د. يونس البقالي - باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات
شبكة التاريخ الملتبسة:
لقد قطعنا وسط شبكة العلاقات التاريخية الملتبسة ما يكفي لكي ننبثق عن الطبيعة منذ تحكّم الأولون في النار، وشرعوا في ممارسة طقوس حشدت الجمع على إيقاع التواصل، وبعثت في النفس طمأنينة قوّت الشعور بالقدرة على المواجهة من داخل هذه الطبيعة الموحشة، حيث تتصارع الأنواع من أجل البقاء، ولعل «قدرة النوع البشري على إخضاع الطبيعة لتلبية حاجاته الملحة، إنما وجدت مبررا لها في ذلك الشعور المتأصل بالسمو الروحي على الطبيعة»[1]. شعور أدفأته النار يوم اجتمعت حولها المجموعات البشرية طلبا للدفء والحماية، فإن كان من اختراع أو اكتشاف ارتبط به مصير البشرية، فإن أول من أشعل النار، وأبقاها متقدة، يستحق فعلا أن ينال شرف "منقذ البشرية". بالنار استطاع الإنسان أن يتحلق بشكل دائري، فرض نوعا من النظام والتناغم، وسمح للمتحلقين حول النار بالتأمل والنظر فيها، كما في باقي أفراد الجماعة. وحول النار انتبه الإنسان إلى ضرورة تكسير حاجز الصمت بالرقص والصياح حتى صار الأمر يبدو وكانه طقس أو شعيرة، كما مكّن التجمهر حولها الإنسان البدائي من توليد تواصل متقدم مشبع بالإيحاءات والإيماءات. ولولا هذه النار، لظلّت المخلوقات البشرية هائمة عند كل غروب، تبحث لها عن ملاذ يأويها من البرد، أو حصن يمنع عنها الوحيش الضارية، إذ بالنار تفادى أجدادنا الأولون هول انقراض هذا المخلوق المتأخر في الظهور على هذا السطح الأرضي، وهو الضعيف الواهن، التائه بين باقي المخلوقات. ويكفينا منها، أنها سمحت للإنسان بالانتقال إلى عصور صهر المعادن، وصناعة الأسلحة، للذود عن الإنسان، قبل أن تتحول إلى وسيلة للتجاسر بين الجماعات البشرية، وكأن الحرب اختراع لاذ بها الإنسان لما استكثر نوعه، واطمأن قلبه، واستكان ذهنه إلى قدرته على البقاء.
بقدر ما جلبت النار من الضر، عم خيرها، ومن ذلك، تكثيف وتضييق الفضاء التواصلي بين الأفراد داخل جماعات النار التي أطالت من وقت استخدام الرموز والعلامات في مواجهتهم لبعضهم لحظة تحلقهم حولها، والحق أنه «بمجرد أن بدأ البشر في استخدام الإشارات والرموز لتمثيل العالم الطبيعي، اندفعوا خارج حدود ذلك العالم»[2]. مكنتهم الرموز والتعابير التمثيلية لما يحيط بهم، من اختزال ظواهر الكون والطبيعة، وتقصير زمن الفهم بينهم، بعدما تمّ تفريغ المعاني والدلالات في هذه الرموز التي استغرقت وقتا لتصير لغة للتواصل. شكلّت بذلك هذه الرموز أولى شبكات التواصل البشري، ويمكن اعتبارها اللبنات البدائية التي مهدت لترصيص صرح الحضارة البشرية عليها.
ولعل هذه الاكتشافات البسيطة، على صعوبة استيعابها قياسا بالمتاح في أزماننا، لتعدّ «المحنة الأكثر دراماتيكية وشقاء في تاريخ الثقافة البشرية»[3]. ومن نواح عديدة ظلت اللغة البشرية على مدى التاريخ، بمثابة «الشفرة الوراثية، حيث تُخزّن المعلومات وتُنقل، مع بعض التعديلات، عبر الأجيال»[4]. وباللغة ظلت شبكة التواصل البشري تتوسع تدريجيا، وتدفع بالمجموعات البشرية إلى تداولها وتوارثها كآلية لحفظ الثقافة وأداة للتلاقح بين الجماعات، وتنقيح موروثها، فقد صار التواصل باللغة فعلا، وسيلة وغاية، وجسرا ممتدا «يحافظ على تماسك المجتمعات»[5].
مهما يكن من أمر اللغة، فقد أمضينا كمجموعات بشرية مترابطة، زمنا طويلا صرنا معه ألفاء لبعضنا، وقضينا فيه ما يلزم من الصبر لنستأنس بما جادت به علينا الطبيعة من عناصر إحيائية وغيرها، قبل أن تضطرنا الأحوال إلى تسخيرها لما فيه نفع لنا، لتبدأ ملحمة تدجين الطبيعة بنباتها ودوابها، وتطويع ترابها على هندسة عمراننا، حتى صارت لنا المدن والحضارة. وقد كان لنا بالكتابة لاحقا، موعد مع التاريخ، وسجلّ لحفظ المكتسبات والمعارف البشرية وتطويرها، وبالصناعة أخيرا، انفصال عن أحوال الطبيعة بحس الارتقاء، ومعها صرنا نتقبّل أنفسنا كنوع استثنائي، امتلك فعلا محرّكات الفاعلية، بعدما انبثق من مواقع المفعولية. غير أن تاريخنا، أو هذا الذي يشبهه، يبدوا وكأنه يحثّ الخطى نحو أفق لا ينتمي إلى هذه الأرض، نحو أفق افتراضي من نتاج ذواتنا، باكورة ما نضجت عليه عقولنا. فكيف أمكن لنا أن نترك السطح الأرضي بما حمل في درجة دنيا، لنأسس على هذا السطح الافتراضي الذي اتخذ له الأثير قاعدة لبناء الثروة؟
على باب اللأثير، دونت أصول المجد الأمريكي.
لعلنا نحيا على وقع انعطاف شديد يكاد يفصلنا عمّا ألفناه من التاريخ، لينقلنا إلى فضاء أرحب شيّد صروحه الافتراضية، تلاقح عقولنا المترامية على أرجاء المعمور من الأرض. إننا اليوم نوازن خطواتنا المتسارعة على منعطف ينقلنا باتجاه مفارقة المألوف من التاريخ، نحو المجهول منه، وكأننا نغادر طورا حضاريا باتجاه طور آخر، من نتاج العقل البشري المتشابك. نفارق الطبيعة، وقد نالها التعب، وأنهكها الاستغلال، بما لقيت من أثقالنا، ونلوذ نحو عالم افتراضي، شيّدناه بأنفسنا، يتخذ له الأثير مسرحا لعرض ملحمة البشر خارج السطح الأرضي المنهك، عسانا بذلك نخفّف العبء عن الأرض، ونحفظ لها حق الامتنان على ما جادت به علينا طيلة هذا التاريخ.
مهما مضينا في اتجاه رفع الأثقال عن الطبيعة، فالوصل لا بد ممتد معها، وإن صار الأثير ساحة للتواصل والتلاقح، ومشتلا لجني الثروة، وقاعدة للتعبير عن مستوى تقدم المجتمعات. فما تناله الشعوب من استثمار الفضاء الأثيري للتقدم نحو الأمام، لن يغيب الجغرافيا بمفهومها التاريخي والسياسي من التأثير على مصير الأمم، وإن كان أكيدا أن قواعد اللعب على هذا السطح قد تبدّلت فعلا، وأن تغيير العالم، والتدافع داخله، بات يتطلب تنويع الأساليب والتكتيكات الاستراتيجية مهما كانت التكلفة. فكيف صار الفضاء الأثيري حقل تجاذبات العصر الراهن؟ وساحة حرب تتدافع عليها العقول؟ ثم كيف تأتى للولايات المتحدة الأمريكية أن تكون سباقة إلى استثمار هذا المجال لبناء قواعد هيمنة لم يألفها التاريخ من قبل؟
لعل السؤال يفرض علينا البحث في البدايات، والبدء بالتاريخ أقرب إلى الصواب، ولما كانت الولايات المتحدة مبادرة ورائدة في بناء اقتصاد افتراضي استطاع أن يشكل سمة بارزة في نموذج الرفاه الأمريكي، فإن هذا الانعطاف التاريخي إنما يجد له دوافع وخلفيات في طبيعة المجتمع الأمريكي، ومسارات بناء الدولة الأمريكية.
من المعلوم أن هذا البلد، لم يكن ليستشعر في ذاته تلك اللحمة التي يسهم بها التاريخ في بناء المجتمعات، ولعل غياب هذا الشعور بالتاريخ، هو مما فصل الأمريكيين أكثر من غيرهم عن المألوف من التاريخ وعوائده، وعلى قدر الانفصال عن التاريخ، كان البحث حثيثا عن شرعية الوجود، خاصة وأن ما وثق الصلة بين الأفراد والجماعات في المجتمع الأمريكي، ظل هشا وضعيفا في ظل ذلك المزيج البشري المتعدد الأعراق والألوان، المنفصل عن جذوره الجغرافية والتاريخية تماما. إن ما ساهم في بناء النموذج الأمريكي المتقدم في تصوره الليبيرالي، والخارج عن المألوف تعامله مع الكون والطبيعة، هو ذاك التحرر شبه التام عن التاريخ كما الجغرافيا، فبقدر ما نفع الأمريكيين في بناء نموذجهم المتحرر، الانفصال عن الترابطات التاريخية، نفعهم ايضا الانفصال الجغرافي عن جغرافيا العالم القديم، كتحصيل حاصل، فكان لا بد أن يصير النموذج على غير المألوف، مفارق لما اعتدناه في بناء الحضارة.
وبالعودة إلى البدايات، استفادت الولايات المتحدة، من الاستقرار الذي حققته أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، بعدما انتهت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، عندما تأتى لها إنهاء الرق، وبناء حكومة وطنية قوية ومتماسكة _ ولو بالقوة _ فرضت توجهها الليبيرالي الرأسمالي على جغرافية ممتدة من الأطلنتي إلى المحيط الهادي، ليبرز على الساحة الكونية النموذج الأمريكي كنموذج متقدم لليبيرالية ألهم الكثيرين حول العالم. واستفادت أكثر من حجم النمو الاقتصادي الذي تلا الوحدة، والذي عززه تدفق المهاجرين الأوروبيين إليها، هذا وإن الجغرافيا جعلتها بمنأى عن الدمار الذي ألحقته الحربين الكونيتين الأولى والثانية بالعالم القديم، بل إنها، وإن شاركت فيهما فقد جاءت مشاركتها متأخرة بعدما استنزفت القوات المتحاربة قدراتها العسكرية، وبأقل الأضرار، إن لم تكن المستفيد الفعلي منهما، بعدما تحولت إلى الطرف الدائن للدول التي تضررت من الحرب،إذ لم تدخل الحربين الكونيتين السابقتين إلا متأخرة، بعدما استنزفت القوات المتحاربة قدراتها العسكرية.
لقد استطاعت الولايات المتحدة فعلا، وفي غفلة من الجميع، أن تبني لنفسها نموذجا، مهما نهل من أصول الحضارة الغربية في جانبها الليبيرالي، وامتد بها، فقد فارقها نحو امتداد حضاري أرحب. لقد تمكن الأمريكيون من أن يرتقوا بالصناعة نحو مدارج أسمى، حتى صارت الولايات المتحدة القوة الصناعية الأولى خلال الفترات التي تلت الحرب العالمية الأولى، وخلال هذه المرحلة بالذات اتجه الأمريكيون إلى استثمار قوتهم الاقتصادية، في وضع لبنات نموذج رفاه غير اعتيادي، قائم على تجويد نمط العيش، وتحسين ظروف الاستهلاك، وقد عزّز هذا الأمر مجموعة الاختراعات والابتكارات التقنية والعلمية التي لم تنقطع في المجتمع الأمريكي، والتي سرعت وتيرة الربط بين الأفراد، وكثفت قنوات الاتصال بينهم. ومنها التلغراف، الهاتف، الراديو والتلفاز... إلخ، التي فتحت بدورها الباب لظهور أساليب جديدة للتسويق، كما فتحت مداخل متنوعة لإنعاش الاقتصاد الرأسمالي، فكان أن صارت الخدمات من بين الأنشطة التي حظيت بالاهتمام، كوسيلة للإثراء والاغتناء، وركن من أركان الاقتصاد الأمريكي، وإن كان هذا القطاع قد انتعش أكثر، وصارت له الأولوية بعد الحرب العالمية الثانية. هذا ولا بد أن نسجل، أن الولايات المتحدة لم تكن لتصير أول بلد ما بعد صناعين لولا استثمارها الناجع في الأثير، واستغلالها المبهر لهذا الفضاء الافتراضي، كما نسجل عنها، أنها لم تكتفي بجعله فضاء لجني الثروات فحسب، بل صار حلبتها المفضلة لاستعراض القوة، وقناتها لتصريف نموذجها عن الطبيعة التي ينبغي أن تكون عليها الحياة، وآلية للتضمين والاحتواء. فكيف تأتى لها ذلك؟ وإلى أي حد ظلت اللاعب الأوحد فيه؟ هذا ما سنتطرق إليه في الجزء اللاحق.
المراجع
[1]Paul Ricœur, L'Idéologie et l’Utopie, Paris, Editions du Seuil, 1997, P. 71.
[2] اليزابيث كولبرت، "الانقراض السادس، تاريخ لا طبيعي"، ترجمة: أحمد عبد الله السماحي وفتح الله الشيخ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عام المعرفة، عدد 471، الكويت، 2019، ص 297.
[3]Louis Althusser, Étienne Balibar, Roger Establet, Pierre Macherey et Jacques Rancière, Lire Le Capital, Paris, Éditions La Découverte, troisième édition, 2014, P. 6.
[4]اليزابيث كولبرت، "الانقراض السادس، تاريخ لا طبيعي"، مرجع سابق، ص 297.
[5]نفسه، ص 297.