JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


Home

المخرج كريستوف كيشلوفسكي: نبي السينما الحزين

المخرج كريستوف كيشلوفسكي: نبي السينما الحزين
كريستوف كايشلوفسكي (صورة مأخودة من مواقع التواصل)


لحسن هبوز - باحث في السينما والفلسفة



المخرج كريستوف كيشلوفسكي: نبي السينما الحزين
"بغض النظر عن موضوع أفلامي، دائما ما تطلعت لتوحيد مشاعري أنا وجمهوري، أحب أن يشعر المشاهد بالأسف والعجز الذي أشعر به عندما أرى شخصا يبكي في المحطة، وعندما أشاهد الناس يحاولون عبثا التقرب من الآخرين، وعندما أرى أشخاصا يأكلون بقايا الطعام في المطاعم الرخيصة، وعندما أرى المرارة على وجه امرأة تملك بقعا على يديها، وأرى الذعر على وجه البشر بسبب العدالة التي لا تتحقق، أريد أن يصل هذا الألم إلى المشاهد، وهذا ما أعتقد أنني قد نجحت في جعله يتسرب إلى المشاهدين". المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي"



كيف يمكن لمخرج أن يضعنا كمشاهدين أمام احتمالات مقلقة حول الحياة؟ وإذا كان الألم أحد هذه الاحتمالات البارزة: أيتطلب الأمر منه واقعية متطرفة في أسلوبه الإخراجي أم أن الروح الابداعية السينمائية تجعله قادرا على الموازنة بين الواقع ورهافة الشاعرية في مشاهد أفلامه؟ لماذا السينما أصلا تملك المساحة الكافية للتعبير عن قلق ما؟ وما الحدود الفاصلة بين الانطباع الفني الجمالي، والقلق الفكري في السنيما المعاصرة ؟هل المخرج اليوم مدعو إلى وضعنا أمام مرآة مضبّبة لرؤية وجوهنا المتهجّمة مادام مستقبل البشرية يتجه نحو الهاوية؟ ختاما هل يمكن للقلق واللاطمأنينة من هذا الوجود أن يصير مادة سينمائية للاشتغال ؟

هذه الأسئلة وغيرها تفتح أمامنا عتبة اكتشاف أحد أبرز التجارب الإخراجية السينمائية العالمية، والتي عبرت عن رؤيتها الفكرية الحاملة لقلق أخلاقي للوجود والحياة، إنها تجربة المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي.



سيرة حياة المخرج كريستوف كايشلوفسكي:

إذا كان هناك عنوان مناسب لسيرة حياة المخرج كريستوف كياشلوفسكي، فإنه سيكون بالضبط "نبي السينما الحزين" . ولد كريستوف كايشلوفسكي في العاصمة البولندية وارسو عام 1941، لكنه عاش طفولة متقلبة ومرتحلة، إذ أنه نشأ في عدة مدن مختلفة متنقلاً مع والده المريض بمرض بالسل بحثاً عن العلاج. في السادسة عشر من عمره، توجه إلي مدرسة لتدريب رجال الإطفاء، لكنه تركها بعد ذلك غير عابئ بمستقبله المهني. وفي 1975 انضم إلي كلية لتخريج فنيي المسرح والتي كانت تُدار من قِبل أحد أقاربه، وخلال تلك المرحلة بالضبط قرر كايشلوفسكي أن يرهن حياته للفن، ولكن لعدم وجود تدريب معين لمخرجي المسرح، قرر مخرجنا دراسة السينما كخطوة مبدئية.

على المستوى المهني، فقد قرر المخرج كايشلوفسكي في مرحلة شبابه ترك الدراسة الجامعية، وعمل كخياط في المسرح، بعدها قدم طلباً للانضمام لمدرسة السينما بمدينة لودج، تلك المدرسة البولندية الشهيرة التي تضم مخرجين كبار من أمثال المخرج رومان بولانسكي وأندريه وايدا بين خريجيها، لكن طلبه قوبل بالرفض مرتين بسبب عدم تأديته الخدمة العسكرية الإجبارية في ذلك الوقت. وفي تلك الفترة بدأ دراسة الفن، واتبّع حمية شديدة لجعل جسده غير لائق طبياً للخدمة العسكرية، وذلك لأجل تقبل طلبه للتسجيل في تلك المدرسة السينمائية، هذه القصة اشتهر بها مخرجنا كنموذج للكفاح من أجل تحقيق طموحه الفني والسينمائي بالخصوص. وبعد أشهر قليلة تمكن كايشلوفكسي الشابمن تجنب الخدمة العسكرية ، ليقبل طلبه مباشرة للدراسة في مدرسة لودج للسينما بعد محاولته الثالثة.

درس كايشلوفسكي في المدرسة في الفترة من 1964 إلي 1968 وهي الفترة التي أتاحت فيها الحكومة البولندية قدراً كبيراً نسبياً من الحرية الفنية داخل المدرسة، وفيها اكتشف المخرج رغبته المائلة إلى صناعة الأفلام الوثائقية،ليقوم بعد ذلك مباشرة بإخراج أفلام وثائقية، من خلال اشتغاله وتركيزه على الحياة اليومية لشرائح المجتمع البولندي المختلفة، وعلى الرغم من عدم كونه مخرجاً سياسياً بشكلٍ مُعلن، إلا أنه سرعان ما وجد محاولاته لتصوير الحياة البولندية دافعا للصدام مع السلطات. الحكومية لبلده وأولى هذه الصدامات تجلت في فيلمه الوثائقي بعنوان عمال 71، والذي يدور حول مناقشات العمال عن الإضرابات الجماهيرية عام 1970 في بولندا، وفي هذه الفترة تم اعتبار المخرج كايشلوفسكى واحداً ضمن حركة حرة تُدعى سينما القلق الأخلاقى وهي حركة نشطت في السبعينات وكانت تضم مخرجين بولنديين في هذا الفترة ومنهم يانوش كيوفسكى، أندريه وايدا... وتسبب انتمائه إلى هذه الحركة إلى تعرض أفلامه للرقابة الحكومية، ويعد فيلمه "لا نهاية" عام 1984 هو أكثر أفلامه السياسية وضوحاً، والذي صوّر فيه واقعة المحاكمات السياسية في بولندا أثناء الأحكام العرفية. وفي عام 1988 قدم المخرج كايشلوفسكى مجموعة من الأفلام القصيرة، والمعروفة باسم "الوصايا العشرة"، وهي سلسلة مكونة من عشرة أفلام قصيرة تم تصويرها في أحد الأبراج السكنية بالعاصمة وارسو. بعد هذه المرحلة توجه مخرجنا إلى الانتاج الأجنبي، خاصة بعد استقراره بفرنسا، حيث كانت أفلامه الأربعة الأخيرة من إنتاج أجنبي مشترك، بتمويل رئيسى من فرنسا، وكانت هذه الأفلام ترتكز في تيمتها على قضايا أخلاقية وميتافيزيقية، وأشهرها ثلاثيته المعروفة، "أزرق"، "أبيض"، "أحمر"، وقد حصلت تلك الثلاثية على مجموعة من الجوائز العالمية المرموقة ومنها جائزة الأسد الذهبى لأحسن فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي، وجائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي، بالإضافة إلى ثلاثة ترشيحات لجائزة الأوسكار العالمية.

اعتزل كايشلوفسكى صناعة الأفلام في تصريح رسمى بعد العرض الأول لفيلمه الأخير من ثلاثية الألوان "أحمر" في مهرجان كان السينمائي عام 1994، وبعد أقل من عامين من إعلان اعتزاله توفى كيشلوفسكى في 13 مارس 1996، عن عمر يناهز الـ 55 أثناء جراحة القلب المفتوح إثر إصابته بأزمة قلبية ودُفن في مقابر بوفيزكي الشهيرة في وارسو.



أسلوب إخراجي بملامح قلق الأنبياء:

تحمل رؤية المخرج كايشلوفسكي، في كل أفلامه بشكل عام ما يمكن أن نسيمها قلق ما، كتعبير صريح لرؤيته للوجود، رؤية فلسفية طوع فيها كل عناصر صناعة الفيلم من طريقة تصوير، إلى الحوارات، مرورا بالشخصيات، وكذا الموسيقى التصويرية، فكل من شاهد أفلامه سيكتشف هذا القلق الذي يسير بسرد ثقيل في قصص أفلامه، قصص مختلفة وأحداث متنوعة لكنها كلها تتجه في اتجاه التعبير على أن السينما كفن من أدواره الحقيقية وضع المشاهد أمام حقيقة هذا العالم والوجود، حقيقة تنبئ على مستقبل مبهم، فكيف عبر مخرجنا عن هذه الرؤية المقلقة في أفلامه ؟

في الحقيقة يقودنا هذا السؤال، إلى الحديث عن أسلوب هذا المخرج، واعتبارا لذلك فإنه من وجهة نظرنا المتواضعة، من المفروض العمل على عرض هذا الأسلوب وارتباطا بأهم أعماله السينمائية.

إن أهم ما يميز أسلوب كايشلوفسكي الإخراجي، هو امتلاكه لعين فريدة للفن، تنظر إلى السينما كرسالة فكرية، وفي ذلك ليس تنقيص لأهمية الجانب التقني في التعبير، لكنه اعطاء للجانب الفكري مساحتهالكافية في هذه الرؤية، أما على المستوى التقني فقد حاول تقديم المطلوب بدون تكلف لا على مستوى التصوير أو التوضيب أو حتى اعتماد موسيقي تصويرية تعبيرا للرؤية الفنية. لقد اعتمد مخرجنا لنحت ملامح رؤيته القلقة على تقديم حياته وحياة الآخرين من زاويته الخاصة، فجل أفلامه سواء الروائية الطويلة أو أفلامه القصيرة، نحس بأن كاميرته تراقب حياة الناس، ومعه نكتشف أنفسنا نحن المشاهدين رويدا رويدا، وخلال التقدم في أحداث أفلامه، نحس أننا نتلصص بشكل مقلق على حياة شخوص أعماله، فكل أبطال أفلامه تتقاطع فيهم هذه النقطة، أبطال يحاولون إخفاء قلق ما، لكن مع طريقة تقديمهم لنا نكتشف هذا القلق والحيرة من خلال ملامح كثيرة، من حوارات وحركة حتى من نأمات جباههم، ولأجل ذلك غالبا ما يركز المخرج كايشلوفسكي، على التصوير بكاميرة واحدة، تصور لقطات قريبة، خاصة في لحظة الانفعال الدرامي، وفي هذه بالضبط نعرف قدرة هذا المخرج في تتبع ومراقبة شخوص أفلامه بشكل دقيق، ويعزي البعض هذه القدرة الاستثنائية على تجربته الكبيرة في مجال صناعة الأفلام الوثائقية، فليس من السهل بطبيعة الحال أن تقدم شخصيات أفلامك بتلك التدقيق دون السقوط في التحقيق الوثائقي.

إن حرفية مخرجنا بوّأته مكانة في عمله جعلته قادرا على الوقوف بأسلوبه هذا بين الحكي السرد الفني والتوثيق الواقعي، وهي قدرة يتمتع بها كبار المخرجين السينمائيين، ولعل أبرزهم المخرج الايراني الكبير عباس كيرستامي، والتي قدمها في فيلمه الرائع "CLOSE UP".

لقد قدم المخرج كايشلوفسكي هذه الرؤية الإخراجية في جل أفلامه وذلك باعتماده المبهر في التصوير على ما يسمى باللقطات الايحائية كمجال بصري، ثم كذلك التوظيف السمعي الرائع للموسيقى الشعرية لإضفاء رهافة عميقة لمشاهده السينمائية. إن هذه القدرة التعبيرية الفنية، هي أول ملاحظة أبهرتنا في أسلوب هذا البولندي، إضافة إلى هذا فمخرجنا معروف عليه أنه اعتاد كثيرا على استخدام نفس الممثلين في أدوار رئيسية في أفلامه، وهذا الأمر تكرر أكثر من مرة، خاصة في فيلم «لا نهاية» و سلسلته الشهيرة «الوصايا العشرة»، مما يعطي إلى حد ما للمشاهد قدرة على فهم الوضعيات الحرجة والمقلقة التي تتفاعل مع نفس الشخصية بالرغم من تغير الفيلم وموضوع قصته.

في جانب آخر وأساسي، وفي محور السرد، يبدو أن أسلوب المخرج كايشلوفسكي يمتاز بطريقة لولبية في سرد قصص أفلامه، فهو يحاول في كل أفلامه التدرج البطيء في بناء أحداثها، طريقة سردية فريدة خاصة به، تتشابه كثيرا مع السرد الروائي للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، خاصة في رواياته المعروفة مثل "حفلة التفاهة"، وكذلك كائن لا تحتمل خفته. يعتمد إذن المخرج كيشلوفسكي في هذا الجانب على وضعنا منذ المشهد الأول أمام احتمالات كثيرا لقصة فيلمه، ومع تقدم الأحداث نحس بأنه يرافقنا إلى المحور الدرامي لقصته، لكن كما قلنا بشكل بطيء وعلى مهل مانحا الفرصة لكل عناصر البناء الدرامي وقتا كافيا للتعبير، من خلال طبيعة الصورة الموظفة، وكذا الحوارات والموسيقى التصويرية، إن ميزة هذا الأسلوب تتمثل في التسلسل المحكم للأحداث المعقدة داخل أي فيلم، وذلك بالتوازي مع تفاعلات الشخصيات، وكلما دنونا من حبكة أحد أفلامه، كلما زادت نسبة تفاعل شخصيات الفيلم، خاصة المحورية منها.

أما الجانب الأخير، والذي يبقى كذلك أساسي من هذا الأسلوب، اختياره العمل ضمن مشروع سينمائي، قد يمتد إلى أكثر من فيلم، فكل من شاهد أفلام هذا المخرج سيحس بتيمة التوجس والقلق من الحياة تتقاطع في جميع أفلامه، رغم اختلاف نوعها وقصصها وأحداثها، وفي هذا الاتجاه، فقد اشتهر المخرج البولندي كيشلوفسكي بسلسلته الرائعة "الوصايا العشر"، وهي سلسلة تتكون من 10 أفلام قصيرة من إنتاج التلفزيون البولندي، تطرح تيمات مختلفة بمواضيع أخلاقية وميتافيزيقية، صورت كلها في مكان واحد، وهو أحد المجمعات السكنية بالعاصمة وارسو، هذه السلسلة تعد اليوم مرجعا سينمائيا لأهم عمل عميق فكري أنتج في تاريخ السينما،، إذ حازت النسخ السينمائية لبعض حلقاتها على العديد من الجوائز العالمية لدرجة أن المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك اعتبرها "أفضل شيء قد يراه الإنسان" بل يصفها البعض مذهبا سينمائيا.

إلى جانب هذا المشروع التلفزي، نستحضر كذلك أخر أعماله السينمائية، وهي ثلاثيته الشهيرة: "أزرق"، و"أبيض"، و"أحمر"، والتي أخرجها في بحر تسعينات القرن الماضي، هي ثلاثة أفلام بعناوين ألوان العلم الفرنسي، إشارة ربما إلى مبادئ الثورة الفرنسية المعروفة: الحرية والمساوة والإخاء. أفلام هذه الثلاثية عبرت عن نضج سينمائي كبير لهذا المخرج، وقد لقيت نجاحا تجاريا ونقديا كبيرين مقارنة مع أفلامه السابقة.


على سبيل الختام:

إن كان لابد من الحديث عن خلاصة لموضوع الحديث عن تجربة إخراجية عالمية، فإن الحديث عن تجربة المخرج البولندي الكبير كريستوف كيشلوفسكي لا يمكن اختصارها، بل قد تكون من التجارب الإخراجية القليلة التي لا تحتاج إلى من يقدمها، فإرث هذا المخرج الكبير، وعلى رغم قصر رحلته في الحياة، إلا أنه غني وفريد برؤية فكرية عميقة، إذ وصل عدد أعماله الإخراجية بين التلفزيونية والسينمائية والوثائقية إلى 41 عملا، ومن خلالها وعبرها ترك لعشاق ومهنيي الفن السابع أسلوبا إخراجيا فريدا وموشوما بعمق رؤيته للحياة، وهذا يظهر بوضوح في تأثيره الكبير على العديد من صناع الأفلام والذي اتبعوا نمط كايشلوفسكي في إخراج وصناعة أفلامهم.


المخرج كريستوف كيشلوفسكي: نبي السينما الحزين

نورالدين البكراوي

Comments
    NameEmailMessage