JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

سيكولوجية السلطة والتسلط: التسلط بين دافع التملك المرضي وهوس الاكتمال والقوة

 




ذ. هشام العفو- استشاري الصحة النفسية _ أخصائي نفسي


من أخطر الأمراض التي يمكن لتخصص علم الاجتماع المرضي أن يهتم بها كثيرا في مجتمعنا الراهن هو مرض السلطة أو ما يسميه علم النفس المرضي: الهوس بالسلطة وينتج عليه اضطراب البارانويا، إن حب السلطة ينتج عن رغبة دفينة في تعويض النقص أو الفشل ما يسمى في التحليل النفسي بميكانيزم التعويض عن الفشل " mécanisme de la [1] décompensation ويتعزز[2] هذا الشعور حينما يتسلط الخوف من تكرار تجربة الفشل وقد يتحول إلى رهاب اجتماعي بأصول ودوافع نفسية وعاطفية، كما أنه يتطور أكثر حسب البيئة التي تتناسب معه، خصوصا حينما يتواجد في بيئة ملوثة فكريا ومتفككة أخلاقيا وقيميا، وهنا تصبح تجربة القهر من أصعب التجارب وأكثرها دافعية لتعزيز السلوكات العدوانية التي تقوي الشعور بالدونية لتتطور إلى ميكانيزمات دفاعية تقوم بعمليات التحويل اللاشعوري من رغبة دونية إلى رغبة في التملك كسلطة للذات على ذاتها وتفرض على نفسها صراعا قويا يتجلى في القرارات الانفعالية والصدمات المتكررة، ثم من جهة أخرى في سلوكات عنيفة مع المحيط، خصوصا حينما يتعلق الأمر بأشخاص يتموقعون سياسيا و يملكون سلطة نافدة، وفي هذا الصدد تقول "د. نيفين زيور2003": "أن الصراع الفعلي لا يعدو أن يكون عاملا مثيرا وأن الاستعداد للعصاب «الاضطراب النفسي" كان موجوداً في المستوى التحتي في حياة الفرد منذ طفولته". وقد تظهر أيضا في خلال السلطة الأبوية في المجتمعات الممتدة، أو السلطة القهرية في المجتمعات المتخلفة، ولعل تطور الرغبة في التملك أو إسقاط مشاعر الألم التي تعيشها الذات المتسلطة هي نفسها التي تعيش أزمات خوف ورعب مستمرة دون أن تدرك ماهية الخوف وطبيعته أو تجد له أي تفسير منطقي، فيصبح خوفا مفتوحا بلا عنوان، تتطور معه مشاعر الهوس بالخطر المحيط بالشخص المتسلط، فيظهر له الجميع كأعداء يتربصون به للنيل منه واقتسام سلطته، ومن سماته أيضا الشك المفتوح و سوء الظن بالجميع وقبل ذلك نظرة قاتمة سوداء تجاه نفسه، وما يمكن أن نؤكده في هذه الشخصية هو صعوبة التحاور مع صاحبها واستحالة إقناعه، فهو دائما على صواب وآراء الآخرين قد تهوي به الى القاع أو هي تجسيد لمؤامرة تحاك ضده لتدمير قوته وسلطته، ويبقى إحساس السلطة في هذه الحالة هو المحور والبناء الأساس في شخصية المتسلط لأنه إحساس و انفعال وعاطفة تتكون كلها في مصدر قوة وبطش بالآخرين.

إن دافعنا لمعالجة أشكال السلطة ودافعية التسلط في شخصية الفرد ليس هو اجترار ما كتبه الإكلينيكيون سابقا عن الأمراض النفسية أو استعراض بعض المفاهيم المرضية، وإنما بسبب ما أصبحنا نعايشه اليوم أكثر من أية فترة مضت في التاريخ، وطالما قرأنا وسمعنا عن شخصيات سادية وقهرية ومتسلطة ومضطهدة... حكمت في القرون الماضية وبطشت بالأبرياء فقط لتخلد اسمها في التاريخ ، لكن اليوم أصبحنا نعيش مع شخصيات أكثر خطورة من سابقاتها مع أسماء لا تخلد اسمها فقط و انما حتى قهرها و تسلطها حيث أصبحت هناك طرق إضافية لصناعة القهر والتسلط منها: الاقتصاد والسياسة والدين والمال والفن... إننا نعيش اليوم أنواعا جديدة من التسلط والقهر، وهما مصطلحين متلازمين، وإن حديثنا عن التسلط الاقتصادي يحيلنا إلى ممارسات بعض الدول المتسلطة مثل أمريكا، وبعض الشخصيات التي تشكل نموذجا لموضوعنا الآن وقد تكون شخصيات سياسية أو اقتصادية أو على رأس السلطة الحاكمة... إضافة إلى التسلط الديني [3]، الذي يعد من أخطر أنواع التسلط لأنه يكرس القهر الديني والاستبداد الذي يمنع أي نقاش أو حوار (مثال أفغانستان و إيران)... وحينما نتحدث عن التسلط الديني فهذا يرجع الى الثقافة الدينية وليس الى الدين كعقيدة بمعنى إلى فهم وتمثل الدين عند أهل السلطة والمال والنفوذ، فتتحول السلطة السياسية الى سلطة دينية لفرض أنماط التبعية والتحكم حسب منطق الحلال والحرام  وطاعة ولي الأمر حتى وإن طغى أو ارتكب معصية. إن هذه الطاعة العمياء تجعل من الحاكم شخصية مقدسة هلامية، تعزز فيه الشعور بالربوبية في الأرض إلى أن تتحول هذه المشاعر الى مشاعر اكتمال وقوة وانتصاب بالمعنى الغريزي و الذكورى حسب تعبير التحليل النفسي[4].

يمكن الحديث أيضا عن سلطة السياسة والرغبة في التحكم والحكم، من أجل تعويض مشاعر الضعف في الشخصية، حيث يتوارى السياسيون خلف القيم المجتمعية والدينية بهدف الوصول إلى الحكم أو الارتقاء لهرم السلطة ، فتنقلب معالم وسمات الشخصية بمجرد تحقيق الهدف، فتتحول كل المشاعر الداخلية للشخصية المتسلطة هنا من مشاعر تحكم وتعويض إلى مشاعر تسلط وقهر واستعباد للضعفاء، أو تصفية حسابات عن طريق موقع القوة والحكم، وهذه الشخصيات تظهر كثيرا في الحكومات العربية خصوصا التي عرفت تغييرات سياسية وثورات وحركات احتجاجية وخصوصا مع نموذج "الإسلاميين" الذين وصلوا لمراكز القرار في بعض الدول العربية سابقا...

إن الحديث عن تسلط الأشخاص في السياسة والمال والدين.... هو أمر محسوم وله دوافعه وأسبابه الواضحة أحيانا والكامنة أيضا، لكن أن نتحدث عن التسلط في المعرفة هو أمر يثير الاستغراب والسخرية أيضا، فكثيرا ما بقيت أبواب الجامعات موصدة كقلاع و حصون منيعة، دون أن يتم التسلح بالجرأة الكافية لمحاولة رمي سهم النبش بنبل النقد والتقصي، لما يقع داخل هذه القلاع، و أن الشخصيات المرضية التي تتخذ لها من التسلط والاستبداد و التحكم أسلحة فتاكة ضد كل من يتجرأ على توجيه اللوم أو النقد أو رفض الانبطاح لشهوات الجسد، و بما أن المتسلط هو دائم الشك وأيضا هو اله المعرفة و لا يعترف بوجود معارف أخرى غير التي يملكها [5]، فان كل من يقف في وجهه أو يهدد موقعه هو في مرمى استبداده و ظلمه و جبروته تحت رحمة السلطة المعرفية وسلطة القلم الأحمر ، وهنا نشير الى الحالات الكثيرة التي افتضح أمرها في "الجنس مقابل النقط"....في بعض المواقع الجامعية والتي لم يفتضح أمرها بعد، فجميعها تبقى حالات تعكس اللاسواء في الكثير من الشخصيات التي تدعي العلم والمعرفة والبناء الثقافي و الحضاري للأمة.

إن الحديث عن التسلط والاستبداد، يدفنا بالضرورة إلى استحضار قاموس وحقل مفاهيمي غني مرتبط بالقهر والظلم حيث يمكن النظر إلى التفسير السيكولوجي للسلطة من أبواب مركزة ونستحضر القول الاتي:"[6] فأنْ ندرس سيكولوجية السّلطة يعني أنْ نفهم السلطة التي نخضع لها، أو التي تحاول أنْ تخضعنا لها، وأنْ نعرف ماذا تريد منا، وما يمكن أنْ تحقِّقه لنا، وأنْ نطمئِنَّ إلى خضوعنا لها، أو نرفض هذا الخضوع ونقاومه". 

من جهة أخرى فانعالم النفس[7]" مصطفى حجازي " في كتابه " سيكولوجية الإنسان المقهور «، الإنسان المقهور قد يتحول الى شخصية قاهرة متسلطة ومستبدة، وأمر بديهي أن يفجر ويحول قهره السابق الى سلوكيات وانفعالات عنيفة مثل الأب الذي يعيش قهرا في عمله من رب العمل، أو الأم التي تمارس عملا يدويا في المعامل.... وقد يصبح الأب صاحب سلطة وتسلط وينعكس الأمر على الأبناء الذين بدورهم قد يطورن ويعززون سمات القهر والتسلط داخليا إلى أن تظهر في مراحل المراهقة في سلوكات تكسير وعراك وإدمان وانحراف واعتداء على أساتذتهم أو في الملاعب الرياضية... وقد تكون الأم أيضا منبتا لهذا القهر و التسلط فيصبح الأمر معمما على الزوج والأبناء وأحيانا تظهر حتى في حالات الطلاق، حيث تتعزز مشاعر القهر عند المرأة المطلقة أو المضطهدة، فتنمو فيها الرغبة في التملك بشكل أكبر أو الانتقام، لتتحول الى مشاعر مستبدة بنفسها وبالآخرين، لأن المعايير النفسية والعاطفية والاجتماعية عندها تتعرض لرجة قوية بعد تجربة الانفصال التي تعزز قلق الانفصال ومشاعر الاحباط ولابد من تحرك ميكانيزمات التعويض و التحويل والدفاع... وهنا تصبح الرغبة في التملك من أساسيات الكينونة فتتحول إلى علاقة انعكاسية شرطية ، قد تضاعف مخاطر تحول الشخصية إلى مرضية تنتابها نوبات هوس بالذات ومشاعر التضخم، لهذا يصعب تعميم أو نمذجة اضطراب على كل حالة ربما مرت بنفس المراحل، ويقتضي منا الأمر دراسة الحالة بشكل منفرد وفارقي دون استحضار مقومات اضطراب معين، إذ يبقى التشخيص الفارقي و المصدري في الجدول الإكلينيكي مهمين جدا، على الأقل في مثل هذه الحالات الصعبة التي تحتاج فعلا لتحليل وتشخيص مصدري لأسباب الاضطراب وتطور المرض النفسي. ونشير الى أن وجود علم الاجتماع المرضي[8] مهم وأساس هنا بحكم أنه لا يقصي الثقافة في شموليتها أو خصوصيتها وكذا مقومات العيش من منطقة لأخرى ومن شخص لأخر في بيئيتين مختلفتين، فالتسلط يمر عبر مرحلتين وهما: الاستبداد الداخلي بالنفس ثم الاستبداد الخارجي للآخرين بشكل واضح وظاهر، وكلا الوضعيتين تعكسان حجم معاناة الفرد حينما تتحول مشاعره وانفعالاته الى مشاعر تسلط وقهرواستبداد، فيكون الاحتراق النفسي الداخلي أصعب مرحلة يعيشها الفرد في هذه الحالة. قد نتفق و قد نختلف في قراءاتنا حول أسباب ودوافع الانتحار والقتل والتنكيل والاعتداء... والطلاق وغيرها من الأمراض والمشاكل الاجتماعية، لكننا قد نتفق حول مصدرية التسلط والقهر دون أن نحدد مجال تطورهما، فالقهر هو صورة مستبدة سلبية بالذات لذاتها وهو التسلط هنا هو انعكاس للمرآة المنكسرة التي لا تظهر حقيقة صورة الذات، لهذا فان تمثل تلك الصورة المشوهة، قد ينتج الكثير من القراءات المشوهة أيضا، لهذا يمكننا أن نشير بأصابع الاتهام للتسلط والقهر كسببين في حالات الانتحار والجرائم البشعة التي نسمعها يوميا إما بالتنكيل بالجثث أو تقطيع الرؤوس أو غيرها، فكل الحالات في التسلط تشير الى ترك بصمات الألم في نفوس الضحايا لهذا فان أول ضحية هو المتسلط نفسه و مثال ذلك " جريمة مدينة المحمدية يوم 19 أكتوبر حينما قام شخص بقطع رأس متشرد والطواف به، إن هذا الشخص ليس مجرما في الحالة الطبيعية للسياق وإنما هو الضحية الأولى للتسلط والقهر الاجتماعي والسياسي والأخلاقي و التعليمي والديني في المغرب، ونتج عن ذلك سقوط ضحية أخرى تعيش نفس وضعية التسلط و القهر من طرف المقاربة الاجتماعية التنموية الفاشلة على اعتبار أنه متشرد بدون مأوى أو ظروف عيش، وإذا اعتبرنا أن القاتل هو حلقة الوصل في الجريمة وأن عناصر هذه الجريمة تتضمن 03 عناصر رئيسية وهي: القاتل ثم الضحية وأداة الجريمة، سنكون قد أخطأنا التشخيص والقراءة السيكولوجية الصحيحة للحادثة مرة أخرى ، وجردناها من سياقها العلمي[9]، واختزلناها في حادثة بمسطرة جنائية فقط، وهذا لن يفيدنا في شيء أو على الأقل لن يساعدنا مستقبلا في فهم أسباب قيام البعض بقتل آخرين بدم بارد وبأبشع الصور، وإن تحليل علم نفس الجريمة هنا لا يستبعد السياق أبدا في مثل هذه الجرائم بل يفترض أولا أن الضحايا هم كل العناصر الموجودة في الحادثة وبعدها موقعة كل عنصر حسب الدافع، ومحاولة فهم سياق الجريمة، على أساس أن القيام بفعل القتل هو آخر مرحلة من سيناريو معد مسبقا أو من حرب نفسية داخلية استمرت لمدة طويلة دون أن تفهم الجهات المسؤولة أن ترك المضطربين نفسيا وعقليا في الشوارع هو جريمة أخلاقية وقانونية أكبر بكثير من الفعل الذي قام به الجاني.



الهوامش


[1]- مصطلح يستخدمه التحليل النفسي للدلالة على مرحلة الفشل التي يعيشها الفرد ويحاول من خلالها تعويض الفشل

[2]-التعزيز الية يستخدمها رواد الدراسات السلوكية

[3]- د محمد شحرور "الدين والسلطة " الطبعة الأولى 2014دار الساقي. بيروت

[4]س. فرويد: "علم النفس الجمعي وتحليل الأنا" (1920)، دار الطليعة، بيروت 1979.

[5]برتراند راسل. السلطة والفرد. ترجمة لطفيه عاشور، مكتبة الأسرة 2001، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[6]-سالم القمودي. سيكولوجية السلطة. الطبعة الأولى 1999، مكتبة مدبولي، القاهرة

[7]- د مصطفى حجازي " التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور الطبعة التاسعة 2005 المركز الثقافي العربي المغرب، ص9

[8] -socio pathologie, subst. fém., sociol. Étude des relations morbides entre un individu et son milieu social (Dict. xxes.).

[9] - Catherine Blatier ; Introduction à la psychocriminologie ; Éditeur : DunodCollection : Les Topos,2010. Page 39 à 78



سيكولوجية السلطة والتسلط: التسلط بين دافع التملك المرضي وهوس الاكتمال والقوة

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة