JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

 


الصفحة الرئيسية

العقل يحاكم نفسه: من ميتافيزيقا التحكم إلى التحكم الميتافيزيقي في العالم

 

ذ. أحمد الشبلي


نشأت الحداثة لما استبدلت أوربا سلطة النص بسلطة العقل، فصار هذا الأخير مُؤسّس المبنى و المعنى، فتحول من مَلَكة إلى مبدأ، فبدأت بذلك دائرة المعقولية تتسع لتشمل أكبر عدد ممكن من المجالات. وهذا ما يفسر انشغال الفلسفة الحديثة بتحليل و فحص و نقد العقل. فبدء من "مقال في المنهج لحسن قيادة العقل" لديكارت(1596-1650)، و "رسالة في إصلاح العقل " لسبينوزا( 1632-1677)، مرورا ب " محاولة للفهم البشري" لجون لوك (1632- 1706)، و "أبحاث جديدة في الفهم البشري" ليبنتز(1646- 1716)، و"تحقيق في الذهن البشري" لهيوم ( 1711-1776) و انتهاء ب"نقد العقل المحض" لكانط. هذه النصوص بالرغم من اختلاف مرجعيات تحليلها، إلا أنها تشترك في رهان الإعداد المنهجي للعقل ليغزو العالم و ينزع عنه – بلغة ماكس فيبر- القداسة التي ألصقت به لقرون، لتتأسس بذلك الحداثة على خمس قيم أساسية:

1. الفردانية بما هي نزع للقداسة عن القبيلة و العشيرة؛

2. الديموقراطية باعتبارها نزع للقداسة عن الحاكم و جعل التدبير السياسي شأن إنساني خالص؛

3. العَلمانية بما هي نزع للقداسة عن السلطة الدينية و تحرير العلم و العقل من سلطة النص؛

4. التقدم باعتباره نزع للقداسة عن الماضي و التراث، و تمجيد للعقل و المستقبل؛

5. العلم بما هو نزع للقداسة عن الطبيعة و استبدال الفهم الغائي لها بالتفسير السببي.

بالرغم من أهمية جميع هذه القيم التي كان لها تأثير عميق على الوعي الإنساني- حيث خلصته من الوصاية التي كانت تكبله و تحد من حريته و فاعليته- إلا أننا سنوجه تحليلنا في هذه الورقة إلى قيمة العلم مبينين أساسه الميتافيزيقي ونتائجه التقنية الأكثر جذرية.

إن العلم الحديث لم يكن مجرد قوانين آلية تفسر ظواهر الطبيعة تفسيرا سببيا، بل تأسس منذ البدء على أساس ميتافيزيقي. يتجلى هذا الأساس في جعل العالَم خاضعا للإرادة الإنسانية بما هي إرادة سيطرة و تحكم في الكائن. ولعل التحليلات الفينومينولوجية التي قدمها هايدجرHeidegger لعلم الطبيعة الحديث بينت أساسه التقني. و التقنية هنا ليست مجرد تطبيق عملي للعلم، بل إنها الخلفية التي وجهت العلم الحديث منذ نشأته، لأن رهانه كان منذ البدء تملك الكائن و السيطرة عليه من خلال تكميمه رياضيا و التعبير عنه صوريا. وهذا في عمقه نمط تقني للفكر. و عندما صرح ديكارت في القسم السادس من مقاله في المنهج بأن هدف العلم " أن يجعلنا سادة على الطبيعة ممتلكين لها" فهو كان في الحقيقة يعبر عن توجه عصر بأكمله.

ما نريد التنبيه إليه هنا هو أن العلم بالضرورة تؤطره رؤية ميتافيزيقية للعالم. فدعوة ديكارت إلى تملك الطبيعة نجد أساسها الميتافيزيقي في كتابه "تأملات في الفلسفة الأولى"، لما جعل "الأنا أفكر" "مبدأ أول للفسفة" ليكون منطلقا لتأسيس ثنائية الفكر و المادة .فالفكر غير ممتد و المادة غير مفكرة. فهو فاعل و هي عاطلة، مما يسمح لنا بالتعامل معها بشكل آلي. وهذا ما يعبر عنه كانطE.kant كذلك بقوله: " على العقل أن يتقدم بمبادئ أحكامه وفقا لقوانين ثابتة، و يرغم الطبيعة على الإجابة عن أسئلته... ليس بصفة تلميذ يتقبل كل ما يريده المعلم، بل بصفة قاض يحث الشهود على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليهم."[1] وكانط بذلك كان المعبر الأصيل عن ميتافيزيقا العصر الحديث، بما هي ميتافيزيقا التحكم المؤسسة على مبدأ العقلانية.

هكذا فالعقل الحديث عقل حسابي كمي، يسعى إلى جعل الكائن تحت السيطرة و في متناول الحساب و الضبط. وبهذه الفكرة تحددت- كما يقول هايدجر- معالم العصر الحديث.[2] فبدأت ميتافيزيقا التحكم المؤسسة على تأويل معين للفكر . وعندما نقول "ميتافزيقا" فإننا نستعملها هنا بمعناها الأصيل بما هي بحث في "العلل و المبادئ الأولى للوجود". فإذا كانت الرياضيات مثلا تدرس الكائن بوصفه "كما" و الفيزياء تدرسه ك"حركة" وعلم الحياة ك"نمو"، فإن الميتافيزيقا تدرس الكائن "في كليته"، لتضع المبادئ الأولى التي تجعل فهم الكائن وتفسيره أمرا ممكنا. ولعل هذا ما جعل ديكارت يعرف الفلسفة في كتابه " مبادئ الفلسفة"، بالقول: "الفلسفة بأسرها شجرة جذورها الميتافيزيقا و جذها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية، هي الطب و الميكانيكا و الأخلاق"[3]. هكذا فالميتافيزيقا هي التي تضع المبادئ الأولى لباقي العلوم الأخرى، من هنا كان مبدأ العقلانية، الذي تأسست عليه الحداثة، مبدأ ميتافيزيقيا تغذت منه جميع المجالات وصار أحد أسسها.

لكن النقد المعاصر لهذا المبدأ الميتافيزيقي بيّن أنه تأسس على تأويل معين للعقل، بحيث تم التركيز بلغة هابرماس Habermas على "العقل الأداتي"، الذي لا رهان له غير السيطرة و التحكم ليس فقط في الطبيعة التي يتم التعامل معها ك"أرصدة" قابلة للاستهلاك، بل كذلك في الإنسان. فالتأويل الأداتي للعقل اكتسح حتى العلوم الإنسانية فصارت هي الأخرى تتعامل مع الإنسان كما لو كان "شيئا" أو "رقما". هكذا أُفرغ الإنسان من عمقه الإنساني، فصار مبنى بدون معنى.

إن هذا المسار الذي قطعته الإنسانية منذ فجر العصر الحديث، حيث أسست فهمها لذاتها على ميتافيزيقا التحكم المؤسسة بدورها على تأويل تقني للعقل، جعلنا نسير اليوم إلى عصر تقني خالص. وكأنه ما كان خفيا في بداية العلم الحديث صار الآن علنيا. إن عصرنا ما هو إلا ميتافيزيقا العصر الحديث وقد أكملت تحققها؛ لأننا بلغة جاك إيليل J.Ellul لم نعد نعيش في بيئة طبيعية بل في بيئة مشبعة بالتقنية، بيئة ثانية للإنسان.[4] و التقنية هنا ليس بمعناها الأداتي ، بل باعتبارها نمط جديد من التفكير يقترح علينا كيفية غير أصيلة للوجود سواء مع الذات أو مع الآخر. و يمكننا أن نعود هنا إلى التمييز الذي يقيمه هايدجر بين التقنية و "ماهية التقنية"، إذ أن ماهية التقنية "ليست أبدا شيئا تقنيا"[5]. فنحن في الغالب نفكر في التقنية من خلال بعدها المادي دون أن ننتبه إلى أن ماهية التقنية في عمقها ميتافيزيقا، بل إنها بلغة هايدجر "الميتافيزيقا في شكلها المكتمل"[6]. بمعنى أننا لم نعد نعش بجانب التقنية باعتبارها عنصرا مساعدا لنا، بل صارت تشكل جزء من ماهيتنا. و بالفعل فالتقنية صارت تتملك الإنسان وتوجه تفكيره و تتحكم في أذواقه و ميولاته، والأدهى من ذلك أنها لا تحقق لنا ما تعدنا به. فالتقنية وعدتنا بتقليص المسافات في الزمان و المكان بهدف تحقيق أكبر قدر من التواصل بين الذوات، لكن تقليص المسافة لم يؤد إلى التواصل بما هو "قرب أنطولوجي" ، بل حقق لنا الاتصال باعتباره "قرب رقمي".

هكذا لم يكن قول هايدجر بأن التقنية "قدر العصر" وصفا مبالغا فيه، بقدر ما كان ضربا من الاستشعار القبلي و الحدس الفلسفي المؤَسس على نظر عميق في جذور الوعي الأوربي الذي مكنه من التعبير عن روح عصره، بما هو عصري تقني بامتياز. هذه الفكرة تجد الآن تجسيدها الفعلي والجلي في مشروع " ميتافيرس"Metaverse ، باعتباره عالما رقميا سيتيح للأشخاص التواصل و العمل و اللعب ك"أفاتار" Avatar. و سننتقل من الإنسان ك"شيء" إلى الإنسان ك"أفاتار"، في اللحظة التي يصبح فيها العالم الرقمي عالمه الحقيقي، ليستمد معناه ليس من وجوده الفعلي بل من وجوده "الافتراضي". ومكمن الخطر هنا ليس في أن يصير العالم الرقمي موازيا للعالم الواقعي، بل في أن يصير ال"ميتافيرس" موجها ومتحكما في ال"فيرس". لتصبح علاقة الإنسان بذاته أو بالآخر تستمد مبادئها و قواعدها من ما سيفرضه العالم الرقمي من عوالم ممكنة جديدة، لنلج بذلك بشكل فعلي إلى عصر"التحكم الميتافيزيقي في العالم"،حيث تصير ال"ميتا" تقود و تتحكم في ال"فيرس"، بناء على "مبادئها الميتافيزيقية الأولى" التي حتما ستوجه الإنسانية نحو نموذج جديد من المعقولية.






[1] إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، ص 33


[2] Martin Heidegger, Nietzsche tome 2,traduit par Pierre Klossowski, Gallimard 1971, p 134


[3] روني ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة، القاهرة 1975، ص 43


[4] J.Ellul, le système technique, in : le monde modèle occidental, PUF, 1977, paris, p 113


[5] مارتن هايدجر، التقنية، الحقيقة، الوجود، ترجمة محمد سبيلا و عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995، ص 44


[6] Martin Heidegger, dépassement de la métaphysique, in : essais et conférences, Gallimard 1958, p 97
العقل يحاكم نفسه: من ميتافيزيقا التحكم إلى التحكم الميتافيزيقي في العالم

نورالدين البكراوي

تعليقات
    الاسمبريد إلكترونيرسالة