JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Home

الحرية، والشعر، والمرأة: انتعاش الجرح في ديوان "الصدى والنون" للشاعر "بوعلام دخيسي"

 





عبد الكريم شياحني: شاعر وباحث




"إن الشعر هو الحرية نفسها ... إذا لم يكن الشاعر حرا فلا مجال للحديث عن الشعر."

    بهذا الشعار/البيان الذي رفعه في أحد حواراته الصحفية بجريدة الاتحاد الاشتراكي، دفع الشاعر "بوعلام دخيسي" أفقه الشعري نحو الغاية المشتهاة، والعلة القصوى، الحرية.

    فوحدهم الأحرار بمقدورهم تقديم أرواحهم وأنحائهم قرابين لجوهر الوجود الإنساني ومدار الكينونة البشرية ..

"تكون حرا إذا قلت لا

تكون حرا إذا صرخت

تكون حرا إذا هدهدت ألم المقهورين والمسحوقين والجياع

تكون حرا حين تكون شاعرا"

    ولأن "كل شيء عظيم خلق حرا بتعبير "ألبرت اينشتاين"، فإن المساحة الهائلة التي صنعها بوعلام دخيسي لنفسه، جعلتنا أمام جمال استثنائي، يفسده الوصف؛ موجع إلى أقسى مراتع الذاكرة والأصداء، ورحال نحو أقصى الجهات.

    ولأن "الحرية هي فرصتنا لنكون أفضل" حسب الأديب و الفيلسوف الفرنسي "ألبير كامو"، فإن الشاعر بوعلام دخيسي مارس حريته كما يجب، عابرا من سلسبيل الشعر إلى فراديس العشق/ حاملا بيرقا يميزه، لغة، وصورا، واختيارا إيقاعيا.

..

    إن قراءة عمل شعري مكتظ بجماليات الرؤى الشعرية، والقوة الجارفة على مستوى تعيين الفكرة وصناعة إبدالاتها اللفظية، يجعل القارئ بين دربين:

    - أن يقرأ ويكتفي بالصمت، مبقيا على "لذة النص" تأخذ منه عقله ونظره، وتغرقه في دهشته اللانهائية،

    - أو يقرأ، ليلوح بما يسمى تواضعا وإجماعا درسا نقديا، ويسمى بمنطق الشغف مفسدة الجمال.

    ..

    بين سنتي 2012 و2021، كان الشاعر بوعلام دخيسي قد منح السحر هديلا، فاحتفى بالحرف الثامن، ليحتمل إمكانية شبهه بظله، قبل عطف الكلام على خصر الكمان، لكن المرآة ما أرته إلا قلبا .

    يعود اليوم إلى قرائه متشظيا بين "الصدى والنون"، الصادر في طبعته الأولى عن منشورات "ديهيا"، والمتضمن بين دفتيه لأربع وعشرين قصيدة تفعيلية.

    - العنوان :يتشكل من حدين: الصدى، رجع الصوت وقد انعكس بفعل حاجز، منه العلو، والشساعة، والغموض.. نداء تحرض امتداده المواويل، فيرتد هاتفا، بالأسماء، والصفات، والأحلام، والجمال، والخراب، والأفئدة القصية.

    النون، دواة يغمس فيها الشاعر قلم الكلام، وهو الحرف أيضا إذ يتجلى بنفحه الروحاني، ويتشكل من نسغ الأبجدية، ليقول: أنا أول النوى، والنور، أنا نون النرد حين يقامر بي الشعراء، ونون النرجس حين يزرعني عاشق بين خصلات امرأته، ونون النهاية حين تكون القصيدة ولا أحد.

    - اللوحة التي تزين واجهة الغلاف الأمامية، لصاحبها المبدع المغربي "عبد الحميد الغرباوي"، لطخات تنتظم جيئة وذهابا، لتشكل مورفولوجيا محاكاة لجسد بشري، في حركة أقرب إلى الرقص. جسد دون ملامح أو سحنة، إنه جسد فقط، بتموجه، وبتلك الكتلة الناتئة من جوفه.

    لعله قلب استباحه الوجد فانساب من غير حمرة، أزرق لامعا، يخاتله الأصفر والأخضر ونثار أحمر، كمن يرسم حدود حصاره.

    إنه حتما جسد الشاعر وقد صار واثقا في مآلاته: أن يرقص رقصة "زوربا" ويوغل في لون النقاء، وخلفه تسبح ألوان البراءة والصبابة والمجاز.

    ..

    وأنت تفتح الديوان، لتلاحق أثر الحمرة التي ذكرت، ستدرك دون جهد قرائي كبير، أن الشاعر يدخلك بابه الأول/الشعر/القصيد، ليرميك –دون أن تفرغ بعد من فتنة الإقامة فيه- إلى باب الغوايات الكبرى |العشق/القصيدة.

    يفصح الشاعر عن هويته، وهو يحدد انتماءه إلى وطن خارج معايير المؤسسة والوصاية، وطن الشعراء، فيقول في الصفحة 9:

"لهم دولة لا أمير لها

لا حدود لها

لا جنود

فهم كذا

منذ صار الكلام سواه

ضيوف على الناس

لا يملكون من الأرض شعرا

ويدعون للناس

أن يملكوا أرضهم كامله".

    ..

    إن القصيدة عند الشاعر "هي أول ما قاله الطفل في مهده" مذكرا إيانا بإحدى خالدات الكاتب الفرنسي "ج.ج.روسو" حين قال: "هناك لغة واحدة موحدة يتكلمها الناس في العالم، هي كلام الطفل قبل الكلام."

    بين اشتعال الإشارة ورسوخ العبارة، يجعل الشاعر القصيدة معادلا موضوعيا للوجود، يقول في الصفحة 12:

"القصيدة صوتك

صمتك

كلك "

..

    أليست الطفولة هي كنز الشعر الذي لا يفنى، كما قال الشاعر النمساوي الكبير "راينر ماريا ريلكه"، في رسالته الجوابية إلى شاعر شاب، يلتمس منه النصح والإرشاد؟

    إنها –حتما كذلك-، وهو ما يؤكده بوعلام دخيسي في الصفحة 15 قائلا :

"القصيدة أن تستعيد الصبي البريء

الذي كنته

أن تركب لفظك كيف تشاء

تعيش كما أنت

كل حديثك صدق

ودمعك عطر

وهزلك جد

تعيش صباك

بشرط الرجوله".

    في قصائده، (هكذا الشعراء، القصيدة، بلاغ، أنا كاذب، وحدها الشمس، قطعتي الماضية، هل يموت الشعراء؟ الآن سأفصح، نسيت شعري)، ينتابنا الإحساس الذي لا يخطئه البصر ولا تغفل عنه البصيرة، أن الشاعر يعيد تعريف الشعر وفق نسق غنائي، يكون الشاعر محوره، وحوله تدور مضايق القصيدة ومنعرجاتها؛ هي أيضا قصائد احتفائية بهذا الفن البدائي/البدئي بما يجسده من رمزية تاريخية وثقافية، وبما يمثله على خارطة اللأنا الجمعي العربي.

    لقد كان الشعر ولا يزال، عبورا نحو المفترقات، تخييلا ونظاما جماليا يستدعي في المبدع كما في القارئ فتنة الأجداد الأولى، وضراوة المحاربين القدامى ،وسلاح الفتك بالبياض وبالخواء وباللاجدوى.

    وهنا أستحضر ما عبر عنه "أدونيس" في كتابه "رأس اللغة جسم الصحراء": "الشاعر /الغريب بدئيا، لا يقيس نفسه بالجمع الذي ينتمي إليه، ذلك أنه غريب فيه وعنه، ثم إن الجمع ليس هو من يكتب القصيدة، وإنما يكتبها الفرد الشاعر...الشاعر ليس صوت الجمع، وإنما هو صوت الوجود والمعنى، وصوت نفسه عبرهما. وبوصفه كذلك، يجيز لنفسه ما يجيزه فعل الخالق :الوحدة، والتميز، والفرادة. ولا أنَوية فردانية في ذلك كله، وإنما هي أنَوية الذات الشعرية."

    ..

    لا فصل بين الفصلين، بين القصيد والقصيدة، مادام القول الشعري للدخيسي يأتي محرضا بفعل فاعل، حين يباغته ذلك النداء العذب البعيد، ليأمر فيه باستعلاء القلب وإلزام الروح قائلا (ص:51):

"رشحتك للشعر فقم

واخطب في الروح

ستأتي الريح بمن يهواك

وتذكر ما أنجزت جموع الناس

ويحفظ شعرك في الأمثال.

    ..

    لكن الشعر قد يقود إلى المحكمة، فيخسر الشاعر المرافعة، راسما خسارته بثلاثة أسطر فاصلة بين الرأس والمقصلة، يقول الشاعر (ص: 61):

"ثم عاد القضاة

وجيء بحلمي

إلى المقصله ".

   كيف تمضي به هذه المرأة نحو المحكمة وقد كانا على موعد شعر وعطر وتفاصيل أخرى؟

    هل كان حبا فاض فأغرق ؟ لابد أن الأمر كذلك..فقد كتب "أندري جيد" ذات يوم: "بين أن يحب المرء وبين أن يظن أنه يحب، وحده الإله بمقدوره أن يميز بين الحالتين ".

    هي حقا مسألة دقيقة، ولعلها أرقت "ابن حزم" وهو يؤلف "طوق الحمامة"، إلى أن اهتدى إلى جواب اعتبره أكيدا فقال: "فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة، وتأكدت بينهما تأكدا شديدا، أكثر بهما تضادهما في القول تعمدا، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور."

    ..

    كل ما في الأمر أن هناك "ساحة حرب، عفوا، ساحة حب تؤرخ لهزيمة الشاعر، بعد أن تواطأت ضده أفعال رقراقة الإيقاع ومغرية بالذهاب صوب النهايات .يقول بوعلام دخيسي (ص: 71):



"طرقت

دخلت

عشقت

اشتقت

وهمت

وغرت

هزمت لأول مره ".

    لكن الهزيمة لا تمنع الشاعر من البحث عن الوصل، ولو مهربا في قصائد بعيدا عن عيون العسس والمخبرين، قريبا من الصدى الذي اختاره موعدا للقاء .يقول (ص: 82):

"أين ألقاك هذا المساء ؟

العساكر في كل ركن

ولا ركن لي غير شعري

فهل تقبلين الصدى موعدا للقاء ؟".

    ...

    لا يمنع هذا التداعي الحر الشاعر من أن يعترف بكون درب المرأة هو في الحقيقة درب الكتابة، وليست في نهاية هذا الممشى إلا قنطرة للعبور نحو الحبيبة الأنقى والأبقى، فما حبه إلا للحبيب الأول،القصيدة.

    ليفصح في الصفحة 65 عن مرجعية ذياك السحر قائلا:

"أقاد إلى الليل

أسيرا

ثم أعود طليقا

أفرح بالنص وأنساك

فما أقساني ..."

    إنه يشبه هنا بطل رواية التربية العاطفية للروائي الفرنسي "غوستاف فلوبير"، الذي عاد إلى بيته ليلا وبعدما تملى بطلعة السيدة "أرنو"، صادف وجهه في المرآة ليجد نفسه جميلا، ولمدة دقيقة ظل ينظر إلى صورته، وهو الذي قرر أن يكون رساما. لكن ها هو الآن أمام رسمة صفحة المرآة، لمدة نسي المرأة التي يحبها وافتتن بنفسه وغرق في صورته.

    لا يمكن إذا للمبدع إلا أن يكون نرجسيا، منكفئا على أناه، فكل ما يفعل خارج لحظة الإبداع، ليس إلا امتلاء يقوده رأسا نحو عمله الفني .

    ..

    يختم الشاعر ديوانه الشعري بطلقات شعرية قصيرة، موجهة إلى الآخر في صده كما في قربه، في الحضور كما في الغياب وهي (هل يبكي الورد، جرب الآنا، خوفا من الحب، أشهى من الحلم، قصتان،لا تعجبي، وصية.)

..

    عموما، ينتعش ديوان "الصدى والنون "بشكل ضمني تارة ومعلن تارة أخرى، على إيقاع الجرح والألم، جرح الشعر وجرح الشاعر، ذاك الذي أخبرنا عن مكاسبه الشاعر الفرنسي "رينيه شار" فأوجز قائلا: "إن الشعر لا ينبت إلا بين النوائب ولا ينمو إلا على أرض محروقة." نقرأ في الصفحة 42:

"طلقة

ثم ها قد زففنا شهيدا

وكم قد زففنا من الشعر

لكننا

لم نر الجرح في الحرف

لم ننتبه للدماء "

ومن الصفحة 44:

"فأنا

المجروح

إذا لم أكتب

وإذا أكتب

ذاك المجروح ".

    وما أبلغه ذلك التوزيع الكاليغرافي لكلمة شظية، حين جاءت على صورتها الانشطارية، كل حرف يشغل سطرا في الصفحة 72 :

ش

ظ

ي

ه



    وهو ذات الجرح، حين تساءل الشاعر، هل تبكي الوردة ؟ (ص:89)

"كالورد تبكي العاشقه

دمعا تفوح ولا تقاوم عطرها ".

    ..

    عطفا على ذلك، أقتبس من كتاب الاسم العربي الجريح قول الكاتب "عبد الكبير الخطيبي" في العلاقة بين النص والجرح: "من غير شك فإن النص هو مجال الدوران السري لحث الفعاليات المميتة لمصيرنا وما يحدث داخل الجرح، بين الجرح والاسم الشخصي، هو تدوين الجسد الأورفيوسي (نسبة إلى الأسطورة) مقطعا، غير أنه متبخر في ذاته الموسيقية، مسلما للإفراط، ولكنه إفراط مقنع هو نفسه داخل توافق عنيف مع الطبيعة."

    ..

    الكتابة حين تكون بالألم، تجربة قاسية ومكابدة عالية، فـ "الألم لدى الفرد – حسب الأنتربولوجي "دافيد لوبروتون"- هو المواجهة بين واقعة جسدية وعالم من المعنى والقيم. والإحساس به ليس تسجيلا لتأثر معين بقدر ما هو الصدى الداخلي لمصاب واقعي أو رمزي، وفي الإحساس بالعالم، يكون الألم نفسه طريقة أخرى للتفكير فيه."

    ..

    أكرم وأنعم بهذا الألم، وقد استطاع أن يرفع الشاعر إلى صفات الشمس ليقولا معا قول واثق:

"وحدها الشمس

ترسم لوحاتها

ثم تمضي سريعا

ولا تقبل الشرح للزائرين

فقد فسرت كل شيء

وباتت لمن علم الرسم على أطرافها ساجدة ". 

الحرية، والشعر، والمرأة: انتعاش الجرح في ديوان "الصدى والنون" للشاعر "بوعلام دخيسي"

نورالدين البكراوي

Comments
    NameEmailMessage