ذ. يوسف إيشو
"نحن آلة كبيرة لإنتاج الأوبئة الحضارية.
قد ننتصر على داعش لكننا لن نكف عن تفريخ الدواعش." رواية القاتل الأشقر.
تحكي رواية القاتل الأشقر، للكاتب المغربي طارق بكاري، عن بوح جمع بين القاتل الأشقر ووليد معروف، بوح حياة مفعمة بالحب والشهوة، بالألم والمعاناة، بالتيه والترحال وإدمان القتل من أجل القتل... اعتراف سعى من خلاله الأشقر إلى استعادة حياته، وتطهير ذاته، من لعنة القدر الذي هوى به في غياهب التيه والتطرف؛ بحثا عن الخلاص، الذي لم يجده إلا في الحكي وسرد مسار حياته، في إطار فضاء مغلق تمثل في بيت خراب آيل للسقوط، مؤثث بزغاريد الموت والرصاص، هناك حكى الأشقر حكايته، وبث في آذان خليله شكايته الموغلة في الألم والتشرد والجنون، بلغة رفيعة، وحبكة بديعة في تسلسل الأحداث التي وحدتها تيمة الخراب، خراب العمران والذات الإنسانية، خراب يؤذن بقيامة وفاجعة حضارية كونية، ما لم نقم بمراجعات نقدية لتراثنا، وثقافتنا، وكذا علاقتنا بالآخر، لأن ذلك هو الكفيل بنهضة حاضرنا، واستشراف مستقبلنا، بأفق إنساني، بعيدا عن تبادل التهم، والتهرب من مسؤوليتنا الحضارية والتاريخية. فلننظر الآن ما قول الأدب خاصة الرواية في معضلة التطرف والإرهاب؟ وكيف حاول الأديب طارق بكاري، أن يُحمِّل الرواية بعضا من مأساتنا الحضارية والوجودية المتمثلة في التطرف الذي أنهك كياننا؟
لعنة ولادة الأشقر وصراعه من أجل البقاء:
القاتل الأشقر ابن عاهرة، مات قبل ولادته، فكيف له بالحياة داخل وسط موبوء؟ كيف له أن يكفر عن ذنب لم يرتكبه؟ هكذا شاء له القدر أن يولد، فكانت بدايته مع الحياة بمثابة خطيئة كبرى، ورث من خلالها لعنة أمه، التي كانت حياتها تيه بين الجبال والرجال، لعنة الولادة وإثم البداية، ذلك ما يدين به القاتل الأشقر لأمه حياة، التي سلمته للمعاناة والكفاح من أجل نيل خلاصه وإنقاذ مصيره، داخل مقبرة الأحلام التي ولد فيها، فليس أمامه إلا الاستسلام لوضعه "كابن عاهرة"، أو التمرد بحثا عن الخلاص من عار أمه، فلاذ بنفسه منذ البداية إلى الحب وطلب المعرفة، فتعلق في شبابه بـ "شامة"، وحب المطالعة التي شذبت طبعه، وأهلته للحياة من جديد، بالقراءة والحب استعاض في بدايته عن شرف الدم والنسل النقي، رغم إدراكه لصعوبة الأمر، لأن الشرف يبقى شرف الدم على هذه الأرض، ومن المحال أن يظفر به سليل بيت عاهرة، أعدت للجنس والمتع والأحلام العابرة، أدركت أننا هنا كشجرة الزيزفون تزهر، لكنها حتما لا تثمر، أدركت أن القلوب في هذا البيت لا تحتاج إلى الكلام العذب، بل إلى من يستمع إلى حزنها وألمها، كما أن الأجساد هنا عارية من الحب، لأن القدر أعدها للجنس الرخيص وتفريخ العاهات مثلي؛ فكيف لي أن أتحمل كل هذه الصدمات؟ كم تمنيت لو يمنحني جسدي السلام بموت مفاجئ أو انطفاء مؤقت؟ فكلما تقدمت في دروب الحياة، اكتشفت هولها، وازدادت نقمتي عليها لأنها لم تمعن إلا في تعذيبي حتى أفقدتني إنسانيتي. وصرت صوتا بلا هوية، جسدا بلا ملامح، فقدت إيماني بالحياة، بالعائلة، بالأخلاق والقيم، كفرت بالسماء والأرض، هكذا صرت بجروح غائر في الذاكرة والروح فسلمت نفسي للتطرف وإدمان القتل، باعتباره رسالتي في هذه الحياة، التي وقعت رباط الانتماء إليها بالدم والاندفاع في المعارك العبثية باسم السماء، بذلك صرت مجرما بالفطرة، أو لنقول آلة للقتل والإرهاب، صنعتها ظروف الإقصاء والتهميش، والاستبداد الذي نعيش في أحضانه. تلك هي قصة القاتل الأشقر الذي أدمن تفاهة القتل، والفتك بالأبرياء أمثاله. وسيتعقد أمره أكثر عندما سيقع فريسة لداعش، كجندي من جنود السماء، أو حرب الله ضد الله.
التطرف فكرة... والأفكار قاتلة:
لاحتراف الموت باسم الجهاد (القتل في سبيل القتل)، دوافع وأسباب كثيرة، لعل أعظمها، كامن في تربة فكرنا وموروثنا الثقافي، إذ يجد القتل باسم الجهاد أصله في فكرة مطلقة مقدسة، فيتجند من اعتنقها منذرا نفسه قربانا لها وفداء لأمرها، دون مساءلة أسسها أو منطلقها، كما تكمن خطورة هذه الفكرة في قدرتها على تجيش المشاعر، والتأثير في النفوس بطريقة فعالة، لأن غايتها في منظور معتنقيها خدمة الرب ونصرة أمر السماء، والفتك بأعداء الله، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهذه الفكرة المقدسة تحصن نفسها بمبدأ خطير جدا، حيث أن معتنقيها فقط هم على دين الحق، وما دونهم كفار تستباح دماؤهم، أما وطنها فهو شبيه بفكرة الأمة التي لا حدود لها، فرابطتها الروحية تدفع معتنقها إلى الجهاد من أجل أسلمة العالم كله. هكذا تبدو الفكرة في قلوب أصحابها، الذين ينذرون أنفسهم لتحرير العالم من الأوثان. لكن هل فعلا ذلك مرامهم وغايتهم القصوى؟ حتى وإن كان الأمر كذلك فمن هؤلاء الذين يتحدثون وكأنهم جند اصطفاهم الله لأمره؟ وبأي حق اصطفاهم؟ وأي إله هذا الذي يجعل الطريق إليه مُعبدا بدماء الأبرياء وتقديم قرابين بشرية على أعتاب مذبحه المقدس؟ ماذا لو فتحت الحياة أمامهم ذراعيها ومنحتهم بصيصا من الأمل؟ هل سنجدهم يقاتلون باسم الله فيقتلون أو يُقتلون؟ هل ندين الظروف الاجتماعية والثقافة التي نشأنا فيها؟ أم أن لجذر الشر المتأصل في الطبيعة البشرية دور في تطرفنا؟ كلها أسئلة نجدها ثاوية داخل متن الرواية، وتجعلنا نتعاطف من جهة مع ذلك الإنسان الكامن في الأشقر المحب للحياة وكل مُتعها، وفي الوقت نفسه ندين شره وإدمانه القتل من أجل القتل، الذي يجد سنده الثاني فيما نعيشه من نكبة ويأس جماعي، يأس يتغذى على الإرث الديني، الذي يجعلك تعتقد جازما "أن الإنسان لم يخلق الأديان إلا ليفسد بها الحياة". ومن فشل سياستنا، وضيق أفقنا الاقتصادي القائم على الريع والمخططات المافيوزية، أضف إلى ذلك إفلاس منظومتنا التعليمية والثقافية والقيمية، التي تفتقر إلى قيم التنوير وإعمال العقل، الذي يمنح لصاحبه حصانة فكرية، وملكة نقدية، واستقلالية روحية ووجدانية في بناء قناعته وتطويرها، لأن ذلك هو الحل الأول لمقاومة وتجفيف منابع التطرف، أضف إلى ذلك ضرورة تحقيق عدالة اجتماعية، تسمح بضمان حق العيش الكريم، والحرية، والمساواة أمام القانون، فذلك جهادنا الأكبر، الذي سيمكننا من بناء مجتمع إنساني ودولة ديمقراطية قوامها المؤسسات، التي تسمح بدمقرطة السلطة، والتداول السلمي حولها، تلك آمالنا أما واقعنا فشيء آخر، واقع يدفعنا مكرهين إلى حقد الحياة، واحتراف الموات، في منافي الرب.
الغربة والتيه الأكبر في منافي الرب:
تبدو الحياة كأنها ملهاة إله، أعد كل شيء سلفا بمهارة ودقة، تجعل من الإنسان يعتقد أنه يصنع مشيئته وإذا به مجرد لعبة في يد القدر، فيزداد مشهدها ملهاة وتعاسة، لأننا مجرد ممثلون تافهون صدقوا أدوارهم وسمو "مسرح الله دنيا"، هذا المسرح الذي يتمدد ركحه، كتمدد فكرة الأمة وتوغلها في الأذهان، فكرة أراد لها جند الله أن تبتلع هذا العالم برمته ليسبح في فضاء تمثيليتها، وهذا الأمر يزيد من عبثية هذا المسرح الإلهي، الذي وجد الأشقر نفسه ممثلا بارعا فيه، وهو القائل وقوله الحق: "كنت معدا لهذا المصير. وكنت لأتحالف في سبيل الأمن مع الشيطان. أنا هارب من حكم غيابي بالإعدام؛ هارب من الموت والحرائق القاتلة. وأن أتحالف مع الظلام والظلاميين؛ أن أتحالف مع القضايا التي أنبذها وأمقت سيرتها، أهون عليّ من أن أمضي عمرا في السجن..."؛ فالقدر أعد الأشقر لهذا المصير ببراعة وإتقان، جعله ينسلخ من كل مبادئه وأحلامه. فالتيه كما قال هو "أن يمنحك الرب فسحة من الزمن السرمدي، دون أن تدرك في سيرورته الحياة، ودون أن يدركك الموت"، فتظل معلقا بين الأمرين، كأنك تحيا حياة برزخية، تطل من خلالها على دنيا الخراب التي لا صوت يعلو فيها على زغاريد الموت، رصاص وتكبير، تكبير وتكبير مضاد في حرب الله ضد الله. ولا انتصار إلا للموت والخراب. الذي يمنح متسعا لحماقات أخرى من حرب السماء ضد السماء، ومن جهة أخرى تطل على زيف الوعود الكاذبة التي جندتك للهلاك، والفتك بالأبرياء، وهذا ما يجعلك تشك في مصيرك هل أنت فعلا من أهل "دار الكفر" أم من أهل "دار الحور العين" المشفوعة بخمرة لذة للشاربين؟، أو ربما لا هذا ولا ذاك، لأنك مجرد آلة تم تسخيرها لوأد الحياة والانتقام منها، باسم داء العيش، داعش.
الأشقر إذا، ما هو إلا نتيجة حتمية لظروف دفعته إلى التيه في الحياة، صحيح أن لكل تيهه الخاص، لكن مع بطل الرواية يأخذ التيه دلالة أخرى، يمتزج فيها بالغربة والألم، الحرمان والفقر... فهو ذات بدون هوية أو انتماء، رغم ما بذله من جهد من أجل العيش في سكينة وطمأنينة، إذ في البداية أراد أن ينتمي إلى أرض شامة فتزهر أحلامه هناك بين أحضانها، لكن سرعان ما اقتلعته الخيانة، خيانة العهد التي أحرقت كل أحلامه، وحتى دم الأخوة لم يشفع له عند أخيه الذي حاك مكيدة الغدر وشعل فتيل العداوة بينهما، باغتصاب حبيبته، ونفس الأمر ينطبق على علاقته بالأم التي لم تعد ترغب في بقائه معهم. هكذا وجد نفسه غريبا بين أهل عشيرته، فلم يكن أمامه إلا التيه والترحال، بعد أن وجد نفسه لا من أهل الأرض ولا من أهل السماء، وهذا ما لخصه في قوله: "لم تكن علاقتي بالله تستحق أن أدافع عنه. كبرت في بيت دعارة... لم تحط جبهتي على الأرض يوما إلا اضطرارا. لم أكن أشعر بأنني مدين له بشيء، كما لم أكن أشعر بأنه معني بهمومي. لم أكن أحبه مثلما لم أكن أكرهه... كأنني ولدت وأنا على يقين بأنني أقع في منطقة لا تقع ضمن اهتماماته"، بهذا الأمر صار الأشقر لا يتحرك إلا في أرض محترقة، لا أمل له فيها، لا أهل يأنس بهم ولا وطن يشفق عليه، ولا إيمان في القلب يلوذ إليه، هكذا انفتح باب الترحال على مصرعيه أمامه، لمعانقة حلمه في الغياب، حيث القدر بارع معه في حياكة مأساته واغترابه، غربة جعلته يمتطي المستحيل طريقا له، لأن الكل أراد التخلص منه "على ساحل الغربة سقطت بطاقة تعريفي الوطنية، واحترق كل ما يربطني بموطن هويتي"، مسلما نفسي لتيه أكبر مع داعش.
داعش ... داء العيش:
"نحن آلة كبيرة لإنتاج الأوبئة الحضارية. قد ننتصر على داعش لكننا لن نكف عن تفريخ الدواعش"،
لفهم هذا الداء، دعك من المؤامرة، واليد الثالثة، فلنا ما يكفي في تراثنا لهلاكنا، أو لانقاد مصيرنا، وتغير وجهة تاريخنا. فإما أن نستحق الحياة ونكون جديرين بها، أو نمت ميتتنا التي نستحقها ضعافا بؤساء، لأن تخلفنا الفكري، وخراب عمراننا، نحن المسؤولين عنه لا غيرنا، فكما لا يخفى على أحد أن "العنف والهمجية لا يأتيان من فراغ، بل يقبعان في أعماق الإنسان ينتظران خيانات تحركهما ليندفعا من قمقمهما ويدمرا كل شيء"، فلا عزاء لنا غير مواجهة أمرنا بأنفسنا، فإما أن ننتصر للحياة، وإما أن نقود أنفسنا إلى الهلاك أفرادا وجماعات.
داعش منا، وكل هؤلاء الأبطال باسم الرب منا، فمن أفتى "بالدولة الإسلامية" و"دولة الشريعة"، قادر أن يفتي كذلك بدولة الحرية والديمقراطية، لو تربى في أحضان الأنسنة وحب الحياة، فهؤلاء المجرمون الأبرياء، صناعتنا، بوعي أو بدون وعي منا، تراهم ممزقين بين أوهامهم وواقعهم، وهذا ما جعلهم يقعون ضحية لنصوص دموية مغلقة، نصوص لم نواجهها بالنقد والسؤال، لزحزحة وتفكيك مضامينها، تفسيرا وتأويلا، لأن ذلك هو الضامن لجعلها أكثر أنسنة. ما دون ذلك سنظل نرزح تحت وطأتها، وتجعلنا نسبح في تخاريفها التي لن تولد إلا الموت وتدمير الحياة، ولنا خير دليل في "جوق العميان" من شيوخ الظلام وتخدير العقول، الذين ينفثون سمومهم، وضلالهم الإيديولوجي بيننا، طلبا للتسلط والمال، وليس خدمة للدين، ولا خدمة للمستضعفين، وهذا ما جعلهم يقعون في تناقضات بين أوهامهم وواقعهم فالقادة "يريدون السلطة والمال، ومتع الحياة، والبسطاء الذين جاؤوا من كل فج عميق يريدون "حسن الخاتمة". ويحلمون بالحور العين في الجنة. "القادة عشّاق الدنيا، والجنود، وقود الحرب"، هكذا يجيش الشيوخ أتباعهم لما لهم من قوة تأثير وتخدير العقول نصرة لأهوائهم، لذلك تجد من فقد آماله في الحياة عبدا لهم، لا يبحث لنفسه عن شيء آخر غير أن يجد لنفسه موطنا داخل تلك القوائم المعدة لدخول الجنة، وهذا ما سهل الأمر لتجنيد الشباب باسم "خدام الرب على أرض المعارك، والنساء بإعلان جهاد النكاح لنساء يحاولن بفروجهن إيجاد مكان لهن في تلك القوائم المعدة لدخول الجنة"، باسم خدمة الرب. فهل يكون هذا قدرنا أن نظل معلقين بين الأرض والسماء؟
الرغبة المكبوتة قاتلة:
لتيمة الجسد حضور قوي في متن الرواية، وربما قد يكون تعطشه للحرية والانفلات من قيود المجتمع وتقاليده، محرك أساس لتطور أحدثها، لأن هذا الجسد المثخن بالجروح، والقيود، أسير ثقافتنا ومنبع كل عقدنا، فما لم نحرره من تقويماتنا "الأخلاقوية" لن نظفر بحريتنا، والأدهى من ذلك أنه قد يكون سببا أساس في هلاكنا مثل ما وقع مع الأشقر.
في الجسد أسرار كثيرة منها تلك التي أودعها الرب فيه حتى يكون أكبر أعداء الإنسان؛ "قلبا يميل دوما عكس ما يريد؛ عقدا نفسية تنهب أيامك وحياتك على مرأى منك، ولذة آسرة في الخاصرة مشروطة دائما بهواجس التناسل! لقد أودع الرب في هذا الجسد أعظم أسراره، وتركنا في وعائه نكابد متطلباته الملحة"، متطلبات تدفعك إلى حد الخيانة والموت، القتل والانتقام إشباعا لأهوائه. أضف إلى ذلك أنه مأوى أوجاعنا وكل تناقضاتنا القيمية، لهذا لا نريده أن يتكلم، بل أن يظل صامتا، غفل من الشهوة واللذة، من الحب والحياة، وننسى أننا بذلك نحنطه ليصير قنبلة حية، وأداة مثلى للتنكيل بالآخرين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فللجسد غوايته، التي قد تولد الحياة وتنتصر لقيم الإنسانية، وله كذلك عبقريته الخاصة في الخيانة ووأدها، وبين المنظورين إنسان يحترق، ويموت في صمت، صمت سيجره إلى المهلكة كلما فار جسده وثار على وضعه المأزوم، وما يزيد من طيشه هو "أن تحرش بك الموت، دون أن تلقى حذفك." فيدفعك ذلك إلى مزيد من الخيانة، خيانة القتل بدون سبب. وهذا ما بدا من خلال تيه الأشقر، وتجربة "الأخ الكبير" ضحية الخيانة، وحب ليلى، لكن حظه خانه أكثر من مرة إذ لم يدرك لا ثأره ولا وصلها. فكان جسده مقبرة أحلامه، وكل دنيا الخراب مقبرة لم تسع جسده، وروحه المشبعة بالتسلط انتقاما لحبه. ونفس الأمر ينطبق على وليد معروف الذي عاش على هامش الحياة، بيقينه البليد، وأنه منذور لعظمة ما، عظمة قادته إلى إفساد حياته، وقتل حبه الأزلي. فلو حررنا جسدنا قليلا ومنحناه فسحة من الحياة والأمل، لما تشدد شبابنا وأعتنق التطرف تعبيرا عن حرمانه؛ إذ في مجتمعات نبذ الجسد وغوايته، لا تنتظر منها إلا الموت والهلاك؛ لأن الفقد والحرمان، يجعلان الإنسان يعبث بحياته وحياة غيره دون شفقة ولا رحمة، فالجسد قوة، لا مكان يسعه غير فسح الحرية أمامه للتعبير عن شبقيته دون قيود.
ختم... للتأمل:
من مذكرة الأشقر المثقل بعذابات لا دور له فيها، ومن روحه المثخنة بالهزائم، نستفيد أن "الكتابة إيغال في الألم بدلا من أن تكون سدا يمنع دفقَهُ المتزايد؛ إمعان في الخيبة وضيق الأفق..."، وهذا ما يجعل منها على الأقل بلسما لجرحنا، وترياقا لروحنا، لأن الكتابة استعادة للحياة، وملاذا آمنا لمن يعشقها، لذلك حكى القاتل الأشقر حياته سردا وحكاية، وعلى منواله وجب علينا استعادة حكايتنا واستئناف مسيرتنا مع الحياة منتصرين في ذلك لقيمها الإنسانية النبيلة. وحتى يكون الأمر كذلك، فما على حكايتنا إلا أن نجد لها موطن قدم راسخ في الأدب والفلسفة، الفن والسينما، الشعر والمسرح، وكل الفنون والعلوم الإنسانية، لأن ذلك هو الكفيل بتحريرنا وتطهيرنا من وجع التطرف، وجعلنا ننتمي إلى الحياة بحق، فكرا وثقافة... لهذا فحكاية الحياة تنادينا دائما، ومفتوحة أمامنا، فإما أن نأتيها ممتلئين بالحب والإنسانية، لنظفر بخيراتها، وإما أن نأتيها بحقدنا وشرنا، فنغادرها صغارا مهزومين؛ وبين الأمرين لنا أن نختار ما نريد أن نكونه، بكل وعي ومسؤولية، لأن معركتنا اليوم مع الجهل، فما أن نحرر عقولنا حتى يكون لنا اختيار آخر، بميلاد جديد. ميلاد يبدأ بانتصارنا لقيام العقل وتحرير وجداننا للإقبال على الحياة بدل إقبارها... تلك هي قضيتنا.