JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

راديوغرافيا الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء (الجزء الثالث)

 



نورالدين البكراوي - باحث في العلاقات المغربية الإسبانية ونزاع الصحراء



 
بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة إلى أن الملفات الست التي ذكرناها في الجزء الثاني من مقالنا السابق: "راديوغرافيا الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء"، تكتسي أهمية بالغة في وسمها للعلاقة الدبلوماسية المغربية الإسبانية، وقد أحكم المغرب توظيفها في وجه إسبانيا، عندما ضبط هندسة تصريفها، ووقت تنزيلها، فكل ملف منها كان له بالغ الأثر على القرارات التاريخية التي اتخذتها إسبانيا. هذا، وتشير كل النتائج المرتبطة بالاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء، وما تلاه من تقارب إيجابي فعال، أنها كانت لصالح البلدين الجارين معا، كما أنها أثبتت براعة الهندسة الديبلوماسية، وحنكتها في إدارة الأزمات، والتحكم في إيقاعات مجرى الأحداث، بل إنها دفعت أعتى المنابر الإعلامية والمحللين السياسيين في العالم، إلى المطالبة بحذو خطى الدبلوماسية المغربية في حل النزاعات، ومن ذلك ما نقف عليه من القول في مقال لتيم قسطانطين[1]، بتاريخ 07 أبريل 2022، تحت عنوان: The Russians and the world could learn from the diplomacy" of Morocco"، "يمكن للروس والعالم أن يتعلموا من دبلوماسية المغرب"، ومن بين ما جاء في معرض حديثه المشبع بعبارات الثناء على الحكمة الدبلوماسية المغربية، نذكر أيضا قوله: "يجب أن تكون تصرفات المغرب في جهوده لتسوية النزاع (يقصد نزاع الصحراء المغربية) هي المعيار الذي من خلاله تحاسب الأمم المتحدة جميع الدول في قضايا الخلاف". عبارات كهذه غيض من فيض، في عمومها، تميل إلى الإشادة بحكمة سلوكيات الدبلوماسية المغربية، وديناميكيتها البارزة للعيان.

     ولعلنا من خلال الجزء الثالث، سنستكمل الملفات الأربعة التي جعلت إسبانيا تعود إلى جادة الصواب، عندما انتهت إلى تغليب التوجه البراغماتي الذي من شأنه إذابة الخلاف بين البلدين الجارين، والنظر إلى القواسم المشتركة بينهما بعين الرضى بشكل يحفظ المتاح من المصالح المشتركة، وينميها، بل ويرقى بها إلى مستويات عليا من التعاون الاستراتيجي، ومن بين ما هذه الملفات نذكر:

سابعا: المنتوجات الفلاحية

     لا تجرؤ إسبانيا على التفريط في الاستثمار الفلاحي على الأراضي المغربية، ففي العقود الثلاثة الماضية، صار اعتياديا مشاهدة تدافع المستثمرين الإسبان للاستقرار في المغرب، طمعا في استغلال الأراضي الفلاحية فيه. فهم يعلمون علم اليقين، جودة تربة الأراضي المغربية الغنية، ووفرة اليد العاملة في المغرب، ومستوى خبرتها، إضافة إلى تمتع البلاد بمناخ متوسطي معتدل، كما أن الإسبان، والأجانب من الاتحاد الأوربي يستفيدون من التسهيلات الإدارية والجمركية والاعفاءات الضريبية والحماية القانونية والدعم البنكي وصناديق الاستثمار التي يحظى بها المغرب.

     وتجدر الاشارة إلى أن من إجمالي عدد الشركات الإسبانية المسجلة في المغرب في قائمة المعهد الإسباني للتجارة الخارجية، هناك 37 شركة (أكثر من 10٪ من الإجمالي) من القطاع الزراعي، بما في ذلك منتجي الخضار والفواكه، وشركات الري، الأسمدة والبذور والشتلات أو الآلات. وعلى الرغم من أن هذه الشركات تعتبر إسبانية بسبب جنسية أصحابها، وأصل الاستثمار الأول، إلا أن الإنتاج يعتبر مغربيًا في أسواق التصدير (أوروبا، روسيا، الولايات المتحدة، الصين... إلخ)، ولهذا السبب، فهم يبقون نشاطهم سريا، ويميلون إلى الهروب من دائرة الضوء الإعلامي حتى لا يتهموا بالاستغلال وانتهاك حقوق العاملين. نشير أيضا إلى أن الشركات الإسبانية تعتمد على زراعة الخضار والفراولة بشكل أساسي في المغرب، إضافة إلى الزهور والمكسرات والأرز، وحتى الزيتون خصوصا في منطقة الغرب وأكادير، والتي يباع كثير منها تحت أسماء تجارية إسبانية، رغم أن المعيار الأوروبي يتطلب ظهور الأصل المغربي على الملصق، وهو الشيء الذي تتم الإشارة إليه غالبًا على مضض، وبحروف صغيرة تكاد لا تظهر.

     وكنتيجة لكل ما ذكرنا أعلاه، تكاثر عدد الشركات التي فتحت فروعها في المغرب، وذاع صيتها لتصبح في الواقع هي الرئيسية، وإن تم الاحتفاظ بالمقر الأصلي في إسبانيا حتى تستفيد في حالة وجود مشاكل قانونية أو حالات تخلف بسيطة عن السداد، من حماية التشريع الأوروبي الذي يغطي مستثمريه بشكل أفضل.

ثامنا: خوف الإسبان من حرمانهم من حصصهم في الاستثمارات المغربية والإفريقية


      وعلى نفس المنوال، امتدادا لرغبة الإسبان الحفاظ على مساهمتهم في الاستثمار في السوق المغربية الواعدة واغتنامهم ما تقدمه من فرص هائلة على المستوي الاقتصادي؛ نبّه وزير الشؤون الخارجية والاتحاد الأوربي والتعاون الإسباني خوسي مانويل ألباريس، في اللقاء الصحفي الذي عقد في برشلونة يوم 18/مارس 2022، مباشرة بعد رسالة سانشيز التي عبر فيها عن موقف وقرار الدولة الإسبانية بالاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء، حيث قال: "بين إسبانيا والمغرب هناك تبادل تجاري يقدر ب 16000 ألف مليون يورو، وهي ثالث شريك تجاري خارج الاتحاد الأوروبي، وحجم المبادلات بين البلدين لم يتوقف عن التصاعد حتى مع جائحة كورونا"، وأردف كلامه بـ"صادراتنا حسب المعطيات التي نتوفر عليها ارتفعت بنسبة 29% سنة 2020/2021، و 17000 شركة إسبانية لها علاقة بالمغرب، 800 منها مستقرة هناك، وأكثر من 800000 مغربي يعيشون في إسبانيا ومندمجون بشكل كامل معنا حيث يساهمون في خلق ازدهارنا ". ثم ما انفك ألباريس يشدد على هذا المعطى في الندوة الصحفية التي جمعته مع نظيره المغربي ناصر بوريطة يوم الثلاثاء 10 ماي 2022، قبل يوم واحد من بدء الاجتماع الدولي حول "داعش" بمراكش مبرزا: المغرب سوق أساسية لإسبانيا خارج الاتحاد الأوروبي، كما تبقى إسبانيا الزبون والمُوَرِد الأول للمغرب".

      وبالرجوع إلى بعض المعطيات الصادرة عن الصفحة الرسمية لوزارة الصناعة والتجارة والسياحة الإسبانية التي تستند بياناتها وتحليلاتها على مكتب مراقبة الصرف، وهي هيئة تابعة لوزارة الاقتصاد والمالية المغربية، تشعر إسبانيا بقلق بالغ إزاء التبعات التجارية وكبح الاستثمارات بعد هذه الحرب الباردة التي يشنها المغرب بذكاء على جارته الشمالية، حيث تعمل 1455 شركة برأسمال إسباني، ويتم الاحتفاظ بمخزون استثماري متراكم يزيد عن 4750 مليون يورو، بحسب بيانات المكتب المغربي للصرف، في حين سجلت بيانات ICEX[2] في 2019 (قبل الوباء)، أكثر من 21800 شركة إسبانية، صدرت للاقتصاد المغربي بقيمة 8,454 مليون أورو، بزيادة 2.7٪ عن العام السابق. فقد بلغ صافي تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تلقاه المغرب خلال النصف الأول من عام 2020، ما يقدر ب765 مليون يورو، وبالتالي انخفض إجمالي الاستثمار المسجل بنسبة 8.24٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، حيث تلقت البلاد ما يقرب من 832 مليون يورو. وتحتل إسبانيا المرتبة الثانية في ترتيب المستثمرين بالمغرب، بتدفق استثماري إجمالي قدره 107 مليون أورو، استحوذ فيه الاستثمار الإسباني على 14٪ من الاستثمارات المسجلة في البلاد، ولم تتجاوزها سوى فرنسا بنسبة 23٪، وبهذه الطريقة ساهمت فرنسا وإسبانيا في الفترة من يناير إلى يونيو بنسبة 37٪ من صافي تدفق الاستثمارات.

      يبدو أن إسبانيا ترتقي بمركز مقارنة بعام 2019، عندما كانت ثالث أكبر مستثمر في المغرب، لكن بنهاية 2020، سجلت بيانات الفصل الأخير مستوى منخفض من صافي الاستثمار لعام 2021، ويمكن إرجاع ذلك، بالإضافة إلى التأثير السلبي لفيروس كوفيد -19، إلى تدهور العلاقات بين المغرب وإسبانيا بعد أزمة بن بطوش. عموما، فإن إسبانيا تدرك أن علاقتها المتوترة مع المغرب ستدفع الاستثمار للاتجاه التنازلي الذي لوحظ بالفعل.

     ومع معرفة مسبقة بتغلغل المغرب في الأسواق الإفريقية، وما تلاه من انضمامه إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة ب (سيدياو)، فإن إسبانيا تطمح إلى الرفع من قيمة الاستثمارات بعد أن لاقت نجاحا جيدا بدفعها بقطاع الكهرباء والغاز وتكييف الهواء الذي سجل أعلى رقم لسحب الاستثمارات (حوالي 57 مليون يورو) في المغرب، وهو أمر لافت للنظر، لأنه قطاع كان له تدفقات إيجابية منذ عام 2014. في المقابل، تجدر الإشارة إلى الصناعة التحويلية وقطاع العقارات باعتبارهما أكبر القطاعات المستفيدة من حجم الاستثمار، بتدفق إجمالي قدره 257 مليون يورو، ويمكنها إذا ما شاركت المغرب في مشاريعه الإفريقية مضاعفة أرقامها أضعافا مضاعفة. على نفس الخط شهدت الصناعة التحويلية زيادة في الاستثمار بنسبة 98 ٪ مقارنة بالنصف الأول من عام 2019، لتصبح العقارات، القطاع الرئيسي من حيث الأهمية، بعدما كانت تقليديا أحد القطاعات الرئيسية المستقبلة للاستثمار، تتلقى هذه المرة 177 مليون يورو، وتحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية.

     وبالإضافة إلى هذه الأرقام، هناك الكثير من الأمور على المحك بالنسبة لإسبانيا، في بلد أعلن عن استثماره لأكثر من 55000 مليون يورو في البنية التحتية حتى عام 2035، منها 2512 مليونًا تم استثمارها بالفعل العام الماضي في مشاريع كبرى مرتبطة بالمد بالطرق والسكك الحديدية ومعالجة مياه الصرف الصحي، والتي تشارك فيها العديد من الشركات الإسبانية ك Indra ،Ayesa ،Copisa ،Idom ،Comsa ،Ineco، Abengoa ،Endesa، أو Naturgy... وجميعها شركات تضغط على الحكومة لإيجاد حل للتوتر القائم باعتراف إسبانيا بمغربية الصحراء، حتى لا تحرم من السوق المغربية الواعدة والمزدهرة في الوقت الحالي.

تاسعا: ملف الإرهاب ومسألة التعاون الأمني


    إن كل الملفات التي استعرضناها مهمة للغاية، لكن ملف الإرهاب والتعاون الأمني بين المملكة المغربية والمملكة الإسبانية له خصوصية فريدة من نوعها وأولوية قصوى تجعله يتسيد كل القضايا المحورية، بحيث يتم التعامل معه بشكل مختلف بغض النظر عن الظرفيات المختلفة من حالات التناغم والتنافر التي تمر بها العلاقات المغربية الإسبانية. فرغم كل الملفات الخِلافية والتوتر الدبلوماسي نتيجة عدة قضايا سبق وأن ذكرناها، إلا أن حاجة مدريد إلى الرباط في مجالي محاربة الإرهاب والهجرة غير النظامية ومراقبة وتتبع شبكات ومنظمات المخدرات العابرة للحدود، تستدعي على البلدين تجاوز كل ما يفسد تحدياتهما الأمنية والتركيز على ضبط كل الأمور المتعلقة بأمنهما القومي، وتكتيف الجهود لمواجهات التحديات الأمنية التي تعترض البلدين في سياق إقليمي متقلب ومتحول. وعلى مر السنوات، تمكن المغرب لوحده من توقيف وإجهاض عملية عبور نحو السواحل الإسبانية ملايين المهاجرين السريين، سواء القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء أو المواطنين المغاربة[3]. ونجح البلدان الجاران في تفكيك عدد كبير من الخلايا النَّشِطَة في البلدين بطريقة منسقة ومتزامنة، بسبب يقظة أجهزتهما الأمنية وتبادل المعلومات بينهما على طول الخط، ولا سيما في مجال محاربة شبكات استقطاب مقاتلين لمصلحة المجموعات المتشددة، كالتي تم كشفها سنة 2019، في حملة قادتها المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والشرطة الوطنية الإسبانية، حيث تم إلقاء القبض على شبكة من أربع عناصر: ثلاثة منهم في المغرب وواحد في إسبانيا متخصصين في استقطاب مقاتلين جدد لتنظيم القاعدة. كما أنه في كل شهر يتم رصد شبكات منظمات المخدرات العابرة للحدود والمافيات المتخصصة في الهجرة السرية والاتجار بالبشر، وتضيق الخناق عليها والقبض في مناسبات عدة على عناصر خطيرة منها. وفي سياق متصل قد اتفق مسؤولي الداخلية والجهات الأمنية في كل من البلدين يوم الجمعة، السادس من ماي 2022، على تعزيز الدوريات المشتركة لوقف وصول الزوارق التي تحمل المهاجرين السريين حسب ما أعلنته جريدة "الباييس" الإسبانية، في مقال بتاريخ 07 أبريل 2022.

      وفي الوقت الذي تصف فيه الرباط ومدريد تعاونهما بـ"المستوى العالي والنموذجي"، وتقولان إن شراكتهما الأمنية "مبنية على المسؤولية المشتركة والثقة المتبادلة"، تكشف الأرقام أن التعاون الأمني والاستخباري مكّن البلدين من تنفيذ أكثر من 21 عملية مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب منذ عام 2014، "وتمكن المغرب لوحده من تفكيك أزيد من 210 خلية إرهابية" كما جاء على لسان ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، أمام الوفود الديبلوماسية العالمية من 84 بلدا، والتي حضرت إلى المغرب بمناسبة الاجتماع الدولي حول "داعش" الذي استضافته يوم الأربعاء، 11 من شهر ماي 2022، بمدينة مراكش.

    وفضلا عن ذلك، تُثني الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية - في كل مرة- على الدور المغربي في مكافحة الإرهاب وتخصص له دعما ماديا ولوجيستيكيا مهما، ففي يوم 09 من نونبر 2020، حسب ما جاء في تقرير لجريدة أتالايار Atalayar الإسبانية، طالبت كل من فرنسا وإسبانيا وبلجيكا بدعم الأجهزة الأمنية المغربية وتمتيعها بكل ما تحتاج اليه، خصوصا في الأمن السيبراني حتى تواصل نجاحاتها على جميع الأصعدة.

      لذلك، لا مناص لمدريد عن الرباط في مجال الأمن، والعكس صحيح، فالنجاح في تحدي فرض الأمن في كل من البلدين، وكذا التهديدات المتزايدة في عالم يزداد توترا، تفرض التعاون من أجل البحث المشترك عن استراتيجيات أمنية جديدة، والتفكير المتجدد عن آليات عملية في عدة ملفات وعلى مستويات مختلفة من التدبير الأمني. ولا غرو أن كفاءة المؤسسات الأمنية المغربية لها سمعة تسبقها، فهي من أقوى الأجهزة الاستخباراتية في العالم، ولعل وجود المكتب الوطني للأبحاث القضائية خير دليل على ما نقول. فالتدخل المخابراتي المغربي أنقذ الكثير من مناطق العالم من أخطار محققة، لذلك كان واجبا الإشادة بالرباط في ما يتعلق بالسياسة الاستباقية الأمنية.

      وحري بنا التذكير بأن التنسيق والتعاون والربط والاتصال في مجال الأمن بين المغرب وإسبانيا، بالفعل يستحق الدراسة، فهو لا يتأثر بالتقلبات والتوترات السياسية وحتى الاستخباراتية (كالحاصلة فعلا في نفس الوقت الذي نكتب هذا المقال، والمتمثلة في أزمة اتهام المغرب بالتجسس على شخصيات إسبانية مهمة عن طريق برنامج بيجاسوس) التي تحصل بين الفينة والأخرى إلا نادرا، مثل ما حدث بعد أزمة بن بطوش. فمهما يحصل يبقى المستوى الأمني فعال جدا وعلى درجة عالية من اليقظة، ولضمان ذلك، يحرس الطرفان في عدوتي مضيق جبل طارق، خصوصا بعد الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء، على تجديد الاتفاقيات والعلاقات الثنائية بين الدولتين حتى ينعما بشراكة نموذجية على مستوى علاقات الأجهزة الأمنية المختصة والتنسيق المحكم بين مختلف مؤسساتهما.

      مما لاشك فيه، أن للمغرب سياسة استباقية وخبرة دولية في التعامل مع مواقف محرجة من حالات الإرهاب والتهديد المباشر للأمن القومي، لذلك فرض نفسه لاعبا أساسيا لا غنى عنه داخل المعادلات الأمنية على المستويين الإقليمي والدولي، وهو ما كرّسته رئاسة المغرب للمنتدى الدولي لمحاربة الإرهاب لولايتين متتاليتين، وكذلك إشادة الولايات المتحدة في تقاريرها عن الإرهاب باستراتيجيته في هذا المجال، ووصفته بـ"الحليف الرئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي والعضو المهم في مكافحة الإرهاب والتطرف الفكري". ولا شك أن المجتمع الدولي يعي ويفهم ويقدر دور المغرب وريادته في المجال الأمني وانخراطه الدائم في حفظ الاستقرار والسعي الدؤوب إلى حماية المكتسبات والمبادئ الأممية وتحقيق المصلحة الفضلى للمجتمع الإنساني، ولا غرابة في أن يتبوأ سنة 2022، المركز الأول عالميا (من أصل 169 بلدا من كافة أنحاء المعمورة) في المحافظة على السلم والأمن الدوليين حسب تصنيف "مؤشر الدول الجيدة" التي تعتمد في هكذا تصنيفات على تقارير من هيئات ومنظمات ولجان عالمية تابعة للأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها.

عاشرا: ملف ترسيم الحدود البحرية وأزمة جبل توبيك


      لا ريب في أن العلاقات المغربية الإسبانية تعترضها الكثير من الخلافات في العديد من القضايا طبعا، فكل طرف يدافع عن مصالحه وفق ما لديه من حجة وسند قانوني وتاريخي، ومن أبرز هذه القضايا التي تستوجب حلا سياسيا توافقيا يرضي الطرفين معا، ملف ترسيم الحدود البحرية بين المغرب وإسبانيا. فقد قام المغرب بترسيم حدوده البحرية من طرف واحد إثر التصويت بالإجماع من طرف غرفتي مجلس النواب والمستشارين يومي 22 يناير 2020 و 4 فبراير 2020 على مشروعي قانونين يتم بموجبهما ترسيم حدود المياه الإقليمية للمغرب (على بُعد 12 ميلاً بحرياً) والمنطقة البحرية المتاخِمة (24 ميلاً بحرياً)،ثم إنشاء منطقة اقتصادية خالصة على بُعد 200 ميل بحري، وذلك طبقاً لأحكام «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار»[4] الموقّعة بمونتيغو باي (جامايكا) يوم 10 ديسمبر 1982، والتي تضمنت المصادقة على مشروع القانون الخاص بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، وإدراج مادة خاصة تسمح للمغرب بالتمتع بالحقوق السيادية والحصرية على الجرف القاري، وذلك في حدود 350 ميلاً بحرياً، ونيته رفع طلب مُعلَّلٍ لـ«لجنة حدود الجرف القاري» التابعة للأمم المتحدة لذلك الغرض.

       وبعد أن تمت المصادقة في البرلمان المغربي على القانونين يوم 3 أبريل 2020، ثارت حفيظة إسبانيا، حيث أقدمت على إعلان حالة الطوارئ القصوى. فالمغرب، وبدعم أمريكي سابق، سيقوم باستغلال كل الموارد الطبيعية الحيوية والاستراتيجية (دون أن تستفيد اسبانيا من شيئ) بما فيها بنوك الأسماك الهائلة، وآبار النفط وأحواض الغاز ومعهما درة التاج الجبل البحري تروبيك (الذي يلقبه علماء المعادن: الكنز المدفون، لغناه بالمعادن النادرة التي هي مستقبل تكنولوجيا المستقبل). يكمن ثرائها في صخور الحجر الجيري الفوسفاتي ودرات المنغنيز المتعددة المعادن، كما أنه توجد معادن استراتيجية مثل النيكل والتروليوم والكوبالت والنحاس، فضلاً عن العناصر الأرضية النادرة.

     نجد في هذا الصدد، أن أستاذ -علم البلورات وعلم المناجم في جامعة لاس بالماس دي غران كناريا (ULPGC)- خوسيه مانغاس، يشير إلى أنه في "مقابل كل طن من الصخور أو الرواسب، يمكن العثور على ما بين كيلوغرام واحد وثلاثة كيلوغرامات من الأرض النادرة"، ويضيف: "وجد اليابانيون رواسب بحرية في أعماق البحار ذات تركيزات عالية من الأتربة النادرة في المياه الواقعة على أعماق 4000 أو 5000 متر، ملائمة لنا". من خلال كلام هذا الباحث يظهر الآمال التي كانت تعلقها إسبانيا للظفر بالجبل، وهذا هو السبب الذي دفعها لضمه لسيادتها بأي ثمن. فهذا الجبل البركاني يرقد تحت سطح البحر بعمق ألف متر، ويوجد جنوب جزر الكناري (على بُعد 269 ميلاً خارج نطاق مجالها البحري)، بينما يقف ضمن حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للجرف القاري للمغرب (350 ميلا) على بعد 290 غرب مدينة الداخلة المغربية، وهو ما يجعله ضمن الحدود الإقليمية المغربية. هذا، ويتفق الخبراء والمحللون السياسيون على أنه من أكبر أسباب النزاع والأزمة بين البلدين، لما يزخر به من ثروات معدنية استراتيجية غاية في الأهمية في الصناعات التكنولوجية الراهنة والمستقبلية.

      ولإبراز الأهمية الاستراتيجية لهذا الجبل البركاني، يمكن أن نحيل إلى العديد من التقارير والمعطيات، ومنها، التقديرات التي أجراها مركز المحيطات بالمملكة المتحدة (NOC)، في رحلة استكشافية مشتركة مع المعهد الإسباني للجيولوجيا والتعدين (IGME)، تؤكد وجود حوالي 2670 طنًا من التيلوريوم بنسبة 10% من مجموع الكمية الموجودة في العالم. وتزداد أهمية هذا المعدن الذي يعتبره العلماء ذهب التكنولوجيا الحديثة، عندما نقف على ضرورته لتشغيل شاشات اللمس، أو تصنيع الألياف الضوئية والرقائق الإلكترونية والألواح الشمسية وصناعة السيارات والأقمار الاصطناعية... إلخ، كما يزخر الجبل، حسب نفس المركز، على نسبة عالية من الكوبالت تضاعف تلك الموجودة في كل الكرة الأرضية ب 54 مرة، وقد تكفي للمساعدة في تصنيع 270 مليون سيارة كهربائية، وهنا نفهم سبب تهافت الدول العظمي علي طلب ود المملكة المغربية، فبفضله سيصبح المغرب دولة تتحكم في قرار الصناعة التكنولوجية العالمية وأسواقها تماما، بالقدر الذي يِؤثر في السلة الغذائية العالمية من خلال إنتاجه للفوسفاط. ولعل معرفتنا بهذه المعطيات، كفيلة بتفسير الخطوة غير المسبوقة لمدريد سنة 2014، عندما عجلت بتقديم طلب لمنظمة الأمم المتحدة من أجل تمديد الجرف القاري لجزر الكناري إلى 350 ميلًا بحريًا - الحد الأقصى للمسافة المسموح بها- ويبقى الطلب لحد الآن بدون رد.

      وإذا اعتبرنا أن السياسة فن الممكن، فإن اعتراف اسبانيا بمغربية الصحراء بمثابة الحل سياسي الأمثل لإنهاء النزاع الحدودي البحري، من جهة، وضمان حصة من الاستثمارات المتعلقة باستغلال الجبل المعدني النادر، كما أنها ستكون بداية تعاون حقيقي مع جاره الجنوبي بشكل ودي يسوده الاحترام والتقدير وحسن الجوار، بعيدا عن أي خلافات أو توترات كالتي حدثت مؤخرا إثر انطلاق مشروع مزارع الأسماك التي أطلقها المغرب بالقرب من الجزر الجعفرية المحتلة، ولاقت موجة غضب في الأوساط السياسية والحكومية الإسبانية وصلت حد الوعيد والتهديد.

     ولا غرو، أن ملف ترسيم الحدود وخلق شراكات اقتصادية فعالة، والتعاون في المشاريع الاستراتيجية في المنطقة البحرية، بما فيها استغلال موارد جبل تروبيك، سيكون لها نصيب الأسد من الأولوية، بالإضافة إلى ملف الهجرة السرية، وقد تم مناقشتها بعناية فائقة، وسيتم معالجتها والاشتغال على حلها بشكل مكثف من طرف الملك محمد السادس، ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، لما لهذه القضايا من نفع ومصلحة على المملكتين، ومن شأنها أيضا، الدفع بالتنمية إلى مراحل أعلى، وفرض الأمن والاستقرار في المنطقة بما يضمن الرخاء لشعبي البلدين.

      وبناء على كل الملفات الش السابقة التي قمنا بتحليلها؛ وهي قضايا شائكة ومتشابكة تحكمها المصلحة البحثة، يمكننا الآن فهم لمَ المغرب وإسبانيا مفروض عليهما التفاهم والتقارب والحرص على مساندة بعضهما البعض، فهما يعلمان علم اليقين، أن العالم ماض إلى تشكيل تنظيمات إقليمية وجهوية مبنية على أساس المصالح المشتركة. من هنا، صار لزاما عليهما إيجاد السبل والخيارات القادرة على السماح لهما بتبوء مكانة بين الكبار، كما أنهما يعيان ضرورة اللجوء إلى التفكير البرغماتي الذي يدفع نحو التطور والتقدم والبناء. فكلا البلدين الآن، ترسخت لديهما فكرة أن التعاون والشفافية والشراكة الحقيقية هي ما يحتاجانه ليجتنبا السقوط في براثن المواجهات الدراماتيكية، والتحولات الفجائية التي قد يفرضها تأزم الأوضاع.

     إذن، من الجانب السياسي، صار الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء ضرورة ينبغي أن تعلن أمام أنظار العالم، وهو الأمر الذي حصل فعلا، وقد كان وقعه قويا صدم الكثيرين في الساحة الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وبطبيعة الحال، فإن الحدث يشكل انعطافة حميدة في تاريخ البلدين، وسيذكره التاريخ لا شك، بمداد مضغوط. فهذا الحدث التاريخي كفيل برسم خارطة طريق جديدة تصون هذا المكسب السياسي الذي سيؤثر -إيجابا لا محالة- على الجانب الاقتصادي، خاصة وأن المغرب وإسبانيا، ولعقود طويلة، رام كل منهما إلى رسم أهدافه الاستراتيجية وتحقيقها وفق حاجاته ومصالحه الخاصة بعيدا عن استحضار عنصر الجوار، لكنهما في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ، قررا توحيد الصف، والاصطفاف معا لاختيار نفس المدى والأفق، كما سعيا إلى التموقع مع بعضهما البعض تماما كوجهي الورقة النقدية، ليدشنا عهدا جديدا يسوده التفاهم والتعاون.

     وفي جميع الأحوال، بعيدا عن السياسة وقوانينها المؤقتة والعرضية، قريبا من التاريخ وتقلبات أحواله، وإيمانا منا بأن تاريخ العالم هو محكمة العالم كما علمنا إياه المؤرخ الالماني رينكيه، فإن هذا الاتفاق يبقى اتفاقا مرحليا، لا يمكن أن نركن إليه ونطمأن في ظل وضع علائقي غير مكتمل، فإسبانيا لازالت تحتل أجزاء من التراب المغربي، وما زال فيها من المتعصبين من يقنعون أنفسهم "عبثا" بأنها أراضي إسبانية. ومن جهة أخرى، فالمغرب مرتبط أشد الارتباط، باستكمال وحدته الترابية، وهي التي يعتبرها أحد الثوابت الراسخة في الوعي الوطني للمغاربة ملوكا وشعبا. أمام هكذا معطيات، إلى متى سيدوم الود ومهرجان الحب المغربي الإسباني يا ترى؟ وإلى متى ستصمد أحكام السياسة والاقتصاد أمام منطق التاريخ والجغرافيا؟

الهوامش


[1] كاتب سياسي أمريكي، صاحب عمود دائم على جريدة واشنطن تايمز المرموقة ومقدم البودكاست الشهير "The Capitol Hill Show" "كل أسبوع من واشنطن العاصمة".


[2] ICEX: معهد التجارة الخارجية، هو هيئة عامة إسبانية مسؤولة عن الترويج للشركات الإسبانية دوليا وتحسين قدرتها التنافسية وجذب الاستثمارات الأجنبية إلى إسبانيا.


[3] يشدد خوسي مانويل ألباريس، وزير الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسباني، في الندوة الصحفية المشتركة التي جمعته بنظيره المغربي السيد ناصر بوريطة، يوم الثلاثاء 10 ماي 2022، قبل يوم واحد من بدء الاجتماع الدولي حول "داعش" بمراكش على أن أعداد المهاجرين الغير شرعيين القادمين إلى جزر الكناري تقلصت بنسبة 70% في شهري أبريل وماي عن ما كانت عليه في شهري يناير وفبراير. وهذا يدل، لا محالة، على أن الاعتراف الاسباني بمغربية الصحراء ساهم بشكل كبير في وقف الأعداد الضخمة التي كانت تغزو كل يوم هذه الجزر بأعداد مهولة.


[4] راجع-: توليو تريفيس، القاضي بالمحكمة الدولية لقانون البحار الأستاذ بجامعة ميلانو، في "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار" حيث نجد: "فتح باب التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في مونتيغو باي، جامايكا في 10 / كانون الأول ديسمبر 1982. وبدأ نفاذ الاتفاقية في 14 / تشرين الثاني نوفمبر 1994، وهي الآن ملزمة بالنسبة ل 154 دولة، فضلا عن الاتحاد الأوروبي ( اعتبارا من 24 تموز/ يوليو 2008 .(وهي تعتبر “دستور المحيطات” وتمثل نتيجة جهد لم يسبق له مثيل وفريد من نوعه حتى الآن لتدوين القانون الدولي وتطويره التدريجي. إن المواد التي يزيد عددها على 400 والتي يتألف منها نص الاتفاقية والتسعة مرفقات التي تشكل جزءا لا يتجزأ منه تمثل الناتج الأكثر شمولا وتفصيلا لأي نشاط تدويني اضطلعت به الدول بنجاح حتى الآن تحت رعاية الأمم المتحدة".
راديوغرافيا الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء (الجزء الثالث)

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة