عبد الرحيم التدلاوي -ناقد وكاتب مغربي
تقديم
"كلمات شتى[1]"مجموعة قصصية للكاتب المغربي محمد لغويبي، هي عشر كلمات لعشر قصص، وتأتي المجموعة بالغة التقتير وتقع في 61 صفحة من الحجم المتوسط، أشبه بكتاب الجيب لكن قصصها مختارة بدقة لتطرح رهاناتها الفنية و الأدبية، الجمالية والفكرية بكثير من الحرص الإبداعي الذي يدخلك عوالمها و أنساقها و طرائقها لتتحول الدهشة إلى اكتشاف وإنتاج ينتهي بعلامات استفهام تجعل القصة المغربية تسعد بحمل الحقل الاشكالي الذي يفرزه مجتمع تليق به القصة القصيرة وتليق به "كلمات شتى"
1-المنطق القصصي في "كلمات شتى"
تكتب المجموعة نصوصها وفق منطقها الخاص، لا بمنطق التاريخ الذي يولد الوجع ويقتل روح الإنسان، ويشوه الحقائق، ويدمر ما بناه من خيال، فالنصوص تسير وفق هواها الخاص، تنسج خيوطها بمنطق اللعب الذكي والباني، مما يولد الدهشة ويمنح المتعة، ويولد السؤال. تبتعد إذن النصوص عن صرامة التاريخ ودكتاتورية الواقع فتعيد بناءهما وفق ترتيب جديد ومحكم، يسمح بالفهم، ويعمق المعرفة بهما. إن النصوص بمثابة ممحاة، تمحو السابق و تبني عليه، فيصنع الفعل طرسا شفافا، نرى من خلالها عناصره الأولية، لكننا لا نسهو عن مواده الجديدة والمرتبطة أساسا بالتخييل، إنها إعادة كتابة تنبني في جزء منها على منطق الدهشة والاحتمال والمصادفة، واللامتوقع.
إن عناوين النصوص جاءت جميعها مفردا نكرة، بخلاف التقديم الذي اعتمد كلمتين معرفتين، هذا التنكيرالذي يذهب باتجاه التعميم، فالحالات المعروضة غير خاصة، بل تنطبق على العام. ومن الملاحظ أن تلك العناوين يمكن تصنيفها إلى: الخاص بالإنسان، والخاص بالطبيعة فمثلا: معرفة وفراسة تخصان الإنسان، و تنبنيان على التجربة والملاحظة، علما أن المعرفة عقلية أما الحدس فهو نفسي.في حين نجد عاصفة وغمامة ذات بعد طبيعي فهما يرتبطان بها ارتباطا كبيرا لكنهما يؤثران في مزاج الإنسان و نفسيته، أما خيط و كونطوار و نافذة فيمكن إدراجها ضمن المصنع المرتبط بحياة الإنسان و باستعمالاته لها، بخلاف طعنة فترتبط بحقل القتل والغدر.
و المتتبع للنصوص يجد أنها لا تقول الواقعي إلا تلميحا، مع حضور بعض الإشارات المرتبطة به وبخاصة السياسية، كعيد العمال.
ومن هنا يتأتى بعد الجمال في النصوص لكونها تتكىء على الخيال لبناء منطقها الخاص، ففي نص "رائحة "نجد الاعتماد على منطق الرواية البوليسية باعتمادها سؤال: من؟ وإذ تتقاطع معها في هذه النقطة، إلا أنها تختلف عنها بسؤال: ماذا؟ فإذا كانت الرواية البوليسية تبحث عن الفاعل غير عابئة في كثير من الأحيان بالأسباب المؤدية لارتكاب الجريمة إلا إذا كانت ذات إضاءة، فإن القصة جاءت هنا لتسلط الضوء على سؤال السبب.
و بناء عليه، نجد القصة قد اعتمدت البنية الحجاجية، كما الرواية البوليسية، فرجل المباحث يجمع كافة الأدلة المدينة للجاني، و يقوم بتهديم حجج الفاعل و يؤسس عليها حججه الصارم و المقنعة، والتي تقود إلى إدانته، ومن ثم، إلى محاكمته، محققة بذلك العدل المطلوب و المعتمد، من أجل بناء المجتمع الآمن. هكذا نجد السارد في النص يدلي بمجموعة من الفرضيات، تنهدم لتقوم أخرى كلما سرنا متوغلين في أحداث النص.
و للعنوان في النص دور مهم، فهو غير منعزل عن بنية الرواية البوليسية، فالرائحة لغة الحواس، وبالأخص الشم، وهي الحاسة التي يعتمد عليها كلب رجل المباحث لمعرفة الجاني، ونعثر في النص على ما يرتبط بهذه الحاسة، و أخص بالذكر:العطر.
2-اللايقين في قصص "كلمات شتى"
و هو ما نجده في نص"معرفة"، فنحن أمام شخصية شاعر له خيال مجنح، فقد تكون تلك الفتاة التي طرقت بابه من وحي خياله، صنعها لإشباع فضوله وقتل وحدته. و كما في قصة "كونطوار "هذا العنوان الدال على الحاجز المانع للاتصال، لذا يمكن اعتباره شخصية فاعلة، تقوم بفعل المعاكسة، إنه حاجز شفاف ولا مرئي، يسمح بالمشاهدة و في الوقت نفسه يمنعها، يسمح بمرور ما يريد، ويمنع ما يريد، وبالتالي فهو حاجز مخاتل، يضمر رغبة في ملاعبة خيال الشخصية الرائية، ومن خلالها المتلقي المنغمس في أحداث النص، والمتابع لها بأنفاس البطل الشغوف بتلك الحسناء، يتابعها وفي قلبه شيء من حتى، يذهب إلى النهر ويعود عطشان، فهو ينظر إليها يتقرى تفاصيلها، لكنه لا يبلغها.
نحن إذن أمام نصوص متخلقة من رحم الرغبات، تحقق الاتصال بين الرجل والمراة، وتقطعه في الآن ذاته. فهناك شخصيتان، الرجل و المرأة، والعلاقة بينهما،مرة و متوترة، فقد تكون بفعل العبث المفضي إلى القتل أو تكون ضحية توهمات، وقد تكون العلاقة طيبة تنتشي بها الذات المتعطشة إلى الحب.
إذا كانت قصة "رائحة "قد اعتمدت على حدث بسيط يشكل مدماكها، حدث يقع كل يوم، ألا و هو قتل رجل بسيط لامرأة، إلا أن السارد أسس عليه معماره الفني باعتماد التخييل .
إننا أمام سارد محتال مخاتل، يدعو إلى متابعة الجريمة و تسلسل الأحداث، مع زرع بذور الشك، كما أن الخاتمة هي الأخرى قد ألبسها السارد رداء الشك، إذ أن العنف هو الذي انتزع من الحارس اعترافه، وبالتالي يمكن أن يكون هذا الاعتراف مشكوكا فيه، فالقمع و العنف وسائل تعتمدها سلطات القمع لبلوغ نتائج تريدها مبعدة الأنظار عن الفاعل الحقيقي، بحصر البحث في جاني بسيط تحمله كل المسؤوليات، وبذلك تقفل الملف، وترضي الأطراف المعنية، خاصة وإن الضحية ذات ملامح أوروبية، وينبغي، والحالة هذه، طي الموضوع بأقل الخسائر.
أما قصة "معرفة" فتبني منطقها الخاص المنفلت من قبضة واقعنا وصرامته، إذ تعتمد على شخصيتين، تعمل يد السرد على الجمع بينهما لتنبت في النفس فرحة تتوج برقصة بديعة تكون ضربة تولد المتعة السردية، فهي تنتهي بالانصهار بين شاعرمتعطش للحب و فتاة قادمة من زمان سحيق كقصيدة شعر منفلتة من قيد الواقع، بديعة التي جعلت النفس، بعد طول معاناة، تتهيأ لملاقاتها:" وكانت شفتاه تحكيان القصة الأخيرة " لقد عثرت الذات الشاعرة والتي عاشت الخيبات، على الموضوع المشتهى، والنصف الآخر، فهل تتحقق القصص؟ يجيب منطوق التقديم الذي تصدر المجموعة: "تصلح الحكاية ما أفسده التاريخ بيننا، وتسير بنا إلى الجوهر فينا "
على سبيل الختم:
إن هذه المجموعة القصصية هي عمل لا يركن إلى المهادنة والسكونية والرضا، بل تدفع القارىء إلى الفعل النقدي الباحث عن أجوبة تترك له الإرادة والحرية. إننا أمام قصص مجموعة تدخل المتلقي عالم اللايقين، وبناء عليه، تنفي كل قراءة سكونية، مستسلمة ومطمئنة.
[1] كلمات شتى "مجموعة قصصية/المطبعة السريعة /القنيطرة 2016.ط1/محمد لغويبي