JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

المكان، وجمالية الانفتاح. قراءة في ديوان "هذا البيت" لأحمد هاشم الريسوني




سعيد أكزناي الفريُول- شاعر وناقد أدبي




أولا، توطــــــــــــئة


لقد صاحب المكان الشعر العربي منذ أقدم نماذجه، وفي مختلف الأزمنة، ومع مختلف التيارات الشعرية، فقد حاول الشاعر العربي أن يستنطق المكان جاعلا منه دالا، مدلوله حالته النفسية، والمجتمعية، وكذا الفكرية... فلم يكن – قط- مجرد مكون، بل كان الشاعر يكتب ذاته من خلاله. فانظر إلى المقدمة الطللية، التي ما كانت إلا كشفا عن حالة الشاعر النفسية، يعبر من خلالها عن شوقه العارم لمحبوبة بانت وتركته في لجة بحر متلاطم. يقول الشاعر قيس بن الملوح :

أمر على الديار ديار ليلى *** أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديار[1]

كما أن المقدمة الطللية كانت تصويرا لواقع قائم على الترحال، ولطبيعة صحراوية قاسية.

وسرعان ما تحول الأمر مع قيام الدولة، وانقلاب الحال من الترحال إلى الاستقرار، ومن الخيام، إلى المنازل والقصور. فانقلبت معها الحالة الشعرية مع عديد من الشعراء الذي رفضوا المكان القديم، لعدم تساوقه ومنظورَهم الخاص، وطبيعة عيشهم، ودعوا إلى أمكنة جديدة، فها أبو نواس يدعو إلى ترك الأطلال، والإقبال على الخمارة التي ما هي إلا تصوير لحياة الترف واللهو والبذخ التي وصلها المجتمع إبانه، يقول :

عاج الشقي على دار يسائلها *** وعجت أسأل عن خمارة البلد[2]

وعند ظهور المدنية الحديثة، سارع الشاعر العربي الحديث إلى التعبير عن نفوره منها، وأسقط عليها تصوراته، وعبر عن حنينه للأمكنة القديمة / البدوية، حيث شكلت له – حسب تعبير الدكتور إحسان عباس- صدمة[3]. يقول الشاعر أمل دنقل، معبرا عن قسوة المدينة التي لم يجد بها ولو ظلا :

طارقا باب المدينة

" افتحوا الباب أنا أطلب ظلا.. "

قيل " كلا"

أمطري يا قبضة الزبد التي تدعى سحب

أمطري رغوتك الجوفاء في كوب اللهب

هذه الأسوار ما رقت لحالي الحزينة...[4]

إن المكان إذن، ليس عنصرا ثانويا مُؤطِرا للمعنى فقط، بل هو عنصر فاعل فيه، خالق له. يقول غاستون باشلار: " إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز."[5]، ويقول حميد الحميداني: "إنه وصف مكاني لا يخضع للمعنى، وإنما يمضي مع المعنى في سياق واحد، إنه ناتج حتما عن تغير موقف الإنسان من الواقع."[6]. ولعل ما يؤكد ذلك في إطار الشعر، مبدأ الاختيار الذي يمارسه الشاعر على الأمكنة، ليختار بعضها، من أمكنة تكاد تكون غير محدودة.

وقد احتفل شعر الشاعر أحمد هاشم الريسوني بالمكان في غير ما ديوان، الجبل الأخضر 1997، مرتيليات 2000، وصولا إلى "هذا البيت"، الصادر سنة 2019، عن دار الفاصلة للنشر.

ثانيا، خطاب العتبات :

· العنوان :

لقد ارتأى الشاعر أحمد هاشم الريسوني وسْم أضمومته الشعرية الأخيرة بـ "هذا البيت"، فصدره بحرف تنبيه (ها)، وبعده اسم إشارة دال على القريب (ذا)، مردفا بـ "البيت"، الذي جاء معرفا. ويشير دال "البيت" فيما يشير إليه إلى الألفة، إنه حسب تعبير غاستون باشلار، ركننا في العالم، وكوننا الأول، الذي يحمي أحلام اليقظة، والحالم، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء.[7] ولعل الشاعر هو الحالم الأكبر. إن هذا العنوان، ليحيلنا على بيت، هو أقرب ما يكون من الذات الشاعرة، حيث تصفف أحلامها، وحيث تنزوي من قبح العالم. وما حرف الهاء إلا لتنبيه القارئ ليرى البيت بعين القلب.

· صورة الغلاف :

تزين الغلاف صورة فوتغرافية، تستغرقه كله. وهي صورة لبيت طيني تقليدي، صار يتآكل بفعل الزمن. مشيرة بذلك إلى الماضي، أو لنقل إلى التاريخ. إنها إحالة على ارتباط المكان في الديوان بما هو تاريخي. كما أننا نلاحظ أن الصورة باهتة إلى حد ما، تتراجع إلى الخلف لتفسح مكانا للعنوان البارز، وكأن التاريخ هنا تاريخ ضبابيّ وملتبس، لا تجلوه إلا كلمات الشاعر في "هذا البيت".



ثالثا، المكان وجمالية الانفتاح في الديوان :

لقد حظي المكان في الديوان بحظ وافر، حاول من خلاله الشاعر، أن يكتب ذاته، وتصوراته. والكتابة المكانية كما سلف، كتابة خاضعة للانتقاء، فالشاعر يمر بالعديد من الأمكنة التي يصعب عدها أو حصرها. لكن ليس الأمكنة جميعها تعلق بذهنه، أو يوليها نفس الاهتمام. من هذا المنطلق وجب التساؤل عن ماهية هذه الأمكنة، ودلالاتها بوصفها دوالا إيحائية في النص الشعري.

يفتتح الشاعر أحمد هاشم الريسوني ديوانه بقصيدة موسومة بنفس عنوان الديوان "هذا البيت"، بما يحيل عليه البيت من ألفة، كما سلف، يقول في مطلع القصيدة :

هيأت هذا البيت

جرت قدامه موجة

قطفت يدي

ما من شراك

فتاة الحي دقت الباب...[8]

إن المتأمل لهذا المقطع القصير، لينتبه بدون عناء إلى خاصية الانغلاق التي يتسم بها المكان، فهو أولا بيت يهيئه الشاعر وحده "هيأت"، والموجة قد جرت قدامه، أي خارجه، ثم تأتي الفتاة المتموقعة خارجا لتدق الباب، والدق دلالة على أن الباب مغلق. إلا أن هذه الحالة، الانغلاق، ما تلبث أن تنقلب. فينتقل بنا الشعر مسافرا عبر الأمكنة في نفس القصيدة (شارع الروكسي، البحر، جهة البوليفار، شارع كيبيدو، خمارة البريد، ساحة المدينة، المدينة، قصر الرميلات..). ثم نكتشف مع الشاعر أن بيت الألفة الذي هيأه، ليس بيته. إنه بيت الحبيب :

هيأت بيتكَ

يا حبيبي[9]

إن هذا الانتقال من المغلق، المحدود (البيت)، إلى المفتوح، لم يفقد المكان طابع البيت، بل هو توسيع لدائرة الألفة، حيث تصير كل الأمكنة التي يمر بها خيال الشاعر جزء، أو قل غرفة من هذا البيت. إنها الأمكنة حيث يعيش حيواته ويشحذ رؤاه، فساحة المدينة حيث تعتدل القصائد، أما بيت المحبوب، فأنسب بيت للعاشق، كيف لا، وبيت الحبيب الذي أعده الشاعر بطريقة غير مألوفة في البناء، طريقة لا تجعله مغلقا، بل مفتوحا، حيث يوضع الحديد فوق الهوى، أما السقيفة فتوزن باللمى:

أضع الحديد على الهوى

أزن السقيفة باللمى[10]

ومن هنا يمكننا أن نقول، إن الانتقال من المغلق، إلى المفتوح، ليس إلا نتيجة للعشق، عشق الفتاة التي دفعته إلى فتح الباب، ليتصل الداخل بالخارج. ولعل هذا الداخل ما هو إلا داخل الشاعر نفسه الذي كان من قبل العشق مغلقا، وما المعشوقة إلا طنجة في أبهى حللها :

كم نسينا يا أمندا

أن طنجة تعشق

طنجةً

لا سواها...![11]

فطنجة هي تلك الموجة، وهي جمال الورد، وحنين الناي :

وهنا طنجة

حافة

سقطت في سلال البحر

موجة،،

وردة،،

قبض ناي

أمد يغرب في هواي [12]

وهكذا يكون البيت قد رفع حجابه، ولم يعد اسم الإشارة في حاجة لتصديره بهاء التنبيه "هو ذا البيت قد رفع الحجاب"[13]

ولم يقف انفتاح الشاعر على المعشوقة طنجة فقط، بل انفتح المكان ليسافر بنا عبر التاريخ، مستخدما في ذلك "قصر الرميلات" الذي استدعاه الشاعر ليربط الحاضر بالماضي، في إشارة إلى قصة جده المجاهد "مولاي أحمد الريسوني" مع العاشق بيرديكاريس، الذي بنا قصرا فوق الخيال بمنطقة الرميلات، أهداه لمحبوبته :

هذا قصر الرميلات

دونه السماوات[14]

ولم يكن انفتاح الشاعر على الأمكنة التاريخية إلا مساءلة للتاريخ، واستنكارا له. إنه محاولة للكشف عن الوجه الحقيقي للعلاقة بين الجد المجاهد، وبيرديكاريس العاشق. يقول :

لابد أن نعود لهذا الأثر

لابد أن نعود

هو البيت المعلق في

الجبل

رأيت الشريف

يضع الوسام على صدر بيرديكاريس[15]

إن الشاعر في هذا المقطع، يعد العودة إلى الأثر/ التاريخ أمرا حتميا ضروريا، ثم يقر برؤيته للجد وهو يتوج العشيق بوسام، وسام ماذا ؟ إنه وسام المحبة. وإن الفعل "رأيت" ليحيلنا على الحقيقة المطلقة عند الشاعر. إن العلاقة إذن لم تكن علاقة صراع، بل علاقة توافق. أليس كل منهما يحمل في قلبه قبس العشق؟. ولا يتوقف الشاعر عند هذا الحد، بل يشارك بيرديكاريس آلامه، ومعاناته، بل يشرك في ذلك "المكان" فيشخصه في صورة الإنسان المتأوه، يقول :

والصخرة لما تزل

مذ أقام بها بيرديكاريس

تنفث آهات غابة الرميلات

آه وأنا أقبض أثر العشق فوق تلك النافذة[16]

وقد اختار لذلك دال "الصخرة" التي تتميز بالصلابة، إشارة منه إلى أمرين، الأول، أن حتى الصلابة يفت فيها حزن العشيق، وثانيها، أن هذا الحزن خالد في التاريخ، خلود العشق. ويمعن الشاعر في هذه العلاقة، حتى يجعل بيرديكاريس بمنزلة الجد المجاهد، أحدهما ورث عنه حب المكان، والآخر حب الناس :

نصعد .. نهبط

نهبط .. نصعد

نسعى بين جدنا الأكبر

والجد العشيق[17]

وهناك نوع آخر من الانفتاح المكاني في النص، يمكن أن نسميه بالانفتاح الصوفي، إنه انفتاح على الأبد، وانفتاح على ما يُرى إلا بعين القلب. ولعل "مولاي عبد السلام" هذا المكان/ الضريح، أبرز ما يحرك هذا الانفتاح في النص :

ثم هذا المقام الأبدي

مولاي عبد السلام

صخرة أخرى في برزخ الأثر

صخرة مطلة على برزخ الروح[18]

ولا تخفى الحمولة الصوفية التي يحملها هذا المقطع، حيث أشار إلى البرزخ، المقام الأبدي، في إشارة إلى عدم فناء الروح، رغم فناء الجسد. فيصير المكان هو البيت الجديد، بعد البيت الأول/ الجسد، يقول :

هي صخرة أخرى

في الجبل الغربي

كما لا بيت لها

أو هي عينها البيت

وإذن بيت مولانا عبد السلام

يتملى قليلا في صنوه

بيت مولانا الجليل[19]

ومرة أخرى يلجأ الشاعر إلى التشخيص، فيمنح البيت، بيت مولانا عبد السلام، عينا، ينظر من خلالها إلى بيت الجليل، إنها نظرة بعين الروح، بعد فناء نظرةِ عينِ الرأس.

رابعا، تركيب واستخلاص :

إن الشاعر أحمد هاشم الريسوني في هذا الديوان، وهو يفتح المكان على أبعادَ دلاليةٍ متنوعة، تحيل على عدة مرجعيات، منها التاريخي، والصوفي، كان كمن يكتب ذاته من خلال المكان. إن المكان في الديوان إذن، ليس مكانا مُساقا لوصفه، وتقديمه للقارئ، بمعزل عن الذات، إنه رمز دلالي يحيل إلى مرجعيات تشكيل الذات الشاعرة. فالشاعر هو ذاك الصوفي الذي يقرأ الأمكنة، ويدعو إلى الحب في مختلف تجلياته، وهو ذلك المرتبط بتاريخ يحاول بعثه من رماده كما العنقاء.

وإننا في الأخير لا ندعي الإلمام بالديوان، ولا بالدلالات المكانية التي يتضمنها، بل يبقى دائما محتاجا لقراءات وتحليلات وتأويلات جديدة.



لائحة المصادر والمراجع :


· هذا البيت. أحمد هاشم الريسوني. دار الفاصلة للنشر.ط1، يناير 2019

· اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1978

· الأعمال الشعرية الكاملة، أمل دنقل، مكتبة مريولى القاهرة. ط2 س 1997.

· بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. حميد الحميداني ط 1. 1991. المركز الثقافي العربي.

· جمالية المكان، غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا.ط 2. . 1984. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.

· ديوان أبي نواس برواية الصولي. تحقيق الدكتور بهجت عبد الغفور الحديثي، أبو ظبي للثقافة والتراث. دار الكتب الوطنية. ط1، 2010.

· ديوان مجنون ليلى. تحقيق عبد الستار أحمد فراج. مطبوعات مكتبة القاهرة. 1997.


[1] ديوان مجنون ليلى. تحقيق عبد الستار أحمد فراج. مطبوعات مكتبة القاهرة. 1997.ص 131


[2] ديوان أبي نواس برواية الصولي. تحقيق الدكتور بهجت عبد الغفور الحديثي، أبو ظبي للثقافة والتراث. دار الكتب الوطنية. ط1، 2010. ص 92


[3] اتجاهات الشعر العربي المعاصر، د إحسان عباس، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1978ص 91


[4] الأعمال الشعرية الكاملة، أمل دنقل، مكتبة مريولى القاهرة. ط2 س 1997. ص 233


[5] جمالية المكان، غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا.ط 2. . 1984. المؤسسة الجامعيةللدراسات والنشر. ص 31


[6] بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. حميد الحميداني ط 1. 1991. المركز الثقافي العربي. ص 69


[7] جمالية المكان. ص 36، 37


[8] هذا البيت. أحمد هاشم الريسوني. دار الفاصلة للنشر.ط1، يناير 2019. ص9


[9] نفسه ص 11


[10] نفسه ص 13


[11] نفسه ص 18


[12] نفسه ص 24


[13] نفسه 15


[14] نفسه ص 22


[15] نفسه ص 88


[16] نفسه ص 85


[17] نفسه ص 86


[18] الديوان ص 91


[19] نفسه ص 92.93

المكان، وجمالية الانفتاح. قراءة في ديوان "هذا البيت" لأحمد هاشم الريسوني

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة