JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

الطفل والفن: الخصائص والآثار. (القسم الأول)


 



د. يونس البقالي - باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات


لا يكتمل الحديث عن علاقة الطفل بالفن دون التوطئة لموضوع الفن ودلالاته، وإن اعتبرنا الأمر لا يتوقف عند هذه التوطئة، فلاشك أنه سيسعفنا في إلقاء نظرة ولو عامة عن المعنى الواسع المراد بالفن، وامتداداته، قبل استخلاص ضرورة تعويد أطفالنا على تعاطي الفن والأخذ بأساليبه وتقنياته، ومن تم إطلاق العنان لملكات الطفل من أجل التعبير الفني، وهو تعبير لا شك كفيل بتنمية روح الابداع والابتكار في الناشئة.

من هنا فإن الحديث عن الفن في مفهومه الواسع، إنما يتجه قصدا ليشمل مجموع المهارات البشرية عـلى اخـتلاف ألوانهـا، وهو ما يدفعنا إلى الإطلالة على الفن من منظار الشمول، فنتحدث بذلك عن الفنون التطبيقية والفنون الجميلة، أو ما يسـمى بـالفنون الكـبرى والفنـون الصـغرى كما يحلو للبعض أن يسميها. وعليه، فقد تصنف الموسيقى والآداب أحيانـا، من خلال هذا المنظور، ضـمن الفنون الجميلة، بينما يقصر البعض هذه التسمية على الفنون التشكيلية كالتصـوير والنحـت، هذا ويتسع المعنى كثيرا إذ يتجه الفن ليشمل كل ما استبعده العلم من دائرته بوصفه مهارة عمليـة، أو صناعة تطبيقية، أو إنتاجا مهنيا.

على تعدد المعاني والدلالات، فإن الفن في معناه الضيق يتجه لأن يُحدّ في أنــواع التشكيلات المســطحة، ومنها مختلف الرســوم والصــور والتصميمات الموضوعة على الخامات، وشتى أنـواع المجسـمات، كالأواني الخزفيـة والمعدنيـة والزجاجية التي يصممها الانسان، وجميع الهيئات المنجزة من طرف الإنسان، والتي يسعى من خلالها هذا الأخير إلى إظهار الجمال، وينشد بإبداعها بلوغ الاكتمال.

اذا أردنا أن نلقي نظرة على التعريفات التي قدمها المختصون للفن، سنجد الأديب الروسي ليو تولستوي في كتابه "ما هو الفن؟"، يفند الطروحات المتسرعة والساذجة التي تقصر الفن على الاحساس الذي يولّده العمل الفني في الوجدان. فالفن عنده يبدأ «عندما يقوم الانسان، بهدف نقل الأحاسيس التي تختلج في داخله إلى الآخرين، بإثارة هذه الأحاسيس في داخله ثم التعبير عنها بإشارات خارجية معروفة»[1] . فسيسمى فنا، وسيكون فنانا كل شخص يملك القدرة على أن يُعدي الآخرين بمشاعره، ويدفعهم إلى العيش بأحاسيسه لحظة اصطدامهم بعمله الفني. فإذا ما «استحضر انسان في ذاته إحساسا كان قد عايشه سابقا وبعد استحضاره له بواسطة الحركات والخطوط والألوان والأصوات والصور المعبر عنها بالكلمات وقام بنقله إلى الآخرين وجعلهم يعيشونه، فهنا يكمن نشاط الفن»[2].

لا شك أن هربرت ريد أحد أشهر النقاد والمختصين في تاريخ الفنون التشكيلية، قد عاصر التحولات الجذرية التي طالت ميدان الفن أواسط القرن العشرين، وتأثر بها بالتأكيد، فقد كان لا بد له بذلك من أن يقفز على محاولة تولستوي تبسيط فهمنا للفن بالشكل الذي يجعلنا مطمئنين. يرى هربرت أن وظيفة الفن «ليست هي أن ينقل "الإحساس" إلى الآخرين من أجل أن يمارسوا نفس "الاحساس" ويخبروه»[3]، فوظيفة كهذه بنظره، ليست «سوى وظيفة أكثر أشكال الفن فجاجة»[4]، وإنما الوظيفة الحقيقية للفن تكمن في «التعبير عن "الاحساس" ونقل "الفهم"»[5]. وهو أمر أكثر تعقيدا وتقعيدا من سابقه، فإذا كان لا بد من نسمي الحالة الشعورية التي يثيرها فينا العمل الفني، فإنها «شعور مختلف اختلافا كليا عن ذلك الذي يمارسه الفنان ويعبر عنه في عملية خلق العمل الفني. ومن الأفضل أن نصفها بأنها حالة من التعجب والاعجاب، أو ندعوها، بطريقة أكثر برودة، ولكن أكثر دقة، حالة تعرف على شيء جديد»[6].

على صعوبة الاتفاق حول مفهوم واضح وصريح للفن، فإننا سنخلص بعد اطلاعنا على كثير من التعاريف، إلى أن الفن، مهما تكن الشـاكلة التي هو عليها، فهو موجود في كل شيء نصنعه لإدخال المسرة على حواسنا، وكأنه إعادة تنظيم لأفكارنا ومشاعرنا في بناء ممتع جميـل أساسـه الخبرة الجمالية. نستطيع أن نقولأيضا، أن الفن «ترتيب لمجموعة من العناصر، وفق أسـس تصـميمية بحيث تضفي على العمل الفني مظهرا يبعـث في الـنفس الراحـة والسرور»[7].وهو نشاط إنساني يقوم على ابتكار وإبداع غير مألوف يثير فينا الإعجاب، والاحساس بالجمال والمتعة والدهشة لدرجة الانبهار أحيانا. وليس ذلك متاح للجميع، وإنما هو ملكة يشبّ عليها البعض، وتفنى عن آخرين إذ ينقطعون عنها بالانصراف إلى تعاطي المعارف على أساس التقيد بالحفظ والمنهج. ولعل ملكة الفن منظور آخر لرؤية العالم والظواهر والتعامل معها، فالفن على ما يبدو، لغة، تحفز فينا الاتصال بما وراء العمل الفني، اتصـال لا بـد مـن تعلـم رموزه كي نسـتطيع فهـم المعـاني المضمرة فيه، كما يقتضي الأمر أيضا تعلم مهارة الإنجاز قبل الإبداع فيه.

يبقى أن الفـن «صـورة عـن ثقافتنـا ومخزوننـا الذاتي كـأفراد وكشـعوب»[8]، فهو انعكاس للموروث الوجداني والمادي فينا، ومرآة نعيد اكتشاف ذواتنا من خلالها. ففنون الإنسان البدائي، أكيد، تختلف عن فنون إنسان العصور التاريخية اللاحقة، ولأؤكد أن فنّنا حاليا بقدر ما يعبر عنا، وعن عصرنا، فإنه لا بد يختزن صورة عن ماضينا.


الطفل والفن:


بدأ الاهتمام بالفن عموما في وقت متأخر، تزامنا مع عصر الانقلابات الفكرية، والثورات العلمية التي كان يشهدها العالم الغربي، عصر دخل فيه العقل الأوربي طورا من الشك في اليقينيات التي أسّست لمعالمه الحضارية. فمن داخل جميع العلوم، أثيرت الأسئلة التي قطعت مع اليقين الذي تأسست عليه، حصل ذلك في الفيزياء عندما بدأت معالم الفيزياء الكلاسيكية في الانهيار، فاتحة الباب لفيزياء الكم بنظرياتها المفاجئة والأكثر تدقيقا، كما في البيولوجيا عندما صار الاعتقاد في تطور الأنواع حاصلا، والتدقيق في عناصرها ضرورة علمية، وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات الاجتماعية، بعدما برز الفكر الاشتراكي، وصار يفرض توجهه على نظرة الإنسان للكون والطبيعة، وصارت، نتاجا لهذه الانقلابات مناهج العلوم الاجتماعية تفرض نفسها فرضا على البحوث الأكاديمية من شتى الاختصاصات. ولم يكن الفن ليشكل الاستثناء، وإن كان مسلكه بمعالم مغايرة لما ألفه العقل، فمع أن محل الفن، الوجدان، فقد فتحت أبوابه البهيجة أمام العقل من أجل التحقيق في ماهيته، والنظر في تفريعاته، والتدقيق في أساليبه، والغاية التقعيد لتعقيداته، وبسطها للذهن عسى الفن يصير علما.

ولم يكن ليسلم من العلم في الفن حتى رسوم الأطفال، لما بدأ الاهتمام بدراسة ميول الأطفال، وقدراتهم العقلية والحس حركية، وقـد تعـدّدت الدراسـات التـي بحثـت في فنـون الأطفال، وتنوعت، فمنها ما بحث في فنونهم، كمظهر من مظاهر حياتهم، ومنها مـا بحث في العلاقة بين ذكاء الأطفال، وقدرتهم على التعبير الفني، وأخرى بحثت عن أثر قدرة الطفل العضلية في التعبير الفني، وقد ركزت بعض الدراسات على الطفل، واتجاهاتـه عنـد التعبير في كل مرحلة من مراحل منوه، عموما، فقد أسفرت تلك الدراسات عن الآتي:

·يعد الفن بالنسبة للطفل طريقة للتعبير أكثر من كونه وسيلة لإنتاج شيء جميل، فالطفل يميل إلى التشكيل رسما أو نحتا أو تركيبا بغاية التعبير عما بداخله، وليس بغاية التعبير عن الجمال.

·يرسم الطفل ما يعرفه، لا ما يراه في سـنواته الأولى، ويعتمـد عـلى بصره في التعبيركلما تقدم في السن، فالرسم عنده بالتداعي الحر، غير مرتبط بثقافته البصرية إلا بعد تقدمه في السن.

·تؤثر انفعالات الطفل في رسومه خلال سنواته الأولى، فيبالغ ويحذف في رسومه، تبعا لتلك الانفعالات، وهذه الأخيرة هي ما يتحكم في تقديمه لرسوماته، فهو يرسم الأشياء بناء على انفعالاته الذاتية، يحذف فيها ما يشاء، ويبالغ في إضافة ما يشاء أيضا.

·يعد التسطيح أحد سمات رسوم الطفل في سنواته الأولى، وكلما تقدم في السن كلما تمكن من إيجاد الروابط التناسبية بين الأشياء، وموضعها بالنسبة لبعضها البعض.

·في السنوات الأولى، يرسم الطفل ما يعرفه عن الأشياء، حتى وإن كانت أمامه.

·هناك فروق بين رسوم الجنسين، فالتمييز بين رسوم الذكور والإناث أمر ممكن وسهل، وهو تعبير عن انشغالات كل من النوعين.

·يميل الأطفال حتى سن العاشرة، إلى رسم الأشخاص أكثر من رسم أي شيء آخر، إذ يبدل الطفل جهدا حثيثا في تجسيد الرسومات التي تعبر عن الانسان أكثر من أي شيء آخر.

·صـفات رسـوم الأطفـال عالميـة، فالأطفـال مـن جميـع البيئـات والـدول المختلفـة يتشابهون في اتجاهـاتهم المتبعـة في الرسـوم، وتطـور تعبيراتهم بصرف النظـر عـن بيئاتهم المختلفة، وجنسياتهم و أديانهم، فلا انتماء فكري أو عقدي بإمكانه أن ينعكس على رسومهم.

·هناك تشابه بين رسوم الأطفال ورسوم الرجل البدائي، فرسومات الأطفال في جميع الأحوال بدائية بجميع المقاييس.

·هناك صلة بين رسوم الطفل وذكائه، فإذا كان الرسم مقياسا لقراءة الشخصية، فإنها أيضا تعبير عن مستوى ذكاء الطفل.

·يميل الأطفال ذوي القدرات العقلية المتدنيـة، إلى تقليـد رسـوم الآخـرين أكـثر مـن اعتمادهم على أنفسهم في التعبير.

·تتشابه رسوم الأشخاص ذوي التخلف العقـلي مـع رسـوم مـن يصـغرهم سـنا مـن الأطفال العاديين، وقد بدأ البحث في خصائص رسـوم الأطفـال، ومراحـل نموهم في وقت متأخر من القرن 19، ومن أشهر الباحثين في هذا الصدد، نذكر، جيمس سلي وهربرت ريد... يتبع في القسم الثاني، فتابعونا في قادم الأيام على موقع باب المغاربة.


المراجع


[1] ليو تولستوي، "ما هو الفن؟"، ترجمة محمد عبدو النجاري، دار الحصاد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دمشق، 1991، ص 63.


[2]نفسه، ص 64.


[3]هربرت ريد، "معنى الفن"، ترجمة: سامي خشبة، مراجعة: مصطفى حبيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 164.


[4]نفسه، 164.


[5]نفسه، 164.


[6]نفسه، 165.


[7] خالد محمد السعود، "مناهج التربية الفنية بين النظرية والبيداغوجيا"، الجزء 1، دار وائل للنشر، الطبعة الأولى، عمان، 2010، ص 35.


[8]نفسه، ص 36.
الطفل والفن: الخصائص والآثار. (القسم الأول)

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة