JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Accueil

جدلية "الأنا" و"الآخر الأوربي" في تاريخ المغرب الحديث

 


د. يونس البقالي -باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات


منذ بداية القرن التاسع عشر وأمام تزايد الضغوط الأجنبية عليه، بالعنف، عبر المواجهات العسكرية، أو بالدبلوماسية، عبر عقد الاتفاقيات والمضايقات السياسية، ظل المغرب يتخبط داخل أسئلة الهوية، وإثبات الذات، في خضم تنافس دولي محموم حول من يمتلك ثروات العالم، ويوجهها لصالحه.ولعل التفكير في الإشكالية المتعلقة ب"الأنا المغربية" في علاقتها ب"الآخر الأوربي"،قد ازدادت صعوبة وتعقيدا في المراحل التاريخية المتقدمة من القرن التاسع عشر، نتيجة احتكاكها القسري بمظاهر التحديث التي حملها الأوروبيون معهم أثناء لقائهم بالمغاربة.

هذا ولم تكن نظرة المغاربة إلى أوربا خلال القرن التاسع عشر نظرة مستجدة، فهي نظرة تجد لها تراكمات تاريخية تطوّرت عبر قرون،وأثّرت إلى حدّ بعيد في تحديد معالم العلاقة التي جمعت بين طرفي الثنائية "الأنا المغربية/الآخر الأوربي".

وبالخوض في الدلالة المفهومية والتاريخية لهذا الزوج النقيض، الذي تجمع بينه عناصر التنافر والتعارض بالقدر الذي تجمعه عناصر التجاذب والتلاقي، فإننا نقف على حدود العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الطرفين، وإمكانات التناقح بينهما. فما هي إذن الثوابت التي رسمت مفهوم الذات المغربية باعتبارها "الأنا" الذي يقف في مواجهة "الآخر" الأوربي ؟ وكيف عملت على الحفاظ على هذه الثوابت رغم التغيرات التاريخية الكبرى التي أثرت على العلاقة بين المغرب وأوربا خلال القرن التاسع عشر ؟

قبل الخوض في عناصر هذا المحور والأطراف التي تحكمت في تشكيل النظرة المغربية (ذات المرجعية الإسلامية) تجاه الآخر الأوربي، نشير بداية إلى أننا يمكننا أن نميز بين مرحلتين أساسيتين تحكمتا في تاريخ هذه النظرة تجاه أوربا:

@المرحلة الأولى : وهي الكلاسيكية، استندت فيها النظرة إلى الموقف التقليدي الإسلامي الذي يقسم العالم إلى دارين، دار الإسلام ودار الحرب. ولاشك فإن النظرة الإسلامية إلى أوربا، وخلال هذه المرحلة المديدة، قد تأثّرت بشكل خاص بالصراع مع بيزنطة التي هي أيضا ممثلة للمسيحية. لم يكن مفهوم أوربا قد تبلور، أمّا الإشارات القليلة التي ترد في كتب ومؤلفات الجغرافيين والمؤرخين، فإنها تتحدث عن شعوب مختلفة مسيحية أو كافرة.

@المرحلة الثانية : تتناسب مع بروز القوة الأوربية في حوض المتوسط، وتتناسب أيضا مع بروز الدولة العثمانية. وتتناسب كذلك وبشكل خاص، مع إحراز أوربا التقدم في ميدان التجربة والتقنيات العسكرية. في هذه المرحلة، أخذت نظرة جديدة تتشكل ببطء، وتفارق تدريجيا المفهوم الإسلامي المعروف.

مما لا شك فيه أن النظرة الأوربية إلى العالم الإسلامي والعربي سابقة على نظيرتها الإسلامية، في نظرتها إلى أوربا من حيث الدراسة والمنهج، حيث إن تطور النظرة الإسلامية للآخر الأوربي، لم تأخذ سوى القدر القليل من الاهتمام والمتابعة، بل لم تصبح موضع دراسة إلا منذ وقت قريب، من لدن بعض الباحثين والمؤرخين القلائل.أما النظرة الأوربية إلى العالم الإسلامي، فقد تعدّت مستوى التتبع والدراسة المعرفيين إلى مستوى تأسيس مجال معرفي خاص بها، له قواعده ومناهجه التي يتأسس عليها، ونعني بهذا الحقل المعرفي "الاستشراق".

هذا ويمكننا تلمس بدايات تشكل نظرة إسلامية متجددة إلى أوربا، في عدد من البلدان الإسلامية، مع نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، حيث بدأت تطفوا على الساحة الكونية معالم التجاوز الأوربي.

مما لا شك فيه أن الوعي الثقافي لكل شعب من الشعوب يتشبّعبمجموعة من الأحكام المعيارية، التي يُطلقها ويسجُن فيها ثقافة الشعب الذي يعتبره "آخرا" له، بمعنى أنه "غير" يختلف عنه في القيم والأذواق والاعتقاد والسلوك، ويمكن أن يتعداها إلى العادات، العرق، اللون... إلخ. هذه الأحكام هي بمثابة مقولات نمطية تَثْبُت في التاريخ مادام الاختلاف كائنا، فتتطور صياغتها عبر الأجيال، وتُمَرّر من جيل إلى آخر عن وعي أو بدونه.

وعملية التحديد التي يقوم بها "الأنا" لنفسه –فردا كان أو جماعة- لا يقتصر فيها على معطيات مرتبطة بزمن في حد ذاته، وإنما يسعى إلى توظيف معطيات الزمن إذ تتراكم، فيوظف فيها "عناصر كانت حاضرة في ماضيه أو يعتبرها كذلك، وأخرى يراها حاضرة في مستقبله أو يعتقد في إمكانية حضورها فيه".(أنظر: حمد عابد الجابري، "مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب"، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة الثقافة القومية 67، بيروت،الطبعة الأولى، 1995، ص 91)

والوعي بالذات لا يأتي في الغالب إلا عن طريق الاحتكاك "بالآخر"، ولعل المتفحص للصورة التي ترسمها الذات عن الآخر، "يتبين أن تلك الصورة مزيج غريب وغير متجانس من العواطف والأحكام: فقد تكون، في الوقت ذاته، تحمل مشاعر الاستبشاع والاستهجان والاستغراب من جهة وتطفح بمشاعر الاستحسان والتقدير والتعظيم من جهة أخرى".(سعيد بنسعيد العلوي، "أوربا في مرآة الرحلة: صورة للآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة"، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –سلسلة بحوث ودراسات 12،الرباط، الطبعة الأولى، 1995، ص 11-12) وهو ما عكسته إلى حدّ ما تقاييد الرحّالة العرب، المنضوية ضمن ما اصطلح عليه الأدباء "بأدب الرحلة"، وقد شكلت تقارير السفراء المغاربة إلى الديار الأوربية منذ منتصف القرن التاسع عشر جنسا حافظ بامتياز على هذا النمط من الصور عن الآخر وثقافته، حيث جاءت مشاعرهم وأحاسيسهم تجمع بين صور الاستغراب والاستهجان، الإعجاب والرفض.

إن الاقتصار على دراسة ثنائية "الأنا /الآخر" في إطارها الدّلالي والمفهومي، وإغفال الوقائع التاريخية التي أحاطت بالعلاقة بينهمافي صيرورتها ككل، لا يمكنه أن يساهم لوحده في توضيح الصورة التي شكّلت وعي كل طرف من الثنائية بالآخر.غير أنه من المتّفق عليه أن الثابت الذي ظل يتردد باستمرار في صيرورة العلاقة بينهما هو عنصر "التضاد". إذ هو "الحد المشترك في العلاقات بين الشرق والغرب منذ غدا الأخير، وحدة حضارية صريحة، بشكل متعثّر في عصر النهضة الكاروليني، ومنهجيا بعدها مع مجيء الصليبيين إلى المشرق وإسبانيا".(عزيز العظمة، "التراث بين السلطان والتاريخ"، عيون المقالات، البيضاء،الطبعة الأولى، 2003، ص 62)

من هنا غدت صورة الأوربي في مخيال المغربي المسلم بمثابة انعكاس لصورة الإسباني،بحكم الجوار الجغرافي والتقاطع التاريخي. فالأوربي خلال حقبة من التاريخ، شكل "في نظر المغربي[...]خائن للعهود والمواثيق، والدليل على ذلك ما فعله نصارى الأندلس بالمسلمين[...]رغم المواثيق التي وقعها الطرفان".(عبد السلام حيمر، "المغرب: الإسلام والحداثة"، منشورات الزمن،سلسلة شرفات15، الدار البيضاء، 2005 ص 135.)

فالصورة التي ترسمها الذات للآخر لا تأتي اعتباطا، بعيدا عن تراكمات سبقتها، أو خلفيات مهدت لها.إنها على العكس تماما مما قد يبدو أنه ناتج عن احتكاك آني بالآخر، أو تقييد لمشاهدات عنه في الحاضر، بل هي نتيجة وعي ومعرفة سابقين. ومما يُحدّد هذا الوعي توافر مرجعية محددة القواعد، واضحة الأركان، تشكل منظومة متكاملة، عن اجتماع عناصرها، يتشكل الوعي الثقافي الجمعي الذي من خلاله تعرّف الذات عن نفسها، وتحدّد نظرتها للكون والطبيعة، وتحدّد منظورها للآخر المخالف لها.

فالثقافة بما تتضمنه من قيم ومعتقدات وبما تنظمه من أذواق وأنماط سلوكية، وما تحدده للإنسان كسلوك مجتمعي من نظم وأعراف، هو ما يُحدّد وعي الإنسان الثقافي، ويضبط مكانته، وعلاقاته بالأشياء، ومنها علاقته بلآخر.

لقدظلّ المغربطيلة فترات ماقبل الحماية متمسّكا بتمثّله التقليدي لأوربا، باعتبارها ذلك الآخر المسيحي، جاهلا بما كان يجري فيها من تقلبات حرّرت الفكر الأوربي من سلطة الكنيسة ونقلته نحو فضاء أرحب ساهم في تشكيله، الحداثة.فالمغرب على العكس من المشرق الإسلامي ظلّ في منأى عن أية يقظة فكرية يمكنها أن تُحيّن نظرته لأوربا.

ومما زاد في تكريس هذه النظرة المحافظة عن أوربا كون المغرب أصبحفي عزلة تامة، في تلك الفترة عن الشرق والغرب". إذ رغم ارتباطه بدائرة "الأنا الإسلامية" التي ظلت تجمعه ببلدان المشرق الإسلامي، فإن آثار اليقظة الفكرية لم تكن لتصله، لكون حجاب العزلة "زاد كثافة بعد سقوط الجزائر في قبضة فرنسا سنة 1830م، ثم تونس 1881م، فأصبح المغرب في غيبة عما يجري في العالم من تطورات".(عبد الله كنون، "أحاديث عن الأدب المغربي الحديث"، دار الثقافة، الدار البيضاء،الطبعة الرابعة، 1984، ص 17.)

ظلّت رابطة الدّين كما يبدو، تتدخل على الدّوام لتحدد علاقة المغرب بالبلدان الإسلامية من جهة و أوربا من جهة ثانية. من هنا جاء انتماء المغرب و المشرق الإسلامي إلى نفس "دار الإسلام"، عكس أوربا التي كانت تدخل في اصطلاح المسلمين ضمن "دار الحرب". وانطلاقا من هذا بنى المسلمون علاقاتهم مع "الآخر"، وهي العلاقة التي لم تُبنى على معطيات اقتصادية أو سياسية، وإنما على طبيعة الروابط الدينية أساسا.

من هنا فإن تتبع مواقف النخبة المغربية في تعليقها على مظاهر التحديث التي بدأت تغزوا المجتمع المغربي أواخر القرن التاسع عشر، يجعلنا نقف على تحفّظ كبير تجاه الأوربيين بمنتجاتهم المادية والفكرية.وهو الأمر الذي عكسته إلى حدّ بعيدتقاييد السفراء المغاربة الذين زاروا أوربا أواسط القرن التاسع عشر- رغم ملامح الانبهار التي تضمنتها - إضافة إلى مواقف العلماء، الذين عكست فتاواهم، معارضة شديدة لكل ما يأتي من أوربا.

وهو ما انتبه إليه المفكر خالد زيادةلحظة مقارنته بين النظرة العثمانية لأروبا ونظيرتها المغربية،إذ يرى أن "النظرة إلى أوربا لا يمكن أن تتأسس فقط على المشاهدة العيانية بل هي في الأصل ناجمة عن مواقف الداخل".(خالد زيادة، مقال "تطور النظرة الإسلامية إلى أوربا"، مجلة الفكر العربي، عدد 31، السنة الخامسة، يناير /مارس 1983)

فقد لاحظ الرجل أنه بالنسبة للمغرب الأقصى، يمكن تسجيل مجموعة من النقاط التي أدت إلى اتخاذ موقف محافظ، أو غير مبال بما يجري في الدول الأوربية. منها أن العلاقات تميزت بين المغرب والدول الأوربية المجاورة بالعداء المتواصل، بسبب النزاعات العسكرية أولا، ثم حول مشاكل القرصنة في المتوسطخلال فترات ماضية. بالإضافة إلى أن الجوار مع إسبانيا، جعل جانبا من النظرة إلى أوربا يتميز بوضع خاص، إذ أن النهضة الأوربية –المسيحية الراهنة، تقوم على ازدهار إسلامي سابق، والحديث هنا عن الأندلس بطبيعة الحال.

ولعل تشبّث المغاربة بماضيهم المجيد في الأندلس، جعلهم لا يولون أهمية كبرى في دراساتهم التاريخية، ووعيهم الذاتي، للأزمات والنكبات، والركود التاريخي الذي ظلت "الأنا المغربية" تعاني منه لقرون. وهكذا جاءت الكتابة التاريخية المغربية التي تناولت "الآخر الأوربي" بالبحث والدراسة أحيانا، أو الإشارة أحيانا أخرى، كتابة تمجيدية للحضارة الإسلامية خلال العصور الوسطى، جاعلة إياها قاعدة النظر إلى الضفة الشمالية. فلم تكن بذلك لتُعير اهتماما للهوة الحضارية التي بدأت تكبر بين "الأنا" و"الآخر"،منذ عصر النهضة،حينما حملت أوربا مشعل "التقدم". وذلكقبل أن يصير التّفاوت واقعا تاريخيا، والتجاوز منطقا ومنطلقا في تعامل أوربا مع المغرب.

ولم يكن ليوقظ المغاربة من سباتهم العميق، ويغير نظرتهم إلى أوربا، سوى تلك الصّدمة القوية التي أحدثتها هزيمة الجيش المغربي بإيسلي 1844م،ثم تطوان 1859م.بالإضافة إلى الاختراق غير المسبوق لمظاهر التحديث الأوربية لشرائح المجتمع المغربي المختلفة.

وعليه، استبدلت بشكل تدريجي نظرة "الأنا المغربية" إلى "الآخر الأوربي"، الذي لم يعد ينظر إليه، بشكل تام، من زاوية نظر دينية، ويُعرَّف على أنه ذلك الآخر المسيحي المخالف في الدين، وإنما صار ينظر إليه على أنه آخر جديد وغريب،ومغاير تماما للصورة التي اعتادت الذات المسلمة تمثُّلها عنه. ولعل أكثر ما شدّها إليه مظاهر قوته التقنية و العسكرية، وعليه بدأ الوعي بالقوة التي أحدثتها الحداثة في أوربا، وفتح الباب لانطلاق دعوات نفي التنافر عن طرفي ثنائية "الأنا المغربية/الآخر الأوربي"، وبالتالي الانفتاح على تلقي أسباب قوة الآخر.

جدلية "الأنا" و"الآخر الأوربي" في تاريخ المغرب الحديث

نورالدين البكراوي

Commentaires
    NomE-mailMessage