JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Accueil

الخريطة السياسية والنظام الدولي المستجد

 




د. يونس البقالي -باحث في تاريخ الأفكار والمؤسسات

من مسلّمات التاريخ السياسي للأمم أن تكون الحرب الحل الأخير لإعادة ترسيم الحدود، ودوما ما كانت رؤية المنتصر للخريطة السياسية حاسمة في التقطيعات الترابية المستجدة. غير أن مفهوم الانتصار في الزمن الراهن، بدوره طاله الالتباس. لم تعد الحرب آلية المواجهة الوحيدة والمتاحة دوما لتقديم المنتصر، فقد فتحت الدبلوماسية والاقتصاد والمال، الباب لإظهار القوة الكامنة في الأمة دونما حاجة لمباشرة القتال، كما عزّزت الآلة الإعلامية، وأرقام الإنفاق العسكري، وحجم الترناسة والجيش، هذه القوة كشكل من أشكال استعراض القدرة على التدمير، دونما تفعيل لهذه القوة. هذا ولم يعد الامتداد الترابي، غاية في حدّ ذاته، ما دام المنتصر قد استعاض بالاحتواء، آلية للهيمنة بدل التضمين، فالغاية فتح قنوات لتدفق السلع والخدمات والأموال، وضمان استدامتها، إضافة إلى تنميط الأسواق على نموذج المنتصر. كما لم يكتفي مفهوم "القوة" بمدلوله العسكري، حيث لاحت في أفق الدراسات الجيوبوليتيكية مفاهيم متولدة عن الواقع الذي صارت تنتظم فيه العلاقات الدولية، ومنه، الحديث عن القوة الناعمة أو المرنة، عوض القوة القاهرة أو الصلبة، للتدليل على رجحان كفة أمة على الأمم الأخرى، وهو المفهوم الذي يقترن ذكره بجوزيف ناي في التسعينيات، ومع ذلك تعود جذور معناه بصورة غير مباشرة إلى كتابات أساتذة المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية في الحرب الباردة. فالقوة الصلبة يتم اللجوء إليها للإرغام أو العقاب على القيام بفعل بما يرضي الطرف الآخر أو العدول عنه. في حين أن القوة الناعمة تغري وتقنع وتحث على الاستجابة والتوافق مع أجندة صاحب القوة الناعمة. ودرس ناي معطيات البيئة الدولية بعد الحرب الباردة وحلل عناصرها مثل الأيديولوجية والثقافة والمعلومات والمؤسسات والتقنية والتعليم والقيم السياسية والسياسة الخارجية وأنماط الدبلوماسية وعدها من مصادر القوة الناعمة إلى جانب مصادر القوة التقليدية مثل الموقع الجغرافي والمساحة والسكان والقدرات الاقتصادية والعسكرية.

يبدو أن ما سيتحكم في وضع معالم الخريطة والنظام العالميين مستقبلا، هو الاقتصاد أساسا، مرفقا بنموذج رفاه مُغري، وتركيز مثالي للسيادة، وفعالية التدخل خارج الحدود في اتجاه حلّ المشكلات الإقليمية، والقدرة على الموازنة. عبر هذه المداخل ستتحدّد معالم الخريطة والنظام الجديدين، وهو ما سيسمح بظهور فاعلين جدد من الدول المتينة، الذين راكموا ما يكفي من الأهلية التقنية والكفاءة الاقتصادية، والعراقة الحضارية التي تأهلهم للعب أدوار طلائعية في محيطهم الإقليمي على الأقل، وتسمح لهم بمد جسور التشابك والترابط خارج المركب الإقليمي الذي يتمركزون فيه، بما يضمن للجغرافية العالمية الحفاظ على تناغمها، وللاقتصاد تماسكه.

ولعل العالم، بما هو متاح فيه من المتغيرات الجيوسياسية، يتجه لأن يصير أكثر تعقيدا، ومنقلبا في توجهاته الإقليمية، تسوده مركّبات إقليمية على قدر متانة الروابط الاقتصادية والسياسية فيها، وعلى درجة الانسجام والتكامل بين كياناتها الإقليمية، يتحقق استقرارها، ويستديم رفاهها وأمنها. في حين أن الجغرافيات الهامشية الهشة، والدول ضعيفة السيادة، ربما ينتهي بها المطاف إلى الانحلال في أفق دمجها داخل هذه المركبات الجغرافية الإقليمية، أو احتوائها ودفعها إلى تبعية سلبية لا تدمجها في المنظومة ككل، وقد تتجه كل قوة إقليمية إلى تفعيل عناصر التفكك الكامنة في هذه الكيانات الجغرافية الهشة المجاورة لها، أو ربما تحفز في داخلها عناصر الهشاشة. على العكس من النظامين السابقين، الأحادي والثنائي القطبية، فإن نظاما عديم القطبية قد يتسم بتناثر المراكز ذات القوة الواضحة في محيطها الجغرافي، لكنه سيتجه ضرورة لأن «يكون تعاونيا، بل يحتمل حتى التناغم بين القوى، حيث يعمل عدد قليل من القوى الرئيسية وفق قواعد مستقرة»( أنظر: ريتشارد ن. هاس، "ما بعد الهيمنة الأمريكية"، العنوان الأصلي للمقال: "the age of nonpolarity"، المنشور في مجلة "ForeignAffairs"، عدد: ماي-يونيو 2008، ترجمة، حمدي أبو كيلة، الثقافة العالمية، عدد: 159، مارس-أبريل 2010، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2010، ص 25)، ينضبط لها الجميع، وعلى حدة التنافس المحتمل بينها، فإن تلك القواعد هي ما سيكبح أي ميل للصراع.

ستتشكّل الجغرافية العالمية من جديد، على ملامح زمن الإمبراطوريات، أكثر مما ستتبلور الخريطة السياسية على أهواء الشعور القومي والوطني، وإن فارق ذلك تمثلنا الكلاسيكي للتاريخ، وعاكس فهمنا الرجعي عن الامبراطوريات. ولا تعني هذه السيادة الممتدة للقوى الإقليمية، انتفاء الحديث عن مراكز الإشعاع المالي والاقتصادي المستقلة مثلما هو الأمر عليه في سنغافورة، هونغ كونج، دبي وغيرها، بل قد تكون خيارا استراتيجيا للربط الجيواقتصادي، وحواضر لتمثيل المستقبل.

من البديهي، أن مفهوم الدولة، ومنطق التصرف الذي تمّ تبنيه لأزمنة خلت، سيطاله التغيير، لهذا سيكون من الرشد، ترجيح كفة المصالح المتبادلة بما يدعم الرفاه في الداخل، فداخل كل دولة هو ما سيقوي تماسكها، كما قد ينخر كيانها. ولن يتعقلن فعل الدولة ككيان سيادي، إلا بتبنّي توجّهات تتأسّس على معطيات رقمية تطابق فعلا واقع الحال، فعمليات رياضية مباشرة كفيلة بتوضيح الرؤى، وترسيم المسالك المختصرة لأي توجه اقتصادي وإقليمي منشود، والجغرافية بأبعادها جزء من هذه المعطيات.

من المؤكد أن المنعطفات التاريخية فرصة للتموقع من جديد داخل الجغرافية الاقتصادية والسياسية العالمية، ومن لا يضبط إحكامه على الموجّهات الكفيلة بتجاوز المنعطف، ينتهي به المطاف خارج الطريق الذي يقود للمستقبل. فعلى غرار تجربة الاتحاد الأوروبي ستتعدّد التجارب اللاحقة، وإن لم تخضع لصيرورة التكتّل، ورهانات الاندماج نفسها في القارة العجوز. قد يبدو للوهلة الأولى عالم ما بعد كوفيد 19، عالما تائها ومفككا، غير أن نوازع الخروج من المأزق، وإرادة الالتحام، ستبعث لا محالة، كمرحلة أولى، أهواء الاطمئنان إلى بناء تكتلات إقليمية، ووصل روابط اقتصادية مع جغرافيات بحد ذاتها، ملاذا آمنا إلى حين. وما السبيل إلى ذلك، إلا من ثقل سياسات حمائية تلوح في الأفق، تدفع باتجاه الانطواء وتوتر العلاقات الدولية، ومن جراء فقدان الثقة في نظام تقسيم عمل دولي، لم يسهم إلا في تكريس تراتبية معولمة على مقاس القوى الليبيرالية الكلاسيكية.

لا شك أن النظرة الواقعية للأمور، تُغلّب منطق التشاؤم في مواجهة طموحات المتفائلين بعالم مشرق تسوده القيم الليبيرالية. فالواقع المتاح بفعل الجائحة الحالية، يرسم صورة سوداوية لعالم تبدو الفوضى أحد ملامحه، فلا سبيل لتمهيد الجغرافية العالمية لتقبل نظام دولي مبني على التعاون والتكامل من داخل منظومة السوق الحرة، والقيم الليبيرالية لسمفونية ظلت الولايات المتحدة ضابط إيقاعها. ففي ظل تعدد القوى الصاعدة، والعودة المتدرجة لروسيا، وما يرافق ذلك من تنامٍ لطموحاتها وتطلعاتها السياسية والاقتصادية، يصعب تشكيل النظام العالمي المستقبلي على شاكلة ما كان متاحا قبل الأزمات التي ستخلفها جائحة كوفيد 19، خاصة وأن القوى الليبيرالية الكلاسيكية غير مستعدة للتخلي عن مكاسبها التاريخية. ويتفاقم الوضع أكثر، إذا استحضرنا فكرة أن لا أحد مستعد لتحملّ أعباء السهر على توازن المنظومة الكونية، وقيادة عالم من القوى الطموحة، التي ما فتأت تعبر عن ذلك فعليا، عبر تنمية قدراتها التنافسية اقتصاديا، ورفع حصة الثروة الموجهة للبحث العلمي والإنفاق العسكري.

الأحرى في ظل ما هو متاح حاليا، تقبّل الواقع، والمضي قدما بالبناء على لبناته المستجدة. ويبقى الدور هنا، منوطا بالولايات المتحدة، التي قد تدفعها الحتمية التاريخية إلى توجيه الأنظار للداخل الأمريكي، والالتفاف نحو نبض النقاش الدائر داخل جغرافيتها الشاسعة، المتنوعة طبيعيا وبشريا، عساها تعيد بناء صورتها الحضارية بما يستجيب لتطلعات الأمريكيين قبل غيرهم، ولعلّها تقبل بواقعية التاريخ إذ يفرض لازمته أن لكل شيء إذا ما تمّ نقصان. وليس هذا القول، بمعنى يسلب الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها التاريخية، وإنما هو واقع مستجد، ظهرت إرهاصاته قبل الجائحة، يحيل إلى تولد الرغبة لدى مجموعة من القوى الصاعدة للعب أدوار تتناسب وحجم قوتها ودورها الإقليميين،( أنظر على سبيل المثال: GÉRARD CHALIAND, Vers un nouvel ordre du monde, Paris, Éditions du Seuil, 2013, P. 111 jusqu’ à 140.)وما كبح إشعاعها من طرف الولايات المتحدة في ظل النظام الدولي الراهن، إلا تدخل وقائي، نجم عن آثاره تنامي العداء لهذا البلد، وتزايد عدد الدول المارقة، كما فاقم من حدة التوترات الإقليمية التي أساءت للنظام الدولي الجديد، وهدّدت السلم العالمي ومنظومة التعاون المعولمة في تماسكها.

لا غَرو في القول أن الولايات المتحدة الأمريكية، لازالت القوة العظمى الأولى، ففيها تجتمع مظاهر القوتين الناعمة والصلبة معا، فعلى قدر ما يبدو نموذج الرفاه الأمريكي مغريا، يبدو البلد قادر على التدخل العسكري في أي موقع على هذه الأرض. ففي وسع هذه الدولة، «ذات المعين الكبير منمقومات القوة الصلبة والناعمة أن تبلغ أهدافها، بجعل الآخرين راغبين ومنجذبين لاتباعها وتغيير سلوكهم في قضايا ومواقف معينة، وليس بأمرهم وقهرهم على فعل ما تريد أو ردعهم عن فعل ما يريدون فعله ولا ترغب هي فيه»( أنظر: كاظم هاشم نعمة، "القوة الناعمة الصينية والعرب"، مجلة سياسات عربية، عدد 26، أيار-مايو 2017، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ص 28).ومع ذلك، خارج أي استخدام للقوة الصلبة، فإن تصدير نماذج جاهزة ونمطية من الثقافة والأيديولوجيا، أحيانا ما يولّد شعورا بالنفور قد يتطور إلى العداء، إذ يستمر التعامل معها على أنها آلية استعمارية غير مباشرة، «ففي العالم الاسلامي تنتشر معالم الهوية الأمريكية في الكوكاكولا وماكدونالد والجينز والموسيقى، لكنها لم يتولد عنها محبو وود وصدقية للسياسة الأمريكية»(المرجع السابق نفسه، ص 28) هذا، وإن التقدم الأمريكي خلال العقدين الأخيرين، صار بهامش تفوق أضيق كثيرا مقارنة بما كان عليه خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، خاصة وأنها، ومنذ تفكك الاتحاد السوفياتي، في اللحظة التي وجدت نفسها وحيدة في مركز القيادة، لم تعمل على توظيف هذه القوة في اتجاه إنشاء نظام دولي يروم تعميم النفع على الجميع.

مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وما تلا ذلك من انهيار للمعسكر الشرقين وجدت الولايات المتحدة نفسها في ساحة يغيب عنها الخصم، ولحظة مواتية لقيادة العالم نحو مصيره التاريخي. غير أن هذا الواقع بقدر ما غذا في الأمريكيين الشعور بالفخر، فإنه حرك فيهم مشاعر الرهبة والحذر، وأحيانا التردد، فهم مقبلين على عالم لا يجدون فيه عدوا أيديولوجيا مباشرا يمنحهم شرعية القيادة، كما أنهم صاروا في مواجهة عالم لم تكن لتتوضح معالمه بعد، ولن يرغبوا في الانسحاب منه في ظل وجود فرصة تاريخية تجعل من الولايات المتحدة، القائد الأوحد للعالم. أمر كهذا، انتبه له ثعلب السياسات الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر عندما أكد على ضرورة «العودة إلى المبادئ الكلاسيكية للسياسة الخارجية الأمريكية واستحضار عدو إيديولوجي»( أنظر: كيسنجر هنري، نحو نظام عالمي جديد، ترجمة أحمد محمود، مجلة الثقافة العالمية، الجزء 2، العدد 17، السنة 13، يوليو 1996 ، ص 12.)غير أن ما انتبه له أيضا هو الوضع الدولي الجديد الذي لم يعد يسمح باستخدام القوة بتلك الكثافة التي كانت عليها في السابق، في ظل التقلبات التي كان يشهدها العالم، لأن «القضايا التي يمكن حلها بالعمل العسكري آخذة في التناقص ، كما أن نوع القوة التي تملكها الولايات المتحدة آخذة في التلاشي يوما بعد يوم من حيث ملائمتها للازمات الدولية التي يمكن توقع حدوثها»( المرجع السابق نفسه، ص 12)،هذا ويستوعب الكثيرون كيف أن الأمريكيين يميلون إلى التصرف بمنطق سكان جزيرة مكتفية بذاتها، تُوجّههم السياسة الداخلية في اختيار من يمثلهم، خاصة وأن المبادئ الليبيرالية المتقدمة التي من خلالها يتصرف الأمريكي تجعله ينآى عن التورط في قضايا خارجية يعرف مسبقا حجم أعبائها المادية، وتبعاتها التاريخية التي قد تنزل البلد في موقع المتناقض مع الروح الليبيرالية التي تأسس عليها التاريخ الأمريكي. ويزداد الانشغال بالداخل لدى الأمريكيين بالنظر إلى حجم التناقضات والمشاكل الداخلية المتراكمة، وباستحضار صعوبات التدخل العسكري في جغرافيات بعيدة صار فيها ميزان القوة لا يخضع بالضرورة لمعيار التفوق العسكري.

فهل صار من الأسلم والأصلح للنظام الدولي المستجد تخفيف الثقل الأمريكي عن جغرافية العالم القديم، والاتجاه إلى بناء ترابطات إقليمية أكثر انسجاما وتناسقا مع الجغرافيا والثوابت الحضارية؟

هذا ما سنحاول التطرق إليه في الجزء الثاني المخصص لهذا المقال، فترقبونا في الأيام القليلة القادمة على موقعكم باب المغاربة.
الخريطة السياسية والنظام الدولي المستجد

نورالدين البكراوي

Commentaires
    NomE-mailMessage