JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Home

مائة عام من الشّعر لورنس فرلينغتي رائد الكلمة الحرة


 



محمد قنور - شاعر ومترجم



عُرف لورنس فرلينغتي (1919-2021)، شاعرا حرا في الأوساط الأدبية الأمريكية بعد نشره لمجموعته الشعرية "صور من العالَم الرّاحل" عام 1955. فتلقى نقدا لاذعا نظرا للجرأة الكبيرة في استعمال الكلمات مكسّرا كل قيود الشعر الكلاسيكي، والحقيقة أن أمريكا لم تكن لتعرف انبثاق هذا الشاعر لولا نشره لكتابه بنفسه في مكتبته ودار النشر التي أسسها تحت مسمى"مدينة الأضواء City Lights". ومع انتشار الكتاب في أروقة بقية المكتبات في أمريكا، صار الرأي العام عكس ما يقذف به لورنس، فاعتُبرَ شعره فأسا صغيرة تضرب في شجرة المجتمع المحافظ الكبيرة وقيّم الشعر الكلاسيكي الرّاسخة. "ما هذا؟ فكّرتُ. كيف سُمح لهذا الشاب أن يكتبَ بهذه الطريقة؟ فتلك الخطوط المتقافزة تحملُ جرعة كبيرة من الحرية إلى حد الثّمالة،" قال أحد الصحفيين حينها معلقا على الكتاب. آنذاك، ابتاع الكتاب حتى هؤلاء الذين لم يسبق لهم أن ابتاعوا كتابا شعريا، فقد انتشر هذا النوع من الشعر بين المراهقين وكل من يطالب بالحرية بمفهومها الشاسع، مما أجج الرأي العام حول خطورة ما يتم نشره تحت مسمى "جيل البيتْ". هذا الأخير الذي تبلورَ كفكرة صغيرة تدعو إلى رفض القيم التعبيرية الكلاسيكية في الرواية والشعر ورفض الرأسمالية بكل أشكالها وتدعو إلى الانفتاح على الديانات الشرقية وحرية استعمال المخدرات والتحرر الجنسي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

قضى الشاعر فرلينغتي أكثر من نصف قرن من عمره دفاعا عن كلمته وأسلوبه ونوعية الشعر الذي يكتبه أبناء جيله "شعر البيتْ (Beat)". ليظل أسلوبا فنيا يحتفي بالحرية في كل أبعادها الإنسانية، هذا الأسلوب الشعري الذي اقترن بفرلينغتي منذ بداياته في أواسط القرن الماضي، فكان فرلينغتي مؤسس هذا الأسلوب الأدبي إلى جانب شلة من الكتاب والشعراء ورائد ثورته ضد القيود التي تحد مسار الكلمة.

في العام 1956، نشرت دار النشر "سيتي لايتس" قصيدة "عواء" للشاعر آلن غنسبيرغ في شكل كتيّب للجيب، وهي قصيدة مطولة تنتقد سياسة أمريكا الداخلية والخارجية والتعسف الأمني ضد الحريات والميز العنصري. فأُخذَ كل من غنسبيرغ وفرلينغتي إلى المحاكم نظرا للجرأة الكبيرة في فضح سياسة أمريكا واستعمال لغة قوية تكاد تكون سبا وشتما، حيث اتهما بنشر الفاحشة والتشويش على الرأي العام. أدى الأمر هذا إلى مناهضة التعسف الأمني من طرف عدد من الجمعيات الحقوقية معتبرة إياه بالمضاد لحرية التعبير، إذ اعتبر البعض أن عفوية استعمال علامات الترقيم عند كتاب البيت ولغتهم الواضحة والبسيطة والمتجاوزة للحدود أسلوب جديد يجب تقبّله. كما أن هواية القراءة ارتفعت نسبتها كثيرا داخل المجتمع الأمريكي آنذاك، الشيء الذي اعتُبر من إيجابيات كتّاب البيتْ. بعد فترة قصيرة، حصلَ غنسبيرغ وفرلينغتي على حريتهما، واستمرّا في ريادة مجموعة الكتاب التي تدعو نفسها ب"البيتْ" وهي كلمة تعني حرفياً الجيل المُنهك، كان قد دعا إلى تفعيلها الكتاب: جاك كرواك وهربرت هانكي وويليام بروز والمحرر الصحفي لوسيان كار في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.

وتأكيدا على بقاء ثورة هذا الجيل وامتداده، نشرت دار النشر (فايكين بريس) في مدينة نيو يورك رواية جاك كرواك الأولى "على الطريق" عام 1957، والتي تحكي قصته وهو يجول أمريكا حرا وبدون دفع تكلفة النقل مع أصدقائه الكتاب والشعراء خصوصا نيل كسيدي وآلن غينسبرغ. ثم، نشر ويليام بروز روايته "الغداء العاري" في باريس في العام 1959، والتي يحكي سردها عن شخص متمرد يدمن التدخين والمخدرات، ويستعمل أسماء مستعارة في كل بلد يحط الرحال به على الخصوص بلده أمريكا والمكسيك ثم مدينة طنجة المغربية التي كانت منطقة دولية آنذاك.

في وقتٍ، اعتُقدَ أن فرلينغتي يعيش عزلة مثل إ. إ. كامينز وتشارلز بوكوفسكي نظرا لتشابه الأسلوب، إلا أنه على العكس من ذلك تماما، فقد اعتاد الرجل أن يكون بوابة كبيرة للشعراء الشباب في أمريكا على مر سنين نشاطه الشعري، فدائما يساعدهم ويشجعهم من خلال استقباله لهم في مكتبته وقراءة شعره في أماكن متعددة وحضور محاضرات أدبية مجانا قبلما ينهكه العمر ويذهب إلى عزلته في مزرعة في نواحي سان فرانسيسكو تاركا سيتي لايتس في أيدي عماله، وهو الذي قال: "إذا كنت تريد أن تكون شاعرا، فعليكَ أن تخلق فنا راقيا للرد على الأوقات المروّعة التي تعيشها ولو بمعنى مروّع. أنتَ وايتمان وآلن بو ومارك تواين ونيرودا وماياكوفسكي وباسوليني، وأنتِ إميلي ديكنسون وإدنا سانت فينسنت ميلاي، وأنت أمريكي أو غير أمريكي... يمكنكَ قهر الغُزاة بالكلمات." وإلى جانب وقوفه ضد حرب الفيتنام، فقد وقف فرلينغتي إلى جانب الشعراء الهنديين في "حركة شعراء الجوع" بعد اعتقالهم في العام 1964 في كلكوتا، فساعد على ترجمة شعرهم وقدمهم للقارئ الغربي في مجلة "سيتي لايتس" للأدب والثقافة التي يديرها متعاطفا معهم ومع الكلمة الحرة بصفة عامة. يقول فرلينغتي: "بما أني عملت في البحرية الأمريكية، زرت ناغازاكي ورأيت تلك الأطلال والخراب الذي خلفته القنبلة النووية بعد ستة أسابيع على سقوطها في اليابان، فتغيرت وجهة نظري صوب العالم والحياة." منذ تلك اللحظة إلى الآن صار فرلينغتي من دعاة السلام مدى الحياة.

بعد استقراره في سان فرانسيسكو في 1950، نمى الولع والحنين إلى وطن مسالم وعالم بلا حرب عند فرلينغتي فوجد ضالته في الأدب والفن يكتب الشعر ويرسم ويقرأ بنهم، وهناك أسس مكتبة سيتي لايتس على أنقاض بناية خربها زلزال كان قد ضرب المدينة قرب الشاطئ الشمالي، فأضحت معلمة أدبية كبيرة وصخرة شامخة من أجل الشعر والفكر التقدمي، تنشر الموضوعات الأكثر وضوحا وجرأة، والآن إنها مكان عالمي يقوم عُشّاق الأدب بالحج إليه. ومن هناك استمر فرلينغتي في كتابة الشعر والاحتفاء بالأدب الحر لعقود عديدة حتى وأنه يقترب من عيد ميلاده 99 الآن، فيعتبرُ أبرز ناشر وراعٍ للفن في وقتنا المعاصر.

مؤخراً، أصدرَ الشاعر مجلدا يضم أهم أعماله بعنوان: "أعظم قصائد فرلينغتي". في هذا الكتاب، تترتب القصائد زمنيا بشكل سلس كأنها جزء من سيمفونية تاريخية؛ تذكر كل اللحظات الصعبة التي مر منها العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا.

وإنه لأمر فظٌّ نكر أن فرلينغتي قد منح للقيم الشعبية حقها في الكثير من الخطوط المتعذر محوها. منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فقد وقف صوته وسط جوقة منشقة ومتزايدة خلال أيام المقاومة السياسية والصراع العرقي، والآن إنه من المألوف أن نلتقي مع بعض من عباراته في المواقع الاجتماعية؛ عبارات تدعو إلى الحرية ومقاومة التعسف السياسي.

إنه يعرف كيفية وضع صنارته وصيد الفكرة والقارئ معا، فقد صنفه البعض ككاتب أغاني ماهر، وخطوطه دائما تتدفق بسهولة على اللسان وواضحة للعقل كأغنية جميلة. لديه موهبة أن يساعدك على سماع ما يقال بشكل خال من المرشحات الصعبة الإدراك، فهو يشعر بالحساسية من الغموض المتعمد كما أوضح ذلك في قصيدته "بيان شعبي" في كتابه "هذه أنهاري". إن العودة إلى فرلينغتي هو في نهاية المطاف عودة إلى التجمعات الرومانسية في الوسط الذي صنع فرلينغتي. لذلك فمن المنطقي أن بعض أساليب فرلينغتي الأكثر ثباتا هي تلك التي ينظر من خلالها إلى الوراء أثناء ذروة مجد جيل البيتْ في القرن الماضي. يملأ شعر فرلينغتي الحنين إلى مدرجات الشاطئ الشمالي حيث انتشرت ثقافة البيتْ واجتمعت مع محبي موسيقى الجاز وصار الكل يرتدي القبعات ويدخّن السجائر الفرنسية ويستمع للشعر. لذلك، تبدو القصائد، حتى عندما قارب صاحبها مائة عام من حياته، مفعمةٌ بالطاقة الشابة، كنبض تحرير لا يزال معديا جدا في عصرنا هذا.

***

مختارات من قصائد لورنس فرلينغتي:

ترجمة: محمد قنور

~

أنتظر أحداً ليوقف هذا العويل!

حقا، يمكن للملابس الداخلية أن تقيّدك

يرتدي السود لماما

ملابس داخلية بيضاء

قد تؤدي إلى متاعبٍ

وأنا في انتظار حل لقضيتي

وأنتظر ولادة جديدة عجيبة

*

أنتظر شخصاً ما

ليكتشف أميركا حقاً

ويوقف هذا العويل

*

لقد رأينا أروع العقول من جيلنا

دمرها الملل من القراءات الشعرية،

فالشعر ليس مجمعاً سرياً

وليس معبداً

والكلمات السرية مهما هتفت

لن تقدم شيئاً

*

صعدت عصابة من المتمردين

إلى أسطح المنازل

قرب المقابر القديمة،

وجعلت من الجنون

مائة عام من الغضب

*

الأشواق ومطالب الطريق

الأوهام والتوهج

مثل السير إلى ما لا نهاية

عبر الشوارع المنحنية

كموهبةِ تحسُّسِ نماذج مرسومة

بعينين معصوبتينِ

مثل الأعالي والخمر اللذيذ،

أُحيّيكَ الآن.

مائة عام من الشّعر لورنس فرلينغتي رائد الكلمة الحرة

نورالدين البكراوي

Comments
    NameEmailMessage