JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Accueil

المقاومة برصاصة الجمال: من عهد الأدارسة إلى معركة أنوال (الجزء الثالث)

 



ياسيين الحراق - شاعر وباحث في التاريخ


 الشاعر والمقاومة الصحراوية

 تواترت حركة الجهاد بالأقاليم الصحراوية قبل فرض معاهدة الحماية الفرنسية – الإسبانية على المغرب بعد انضمام قبائل واد الذهب والساقية الحمراء وأدْرار والرحامنة وغيرهم إلى أسرة الشيخ ماء العينين، فألحقوا بعض الخسائر بالقوى الامبريالية بالصحراء.

     ورغم توقف هذه المقاومة، بفعل ضربات القوات الفرنسية والفوارق العسكرية الكبيرة بين الطرفين، إلا أنها استطاعت لم شملها من جديد بتوحد نفس القبائل الصحراوية تحت إمرة أحمد الهيبة وأخيه المربيه ربه. وفي خضم هذا الالتحام الجهادي من طرف أسرة ماء العينين في الجنوب، سارع الشعر إلى نصرتهم ونصرة حركة الجهاد في الصحراء، ففي أقصى الجنوب «قام الشيخ الشاعر سيديا يدعو حماة الوطن أن يداروا الغائلة لأن مطالع العدو بدأت تدنو من الصحراء» [1] داعيا في الوقت نفسه، إلى إشهار السلاح مستصرخا بالأساس حماة الدين من علماء وفقهاء وكانت هذه أولى الأصوات الشعرية التي دونت حول الجهاد في هذه المناطق وقد نافت أبياتها عن المائة:

«حمــاة الديــن إن الديــن صـار   أسيـــرا للصــوص وللنصــارى

فإن بادرتمـــــوه تداركـــوه   وإلا يـسبق السيـف البـــــذارا» [2]

 

     مكنت ضربات "أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين" المباغتة ضد القوات الفرنسية وإلحاقه الخسائر بها من توسيع خط مقاومته وتوثيق تحالف استراتيجي مع القبائل السوسية والصحراوية معا فعزم على التوجه نحو مراكش إلى أن دخلها في يوليوز عام 1912م.[3]

      أبهر هذا النجاح، أنصار الهيبة فلقبوه "بأمير المؤمنين"، بفعل غياب السلطة المركزية وهو الأمر الذي استغله أحمد الهيبة على الفور في لم شمل قبائل الأطلس الكبير بقائل الجنوب. كما نستشف من خلال كتاب "المعسول" لمؤلفه "محمد المختار السوسي"، عن تنسيق خفي جرى بين الملك المخلوع وأحمد الهيبة عقب التوافق القائم بين خليفة السلطان بمراكش وأحمد الهيبة، بينما يشير المؤرخ "علال الركوك" في مؤلف "الشيخ ماء العينين" إلى عدد من المراسلات السرية التي جرت بين السلطان عبد الحفيظ وأسرة ماء العينين حيث يشير الركوك إلى رسالة سرية كان قد بعثها السلطان عبد الحفيظ يبارك فيها حركة الجهاد ضد المستعمر سلمت للملك الراحل محمد الخامس خلال زيارته لمنطقة المحاميد، سنة 1958.[4] ومن ثمة تحولت إمارة المؤمنين إلى وسيلة دعائية الغرض منها، إشعال فتيل الكفاح المسلح، لاسيما إذا استحضرنا النزعة الصوفية التي امتازت بها أسرة ماء العينين ما جعلها تنأى بنفسها منذ عهد السلطان الحسن الأول عن أمور السياسة رغم القدرات التي كانت تتمتع بها في الصحراء. يعلق محمد المختار السوسي عن البيعة عبر كتاب "المعسول" «والأمير أحمد الهيبة وإخوته ليس لهم إلا الأسماء، فلا يأمرون ولا ينهون بل اشتغلوا بما تعودوه من قبل من الاشتغال بالعلوم، وتعاطي الأدب نهارا بالتجهد والعبادة ليلا» [5]

    وبما أن أسرة ماء العينين أسرة تتنفس الأدب، فقد رأت في جنس الشعر وسيلة لسنية تتجاوز واقع الخطاب الشفوي إلى واقع الفعل لأنها لا تقول كلمتها وتمشي، بل تفشي الكلمات وتمضي معها لأن الشاعر يعرف أن الكلمات لا تصل وإلا وصاحبها معها يقول "الشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين" مستنهضا همم المغاربة على مقاومة المحتل:

 

بني وطني قوموا على أسوُق الجد     فبالجد نحظى بالسعادة والجَدِّ

وإن مسكم قرح فقد مس مثله    عداكم وفزتم بالجميل وبالحمد

ويوم بيوم عادة الدهر هكذا      يداول بين الناس بالنحس والسعد [6]

 

      ولا مراء أن نجاح هذه المقاومة في إحكام قبضتها على عدد مهم من مناطق الصحراء فضلا عن حصولها على مزيد من التحالفات القبلية، قد جعلها تبرز كحركة مقلقة للإقامة العامة الفرنسية ما دفع هذه الأخيرة إلى إعادة ترتيب إستراتيجيتها الاستعمارية، ويحضرنا ضمن هذا الأفق شعر "الطاهر اليفراني" الذي يكشف عن حضور ذلك الطابع المعنوي لهذه الحركة غير المهادنة:

 

« نهضــت عزيمتــه فدارك ما وهـي   منهــا بعزمة ماجـد صــوال

وســـرى إلى الحمـــراء لا متهيبا   وكـلا ليـس بعاجـز مكسـال

فتزينت بقدومـــــه وتيـمـنـت  بوروده الموفـــى على الأمـال »[7]

 

    فهذه اللامية اليفرانية وإن كانت تعبر عن النزعة الجهادية والروح المعنوي العالي الذي يتباهى به الشاعر بعد أن لاحت له شخصية قيادية قوية تمثلها شخصية "أحمد الهيبة"، ورغم ما حققته المقاومة الصحراوية من نجاحات متواصلة، إلا أنها تستطرد في أبيات لاحقة فترى أن ما تحقق غير كاف ما لم يتم إنهاء الاحتلال الفرنسي والإسباني بالكامل بل ويدعو اليفراني إلى ضرورة توجيه ضربات المقاومة نحو المشرق العربي ما يعني أن الجانب المعنوي لدى المقاومين الصحراويين كان أكبر بكثير من مجرد الحلم.

 

« فامدد يمينك نحـــو فاس وبعدهـــا    مصر وسعدك كافل بمنـــــال

واخطب جميع ممالك الدنيـــــا تنل     منها القبــــول فأنت أعظم وال

وارم المشارق والمغارب كلهــــــا     تأتيك عفوا دون نصب قتــــال »[8]

 

وقد عمدت حركة المقاومة في الجنوب المغربي خلال فترة الحرب العالمية الأولى، على استغلال دعم دول المحور وتحديدا ألمانيا التي سخرت مخابراتها في إثارة قبائل الجنوب ضد فرنسا. كما ساهمت في تدعيمها ماديا ما مكنها من إرباك القوات الفرنسية والإسبانية.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، لوحظ بعض الفتور في أداء المقاومة. إلا أن هذا الفتور كان مؤقتا إذ سرعان ما اندلعت من جديد شرارة المقاومة بدءا من سنة 1921م وامتدت حتى مستهل سنة 1935م.[9] واشتهر خلالها قادة كثر ساهموا في إيقاد مواجهات مسلحة وإن كانت أقل وطأة من تجربة أحمد الهيبة وأخيه المربيه ربه تزعمها كل من محمد تقي الله المعروف بوجاهة، وإسماعيل ولد البارْدي ومحمد المامون وغيرهم. حيث خاض هؤلاء معارك عديدة (بوكرن 1924، رأس الرمت 1925، الطريفية 1926، اشْريرق 1928)[10] كبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وأسفرت كذلك عن اغتنام معدات وآليات مهمة.

  وهكذا، استطاعت مقاومة قبائل الجنوب والصحراء الصمود أزيد من 22 سنة إلى أن تمكنت القوات الفرنسية بالاعتماد على حليفها "تهامي الجلاوي" باشا مراكش، من تنظيم قبائل الأطلس الكبير لتكون حاجزا منيعا في وجه أسرة ماء العينين ليعقب ذلك توقف قبائل واد سوس الأوسط والأدنى عن الكفاح المسلح.[11] كما شكل سقوط مدينة أكادير في يد الفرنسيين واعتمادهم على الآليات العسكرية الحديثة نهاية أكيدة لهذه الحركة المقاومة، غير أن الحركة الشعرية واصلت كفاحها دون أن ينضب نبعها.

فمنذ منتصف العقد الرابع من القرن العشرين، ظهر جيل جديد من الشعراء حاول أن يزاوج بين الأسلوب الشعري القديم والأسلوب الشعري الحديث يمثله على سبيل المثال لا الحصر: ماء العينين بن العتيق، محمد المامون، محمد فال بن محمد الأمين، محمد بن أبوة... هؤلاء ارتبط الشعر عندهم بالقضايا الوطنية فصار الشعر «وسيلة لإلهاب المشاعر من أجل تعميم الشعور الوطني، وتحريض المواطنين على مواصلة الكفاح ومواجهة مخططات الاستعمار ... تخلص من المواضيع الذاتية القديمة ليساير بأسلوب موضوعي، تطور الأمة واصفا تطلعاتها، موجها الأنظار لاختياراتها بتعبير قريب من مفاهيمها، مستجيب لرغباتها، مجسد لمفاخرها، مخلد لتضحيات عظمائها، متميز مع كل هذا بشمولية الأغراض فغد شعرا اجتماعيا يتناول مشاكل الجماهير العامة بدل البكاء على الأطلال، والتغزل» [12]. فمن داخل سجن جزر الخالدات يحث الشاعر "محمد سيداتي الهيبة" رفاقه المسجونين معه على التشبث بالمبادئ الوطنية والصبر وبذلك يتقاطع هنا الوجدان الفردي بالوجدان الجماعي حيث يتحول سجن جزر الخالدات، إلى رمز لسجن كبير وهو الوطن بينما الاستعمار يمثل دور السجان الكبير الذي فرض على الوطنيين:

صبرا صاحبي فالنجاح لمن صبر    و الحر يعرف في الشدائد و الخطر

ومقامكم في الخالدات مخلد     مجدا لكم، والمجد اسما مدخر [13]

ضمن هذا الأفق، سار أيضا الشاعر "ماء العينين بن العتيق" دون أن يشغله مساره العلمي والأكاديمي، عن الاتصال برجالات الحركة الوطنية بعدد من المدن المغربية. كما دون عدة قصائد تحايث الأحداث الاستعمارية الكبرى التي عاشها المغاربة؛ فبالموازاة مع كل حدث، نجده يسارع إلى حث المغاربة بالجنوب على الصمود في وجه المد الاستعماري منها هذين البيتين اللذين يمتدح من خلالهما تحركات جيش التحرير بالصحراء:

من رجس الاستعمار بعد مبشر    في الغرب بل في سائر المعمور

لا زال جيشهم المظفر ناصرا     أعلام عرش أمامنا المنصور[14]

 

ولم يتركز اهتمام شعراء الصحراء بالمقاومة في جزئياتها المتعلقة بالكفاح المسلح، بل تطور نحو التعبير عن الهوية والوحدة متخذا بذلك بعدا جماعيا. فمع تحول السلطان "محمد بن يوسف" إلى رمز للوحدة المغربية مؤازرا بالحركة الوطنية، وجدنا من الشعراء من عمل على إحياء التقاليد العتيقة للشعر العربي المتمثل في المدح أو ما جاز أن يصطلح عليه حديثا بشعر العرش، وهو تقليد عرف فتورا عقب تراجع اهتمام رجل السياسة بالشعر بعد أن تعددت مشارب المعرفة ووسائلها منذ تتابع تأثيرات الحداثة الأوربية على المغرب، غير أن أبعاد هذا النوع من الشعر كانت أكبر من المدح فهي تعبير فصيح يرسخ الالتزام بالبعد الوطني والديني وفي الوقت نفسه يكرس مبدأ الروح الوحدوي بين مختلف أعراق المجتمع المغربي. ويمكن اعتبار الشاعر "محمد البيضاوي الشنجيطي" من الشعراء الأوائل في فترة الحماية ممن ينطبق عليهم هذا النوع من الشعر حيث نورد له أبياتا يهنئ فيها الملك محمد الخامس بمناسبة اعتلائه عرش المملكة:

أ محمدا يابن الحلاحل يوسـف     جدد عهود محمد ومحمــد

وارع الإمامة والرعية مشفقا     بسياسة وروية وتعهـــد

واكشف عن الأبصار كل غشاوة     وغباوة فالجهل أعظم مفسد

 

وإذا كان الشعراء الوطنيين بالشمال والأطلس، قد فترت أشعارهم المنكهة برائحة الدم والغبار بعد توقيع المغرب على وثيقة استقلاله سنة 1956م؛ فإن شعراء الصحراء واصلوا التغني بالنضال والكفاح المسلح من أجل التعبئة لاستكمال مسار الوحدة الترابية للبلاد بعد تعنت إسبانيا واستمرار انفرادها بالصحراء دون أن تأخذ في الاعتبار الروابط التاريخية بينها وبين مجال النفوذ الفرنسي. ويبدو أن هذه الأصوات كانت تزعج الاحتلال الإسباني ما دفع هذا الأخير إلى التنكيل بها، فالشاعر محمد سيداتي الهيبة كان ضحية لهذا التنكيل حيث ظل معتقلا حتى منتصف سنة 1959م.

وهكذا تكون الحركة الأدبية الحديثة بالصحراء بوصفها جزءا من أدب المقاومة المكتوب بالعربية في المغرب، قد تشكلت عوالمها، موازاة مع تنامي الظاهرة الاستعمارية وتبلوراتها في الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي... ومن ثمة جاءت خطوطها العريضة غالبا، كصورة معكوسة للانتفاضات الشعبية المناوئة للاستعمار الفرنسي – الإسباني.

المراجع



[1]- السولامي إبراهيم، الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية ، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، طبعة 1974، ص: 96.   

[2]- أحمد الأمين الشنجيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مطبعة القاهرة، الطبعة الثانية 1958، ص: 246.

[3]- السوسي محمد المختار، المعسول، الجزء الرابع، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1962،ص:221. 

[4] أنظر تفاصيل ذلك عبر مقال: ماء العينين فقيه قاد المقاومة، وذكره التاريخ وتغنت بأمجاده الشيخات، موقع  http://www.haspresse.com/?p=1365

[5]- السوسي محمد المختار، المعسول، القسم الثالث، الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، 2014، ص: 408.

[6] - السولامي ابراهيم ، مرجع سابق، ص: 102.

[7]- نفسه، ص: 101.

[8]- محمد المختار السوسي ،  المعسول ، الجزء الرابع، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1962،ص: 244.

[9]- عسه (أحمد)، المعجزة المغربية ، دار القلم للطباعة، بيروت ، الطبعة الأولى 1975.ص: 165.

[10]- ذ علال الخديمي، "مقاومة القبائل الصحراوية للاحتلال الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين"، مأخود من موقع http://www.ansarsunna.com.

[11]- أحمد عسه ، مرجع سابق، ص: 165.

[12] - نماذج من أدب الصحراء وأدبائها، موقع  https://www.cheikh-maelainin.com/?p=2969   اطلع عليه يوم الأربعاء 4 ماي 2022.

[13] - الشيخ محمد الإمام ماء العينين أدب المغرب الصحراوي، مجلة دعوة الحق، عدد 212، 1981.

[14] - بمناسبة الذكرى الثانية لتحرير الصحراء المغربية، الشيخ ابن العتيق العالم الأديب، مجلة دعوة الحق، عدد: 182.  


 المقاومة برصاصة الجمال: من عهد الأدارسة إلى معركة أنوال (الجزء الثالث)

نورالدين البكراوي

Commentaires
    NomE-mailMessage