عاطف معاوية -شاعر مغربي
على خطّ النهاية أفكرُ في كل الماضي، في البرد الذي يغرس فينا أصابعه ويترك في أفواهنا غيمات من دخان القلب؛ القلب الذي يحترق!
كم تبدو الحياة سريعة الآن، صرنا أكبر وأصغر، صرنا عمراً طويلا وحلما صغيرا ..
المرايا الصغيرة التي كنا نضحك فيها على فراغ أسناننا المكسورة لا تتذكرنا والمرايا الجديدة توقظُ الندم بداخلنا
ونبكي .. كأنها للتو كانت ولادتنا.
نصرخ ونصرخ والمرايا هي هي لا تتذكرننا ..!
أطفئُ الليل بداخلي دون أن يلتفت لي.
لا أحدَ يخرج يده للوداع،
فقط نافذة بعيدة يشع منها ضوء تلويحة تمضي ..
لا أجازف في الشعر
حينما أقطف زهرة تُخرج عطرها في غيابِ الماء
لا أجازف في الحب
فالنساء غالبا في الليل
يُطْفِئْنَ خيط الشهوة
في الليلِ أفتح النوافذ
لأرى كم هو منسيٌ هذا القمر الوحيد،
يطلُّ، يتسكعُ في شارع طويل بلا أثقال العمر
بلا مواعيد
يكبرُ من جرح،
يرافقنا حين تَنفلتُ منا الأماكن
لنصحو على صورته بذكرى
تُشذِّبُ
أحلامنا
لنكون في عزلتنا الأكثر وضوحا وندما
في المقهى
لا يعرفني أحد
أخرج من لساني عطشا
ودخانا باردا كلما مرت من أمامي
أحلامي المنسيةُ بتَنانِيرَ قصيرةٍ
لستُ غريبا عنها لكنها لا تعانقني
لتنبت فيَّ رجلا أخراً
يجيد الغزل ومديح الربيع
لتنبت رجلا
يحبُ صوت الكناري والجثارة، يحب ثرثارة النساء
ومساء الأحد العاطل عن الحياة
رجلا يشعلُ في ذاكرته شموعا
لكل النساء اللواتِي أَحَبَّهُنّ
ويحب صوت الموت الذي قطع من عمره أجنحة للخلود
خلف باب موارب لبيتٍ لا يسكنه أحد.
رجلا
يمدد غفلته عن الحب لتعشش فيه الوحدة
والفوضى
ويهربُ المساءُ سريعا
كظل مدينةٍ خالية من أجراس الكنائس
في القطار
لا يطيلون الحديث عن النسيان
أجلس متأملا
جدران أشجار طويلة تسرع الخطى
لكي لا تذبل
من ذكرى السفر،
وتزيحُ عني وجوه العابرين
في القطار
لم أرَ الرياح تتطاير كما النجوم
لم أرَ عصفورا يدرب غيمة على الوقوف
فوق غصن اللحظات ..
في القطار كنتُ وحيدا أهيّئُ قلبي اليابسِ
لحادثة النسيان
لا أراهن الآن بعدما وصلتُ الثلاثين
إلاّ عامين
أن أحيا طويلاً
أو أن أموتَ منتحراً
في قصيدة توضبُ اسمي
كقطعة ناذرة أخيرة
سقطت مني تحت القصيدة،
لا أراهن عن الحياة
كما لم أراهن يوما عن كتابة القصيدة
كل ما أراهن عنه
هو أنني حتى هذه اللحظة
لازلت أذكر اسمي كاملاً
وأذكر أحلامي التي سقطت من فمي خفيفة، عارية
أذكر كل هزائمي
وحظي الخاسر في الحب
في الفرح، في السفر والغناء.
أذكر كل الأشياء التي سرقتني مني
بصوت خافتٍ
وأعلقها بشبابيكٍ خشبيةٍ
يسحبها الخريف
كما تَسحبُ الحربُ
بهدوءٍ
جنودها إلى موتهم المنسيِّ بألوان الوطن