محمد الفاهم - باحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية
إنريكو دوسيل Enrique Dussel أحد أبرز الأسماء الثقافية في أمريكا اللاتينية من مواليد الأرجنتين 1934، أجبر بعد ذلك على الهجرة إلى المكسيك سنة 1975. ارتبطت أعماله بضرورة التفكير في تجاوز الإشكالات التي طرحتها ما بعد الحداثة، والتأكيد على أن دول الجنوب تملك خيارات أخرى، في إمكانية بناء حداثة مغايرة للحداثة الغربية، يطلق عليها الحداثة العابرة، أو ما بعد الغرب، كما يسمي أحيانا هذا التيار بما بعد الاستعمار. شملت أبحاث إنريكو دوسيل مجالات مختلفة مثل التاريخ واللاهوت، والسياسة والفلسفة وغيرها. له إصدارات عديدة بدأها منذ السبعينيات وما زالت تستمر إلى اليوم. من أشهر أعماله: " أخلاقيات التحرر " 2003 الذي ينتقد فيه الأخلاق الكانطية الصورية، مقترحا أخلاقا محايثة لدينامية الحياة الاجتماعية. أخلاق تعتني بمن هم على الهامش، المعدمون أو الضحايا، الذين حدثتنا عنهم ليفيناس وماركس. هناك أيضا كتاب:" ثقافات العولمة " 1998، والذي يقوم فيه بتحليل ونقد ظاهرة العولمة كما تتجلى حاليا. ثم كتاب:" اختراع الأمريكتين: كسوف الآخر وأسطورة الحداثة " 1995 حيث ينتقد فيه ظاهرة الحداثة، التي قامت على إلغاء الآخر، والعديد من الكتب الأخرى التي فاقت مائة كتاب، يحاول فيها انريكو دوسيل تطوير نظرية تعتني بأهمية الاختلاف الثقافي، وضرورة بناء نظرية للتحرر تنهل من الفكر الماركسي، موظفة إياه في سياقات جديدة، تتميز بسيطرة العولمة وبتغيرات جيوسياسية عميقة. ويمكن القول بأن السؤال الأساسي الذي يخترق أعماله هو: كيف يمكن بناء فلسفة عملية، تكون وظيفتها الأساسية المساهمة في تحرير وتحقيق العدالة لمن هم في حاجة لها ؟
سقوط المركزية الأوروبية
لقد قامت الحداثة منذ البدء على نفي الآخر واستبعاده، وهو ما تجلى بشكل واضح لا من الناحية النظرية الفلسفية، ولا من ناحية الوقائع التاريخية. من هنا يتجلى لنا الارتباط الضروري في فكر انريكو دوسيل بين مشروع: " أخلاقيات التحرر " والضحايا الذين وجودوا أنفسهم تحت سلطة الحداثة.
إن المنهجية التي يستعملها دوسيل، مستوحاة من تقاليد فلسفية رصينة، نجدها عند هيجل وكاركس ألا وهي الجدل. إلا أنه يقوم في الآن ذاته بمراجعة هذه المنهجية، مخلصا إياه من الانغلاق الأونطولوجي، مع انفتاحه على التحليل الموسع للظواهر وهو ما يسميه ب"Anadialectic". إن هذا معناه أنه من الضروري دمج التحليل في عملية الدياليكتيك، باعتبار أن هذا الأخير أهمل لحظة أساسية ألا وهي غيرية الآخر. بمعنى أن الجدل الهيجيلي لم يستطع بالفعل أن يفهم هذا الآخر في اختلافه وتميزه، بل عمل فقط على دمجه ومحو خصوصيته داخل سيرورة الجدل.
لقد بنت الحداثة الغربية نفسها بشكل خالص، مستبعدة وجود أي خارج، حيث ظل بالنسبة لها كيانا غير مرئي. لذلك فسقوط المركزية الأوروبية معناه زعزعة هذا الاستقرار الانطولوجي، والانتباه إلى وجود الآخر، القابع في الهامش والمضطهد. بل أكثر من هذا ضرورة التأكيد على تجاوز هذه الصدمة، وعدم الرثاء على ضياع هذه الهيمنة.
حداثة واحدة أم حداثات متعددة
هذا معناه أن هناك إمكانات عديدة، لقيام بدائل حضارية جديدة، تتجاوز النموذج التقليدي للحداثة الغربية. إن كل فلسفة وجب أن تكون فلسفة للتحرر من سلطة المركز، ومن الخضوع للشروط الاقتصادية والاجتماعية المجحفة، التي خلقتها الهيمنة الرأسمالية. بالنسبة لدوسيل واحدة من أهم مميزات أسطورة الحداثة إلغاء الآخر، ونسف إمكانية التغيير وطرح البدائل، وهذا بالضبط هو ما وجب على الفكر التحرري الوقوف في وجهه. إن نقد أسطورة الحداثة، يستلزم بالضرورة تحليل الوضع الذي يوجد عليه الأخر. وهكذا باستلهام فلسفة ليفيناص يصرح دوسيل أنه حان الوقت للنظر في أعين المظلومين.
إن الصفة المميزة لفلسفة التحرير هي انتقادها الشديد للتبعية، وتأكيدها على ضرورة تحليل الأوضاع الاقتصادية لأمريكا اللاتينية، من أجل كشف زيف التنمية وخداعها لهذه الشعوب. فوثيرة التقدم التنموي التي سار فيها الغرب، ليست ملزمة بحذافيرها لكل شعوب العالم. بمعنى أن كل أمة بإمكانها أن تخط لنفسها برنامج التنمية، الذي يتماشى مع خصوصية أوضاعها الاقتصادية والسياسية. فالتنمية ليس لها نفس الشكل، ونفس المراحل في كل بلدان العالم. خاصة وأن النموذج الغربي قد تبينت محدوديته، نظرا لكونه غير قابل للاستدامة، وبالتالي فإن محاولة تعميمه، تكون إما بدافع إيديولوجي يسعى إلى تأبيد التبعية، أو أنها محض يوتوبيا تتجاهل كون هذا الهدف، من المستحيل تحقيقه، لأنه لا يتلاءم لا مع محدودية الموارد الطبيعية، ولا مع الحاجيات البشرية التي لا يمكن اختزالها فقط في البعد الاستهلاكي.
العولمة الوجه الآخر للحداثة
طور انريكو دوسيل خلال أعماله نقدا شاملا للمركزية الأوروبية، وصلت إلى اعتباره للعولمة كتحقق أعلى للحداثة. لقد قادت فلسفة التحرر انريكو دوسيل إلى التأكيد على أهمية بناء عولمة مفتوحة ومتعددة، ذلك أن العولمة كما هي الآن، تعمل في واقع الأمر بشكل عرقي أحادي. هناك حاجة ملحة اليوم للتفكير بشكل عالمي، خاصة أمام هذه المشاكل التي باتت عابرة للحدود، مثل المشاكل الاقتصادية والبيئية والأمنية. هذا الوضع يقتضي بالضرورة البحث عن عالمية جديدة، تنفتح فيها الثقافات والحضارات في حوار حقيقي على بعضها البعض. يقول انريكو دوسيل:" كل ما قيل للتو هو مجرد مقدمة تاريخية فلسفية، لـموضوع الحوار بين الثقافات [...] لبناء ليس عالمية مجردة، ولكن"عالمية" متشابهة وملموسة، حيث كل الثقافات، وكل الفلسفات، ستكون جميع اللاهوتيات قادرة على المشاركة، من خلال مساهمتها الخاصة، في ثروة المستقبل، لإنسانية متعددة ". هناك واجب عالمي ملقى على عاتق الحضارة، وهو ضرورة إعادة إنتاج الحياة البشرية، لكن هذا للأسف هو ما تغفله العولمة. إن مثل هذا الالتزام الأخلاقي بضرورة حفظ حياة الآخرين، وعدم تدميرها يظل غائبا، فنظام العولمة لا يعمل إلا على توليد الضحايا.
لا يقصد دوسيل أنه من الممكن أن يوجد نظام يخلو من الضحايا. إن مثل هذا الطرح سيقودنا حتما للسقوط في الطوباوية السياسية والاقتصادية. بالنسبة للكاتب:" كل كائن بشري جديد، متناهي، تاريخي وقابل للدحض، فان " وبالتالي ليس هناك خير أسمى يمكن تحقيقه على الأرض. ولكن مع ذلك هذا لا يعني أنه علينا التقاعس عن تحقيق هذه " الخيرات التاريخية"، فالنضال من أجل تحقيق الحرية، هو ما يعمل على التحسن التدريجي للنظام.
لاهوت التحرير
يبدو من الوهلة الأولى كما لو أن دوسيل يقدم خلطة عجيبة ومتناقضة، تجمع بين مفكرين يهتمون بالاقتصاد السياسي من أمثال ماركس والتوسير وفرانز فانون. ومن جهة أخرى مفكرين آخرين يضعون مسألة اللاهوت في صلب اهتماماتهم مثل امانويل ليفيناص. غير أن هذا التناقض ليس إلا مسألة شكلية، ففلسفة التحرير تتساوق مع لاهوت التحرير. إن تقديم تصور جديد للدين المسيحي، من شأنه المساهمة في تحرير الفقراء، عن طريق اعتماد لاهوت يعتني بالتكفل الاجتماعي، بدل العناية بالمواضيع المسيحية الغيبية. من هنا نفهم الشعار الذي رفعه منظرو لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية:" الخيار التفضيلي للفقراء ". فالتحرر ليس فقط تحرر روحي من الخطيئة، بل هو تحرر من الاستغلال والتبعية. لقد وجد الدين من أجل نصرة المظلومين، لذلك لا ضير في اعتماد التحليلات الاقتصادية والسياسية للفلسفة الماركسية، كمنهجية من أجل تأسيس موقف نقدي ضد الرأسمالية. رغم أن المؤسسين الأوائل للاهوت التحرير ـ وهم قساوسة مثل غوستافو غوتيريز و ليوناردو بوف وهيلدر كامارا... ـ يرفضون الاعتراف بهذه المرجعية النظرية.
بالنسبة لإنريكو دوسيل فإن العلاقة بين ملكوت الله والفقراء، هي إحدى أهم الموضوعات التي يهتم بها اللاهوت المسيحي. في مقال له تحت عنوان :" مملكة الله والفقر " يؤكد الكاتب أن الرأسمالية انبنت على شعار واهم، وهو أنها ستؤسس مجتمعا بدون فقر، وهذا غير صحيح تماما لأن:" الرأسمالية تميل إلى الاعتقاد بأنها قد تلاشت مع الفقر في أوروبا والولايات المتحدة - لأن النظام ينتج فقيره بعيدًا عن المركز في الأطراف المتخلفة ". ويؤكد الكاتب كذلك أن النضال ضد الفقر، يوجد في صلب تاريخ المسيحية. سواء في مصر أو بابل أو روما أرادت المسيحية دائما، إلغاء كل طابع مقدس على الأنظمة الاستبدادية التي واجهتها، و الكاتب بكلامه هذا يريد أن يذكرنا أن النظام الرأسمالي ليس نظاما مقدسا.
هكذا وبالمجمل فإن إحياء الرسالة المسيحية، يقتضي بالضرورة فهم الأوضاع الاقتصادية والسياسية، التي يوجد عليها من هم في الهامش، وتحليل التبعية وكل أشكال الفقر وتمظهراته.
خلاصة
لقد تطورت فلسفة التحرير منذ السبعينيات والى اليوم. وإذا كانت آنذاك قد تأثرت بشكل واضح بالفكر الماركسي، فهي اليوم تطرح إشكالات أخرى تهم الظواهر التي خلقتها العولمة، إضافة إلى الأزمة الواضحة التي تعيش فيها الحداثة وحوار الحضارات والثقافات. مع ذلك يعاب على فلسفة التحرر في أمريكا اللاتينية، وبالخصوص كما تشكلت في فكر انريكو دوسيل، أنها تفتقد إلى الأصالة وأنها مجرد تقليد للفلسفة للغربية. والحال أن هذه الفلسفة وإن كانت قد استفادت مما راكمته الفلسفة الغربية، خصوصا تأثر دوسيل الواضح بامانويل ليفيناص وكارل اوتو آبل، إلا أنها استطاعت مع ذلك أن تلامس الإشكالات الخاصة بالسياق الجيوـ سياسي لأمريكا اللاتينية. لقد أثبتت هذه الفلسفة أن التفكير الفلسفي الأصيل والحقيقي، لا يمكن أن يصل إلى العالمية إلا إذا كان وفيا للتفكير في الخصوصية، واللحظة التاريخية التي توجد عليها الذات. إن تجاوز المركزية الأوروبية يدل في هذا السياق على اعتبار الفلسفة الغربية ـ التي تقدم نفسها دائما على أنها عالمية وتنطبق على كل الشعوب ـ حالة خاصة للتفلسف في كيان جغرافي بعينه هو أوروبا.
مع ذلك وككل فكر بشري، حيث يظل دائما مطروحا للسجال، لم تخل طروحات انريكو دوسيل من انتقادات، وجهت إليه من طرف العديد من الجهات. لقد نظر إلى فكره على أنه يظل حبيس الثنائيات الضدية عن الشرق في مقابل الغرب، وهي ثنائية قد تؤدي به إلى الانغلاق العرقي.