "بد العارف" و"أنوار النبي" فضلا عما ورد من شهادات في كتب معاصريه كنفح الطيب للمقري.

    كما لا يُستبعد أن تكون اتهامات الفقهاء كيدية عقب النقد اللاذع الذي كان يواجه به ابن سبعين وتلامذته هذه الفئة. فهو يرى في الفقيه، شخصية مكتفية بمنهج النقل الذي يفسد الشريعة؛ باعتباره نهجا يقتصر على قياس مسائل الراهن بمسائل الماضي وبالتالي فهم يغلقون باب الاجتهاد ويعتبرون أن ما خلصوا إليه هو حكم الشريعة. لكنه في الواقع لا يعد أن يكون حكما من أحكامهم المنافية للشريعة يقول عبد الحق بن سبعين:

    «وأما الفقيه فهو صالح الأصل، فاسد الفرع، صادق الجنس كاذب النوع، يتكلم من عند نفسه، ويقيس اليوم بأمسه، ويفتي السائل، ويترك نفسه في رتبة المسؤول، و يزعم انه يفهم كلام الرسل وخير الرسل، ويعلل دينه ويتممه برأيه واجتهاده، ويعطل قوله على خبر الذي أخرجه من عباده، ويدفع اليقين بالجهل، ويفعل فعل أبي جهل، يحجب نور الله عن عباده بالفروع المعللة، ويتصرف فيهم بغير الكتب المنزلة، ويصد الناس عن موارد الشريعة وريحانها، ويحضهم على حميمها وغسلينها»[4].

    لا يقتصر ابن سبعين على مجابهة الفقهاء، بل يشن نقدا معرفيا لاذعا على الفلاسفة وإن كان لا يعارض الفلسفة من حيث المبدأ كالإمام "أبي حامد الغزالي"، لكنه يكتفي بمعارضة منهجها المعتمد آنذاك من قبل الفلاسفة المسلمين الذي لا يختلف كثيرا في تقديره عن منهج الفقهاء؛ باعتبار الفلسفة الإسلامية في جوهرها تقوم هي أيضا على التقليد فهاجم بذلك كلا من الفارابي وابن باجة، وابن طفيل، وابن سيناء، وابن رشد ورأى أنهم مجرد مقلدين عميان لفلسفة أرسطو طاليس، ومن ثمة رأى أن المنطق الأرسطي غير موصل إلى الحقائق الباطنة ما دام يقتصر على الأمور الظاهرة السطحية.

    بينما تقوم في المقابل فلسفة ابن سبعين، على وحدة الوجود مثلما هي عند "ابن عر بي" أو أشد. وعن طريقهما نقلت هذه الفلسفة إلى المشرق ومفادها أن التصوف، ينبني على القول: إن العالم والله شيء واحد حيث تصير مظاهر الوجود المختلفة إلا مظاهر لله تعالى أي أن الخالق تجلى أو فاض على تلك الموجودات فكانت مجلى له؛ فوجودها من هذا المنظور هو وجود الحق.[5] وبالتالي فلا موجود على الحقيقة إلا الله. وهكذا يصير كل ما نراه دلائل على وجود مقيد لكنه في الوقت نفسه دليل على وجود مطلق فهو يقول «إن كان لا إلا أنا فلا إلا هو وإن كان لا إلا هو فلا إلا أنا ... هو الأول وأنا الأول وهو الآخر وأنا الآخر هو الظاهر وأنا الظاهر وهو الباطن وأنا الباطن»[6]. ويقول في الرسائل «ما خالف الوحدة المطلقة والوجود الواجب هو عدم من جهة، ووجود من أخرى، فلا موجود على الإطلاق، ولا واحد على الحقيقة إلا الله إلا الحق إلا الكل إلا الهو هو، إلا المنسوب إليه، إلا الجامع، إلا الأيس، إلا الأصل، إلا الواحد، إلا الأصح أصح لا صح ص ح حم صمد حق، لا نتهمه ولا نتوهمه.»[7]

    وقد أفضت معاداة ابن سبعين للفقهاء والفلاسفة، إلى توتر علاقاته كذلك برجالات السياسية حتى غدا مطاردا أينما حل أو ارتحل، بدءا نزوله بستبة وفراره من حاكمها "أبو علي بن خلاص". فبدأت بذلك غربة ابن سبعين الكبرى حيث انتقل من سبتة إلى الجزائر ثم تونس، ومنها إلى مصر التي سبقه إليها بريد من فقهاء المغرب يحذرون فيها أهلها من عقل مغربي أندلسي لا يَقنع، فهاجرها نحو مكة التي رحبت به عبر أميرها "أبو محمد بن أبي سعد" وكانت تجمعهما علاقة طيبة، ما جعله يستقر بها. ومع ذلك ظل مطاردا ومتوجسا داخلها بعدما جد في طلبه كل من سلطان مصر "الظاهر بيبرس" ووزير المظفر ملك اليمن، لكن أمير مكة استطاع إخفاء ابن سبعين في أكثر المناسبات حرجا.

    وهكذا، ظل عبد الحق بن سبعين المرسي لسنوات طويلة مقيما في سرج حصانه، فلا يكاد يستقر بموضع حتى يغادره متهما بالزندقة والخروج عن المألوف في الدين. ليستقر في نهاية ترحاله في مكة إلى أن مات فيها ميتة غامضة تضاربت حولها الروايات. فرغم أن ابن الخطيب وابن كثير يذكران أن ابن سبعين مات ميتة طبيعية، فإن كلا من الذهبي وابن شاكر يذكران أن الرجل مات منتحرا في مكة بأن «فصد يديه، وترك الدم يخرج حتى تصفى، ومات». وهذه الميتة يسلم بها عبد الرحمن بدوي ويعتبرها «فعلة وجودية»، كما أن السبر في حياة ابن سبعين يحيلنا على إلمام الرجل بالديانات القديمة، فضلا عن إلمامه الموسع بثقافة الشرق وبالفلسفة. وقد أشار ابن تيمية في "مجموعة الرسائل والمسائل" إلى رغبة عبد الحق بن سبعين في الذهاب إلى الهند. ولعل هدفه كان هو الحصول على فسحة أوسع لفكره وحتى إن لم يتح له ذلك، فقد اضطلع بما يكفي على حضارة هذه الأخيرة.

    ويبدو أن هذه الفسحة قادته حسب المستشرق الفرنسي "لويس ماسنيون" إلى قتل نفسه رغبة في الاتحاد بالله، وهذا أسلوب صوفي جديد تجاوز به منهج "أبو يزيد البسطامي".

    ورغم كون المفكر العراقي "هادي العلوي"، لا يحسم في إشكالية انتحار ابن سبعين في مداراته، فإنه يورد على لسان صاحب "بُدّ العارف" بأنه «من وصل إلى الحق الصرف قلت وسائله وقربت مدته» متسائلا «هل كان خبر انتحاره لأنه بلغ هذه الغاية ولم يتبق له ما يفعله بالحياة»[8].


المراجع:



[1] - حسن علي حسن، فرسان العشق الإلهي. الدار المصرية اللبنانية، طبعة 2014، ص: 55.


[2] - الذهبي شمس الدين، تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عوّاد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى (2003)، الجزء: 15، ص: 168.


[3] - العلوي هادي، مدارات صوفية، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثالثة: 2014، ص: 155.


[4] - حسن علي حسن، فرسان العشق الإلهي. الدار المصرية اللبنانية، طبعة 2014، ص: 55.


[5]- كعب حاتم، الوحدة المطلقة في فلسفة ابن سبعين المرسي قراءة في كتاب بد العارف، مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب، المجلد السادس، عدد 2، ص: 675.


[6] - العلوي هادي، مدارات صوفية، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثالثة: 2014، ص: 156.


[7] - ابن سبعين عبد الحق، الرسائل، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص: 12.


[8] - العلوي هادي، مدارات صوفية، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثالثة: 2014، ص: 164.
عبد الحق بن سبعين: متصوف "انتحر" على سرج حصانه

نورالدين البكراوي

Commentaires
    NomE-mailMessage