ياسين الحراق
شاعر وباحث
غالبا ما تعبّر الهجرة عن حركة الأفراد وتنقّلهم من موطنهم الأصلي، إلى الاستقرار في مكان آخر مستقبل بحثا عن معايير حياة أفضل.
فقد شهد التاريخ الإنساني هجرات شعوب كثيرة، بعضها كان سببا في نشوء الحضارة كما هو الحال بالنسبة لحضارتي بلاد النهرين ومصر القديمة.
فقد شهد التاريخ الإنساني هجرات شعوب كثيرة، بعضها كان سببا في نشوء الحضارة كما هو الحال بالنسبة لحضارتي بلاد النهرين ومصر القديمة.
كما أن الأسباب المفضية إلى هذه الهجرات متباينة وليست وثيقة الصلة بالعامل الطبيعي فقط. ما دام التاريخ يقدم تفاصيل دقيقة حول ماهيتها فيربطها بعوامل بيئية واجتماعية وعسكرية وثقافية وسياسية، وفي الوقت نفسه يحيلنا على الأطوار الناتجة عنها.
فإذا كان الماء سببا مباشرا في توافد الشعوب السامية من الأكاديين والبابليين والآموريين إلى بلاد الرافدين بالعراق ما أدى إلى نشوء الحضارة الإنسانية؛ فإن حدث سقوط القسطنطينية عام 1453م على يد العثمانيين، غدا مفتاحا للتحولات التي تعاقبت على إيطاليا عقب الهجرات النوعية التي طرأت عليها بتوافد مهاجرين بيزنطيين ينتمون إلى فئة النخبة من الكتاب والنحاة والرسامين والشعراء والموسيقيين والمهندسين والإنسانيين والناشرين والمحاضرين فضلا عن علماء الفلك والمعماريين والفنانين والفلاسفة والسياسيين وعلماء الدين. الذين قدموا إلى إيطاليا حاملين معهم أمهات الكتب والأعمال فضلا عن منجزاتهم وكان ذلك سببا في قيام نهضة إيطاليا ومن تمت نهضة أوربا ثم الانتقال نحو نهضة إنسانية شاملة.
إن هذه التحولات الاستراتيجية، تدفعنا نحو التساؤل عن الهجرات التي عرفها المغرب وآثارها على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
فحسب الببليوغرافيا التاريخية، نجد أن التاريخ المسجل للمغرب يبدأ مع الاحتلالين الفينيقي والقرطاجي. لذلك يذهب الدكتور مصطفى غطيس إلى اعتبار نص رحلة حانون القرطاجي (حوالي 520 ق.م) التي كان الهدف الرئيسي منها تأسيس مراكز تجارية على السواحل الأطلسية للمغرب القديم، بمثابة شهادة ميلاد لتاريخ المغرب. كما أن النتف التاريخية تبرز دور العنصرين الفينيقي والقرطاجي في انقلاب حياة السكان إثر احتكاكهم بهؤلاء الوافدين الجدد. حيث تعلموا لغتهم وعاداتهم ومهاراتهم الحرفية والصناعية كتصبير الأمازيغ للسمك بالسواحل الأطلسية.
وبعد الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، بدأت الهجرات العربية تتوافد على المغرب. غير أن أهم الهجرات مثلتها قبائل بنو هلال وبنو معقل. ويبدو أن أثار هذه الهجرة كان أكثر قتامة على السكان المحليين يقول ابن خلدون في كتاب العبر -الجزء الأول- عبر باب "الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب": "لما جاز بنو هلال وبنو سليم إلى أفريقية والمغرب منذ أول المئة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمئة وخمسين سنة، فقد لحق بها وعادت بسائطها خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمَدر".
فلم تمارس هذه القبائل في استقرارها سوى الرعي و الظعن بالمواشي في اتجاه الكلأ والمراعي إلى أن أتيحت لها الفرصة للظهور على الساحة السياسية فزادتها انقساما وتفككا. خاصة وأن هذه القبائل حملت معها ثقافة بدوية تقوم على الغزو والنهب بين الفينة والأخرى، وضمن هذه البقع السوداء خلفت قبائل بنو هلال وبنو معقل تراثا موسيقيا وفلكلوريا غني ما زال قائما إلى اليوم وهو ما ينعكس في موسيقى الشاوية ودكالة.
ومع مستهل القرن 19م، تعاقبت على المغرب هجرات الأسر الجزائرية يدفعها إلى ذلك الاجتياح الفرنسي للإيالة العثمانية بغرب إفريقيا سنة 1830، حيث استقرت بالمناطق الشمالية للمغرب. وحمل هذا الاستقرار تبعات خطيرة على المسار التاريخي للدولة الشريفة خلال القرن 19 بعد أن غدت هذه الأسر عنصرا نشيطا في افتعال النزاعات الحدودية عبر مساهمتها في إذكاء النزاع بين المغرب والمستعمرة الجزائرية مغلفة تدخلها بغلاف ديني. ويتمثل ذلك في بيعة أهل تلمسان لسلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام سنة 1830 بعد أن أقنعو السلطان بمعية نخبة من فقهاء المغرب والجزائر بقبولها بعدما لاحظوا عدم تحمسه للمبايعة.
ويبدو أن عبد الرحمن بن هشام، كان مدركا للأبعاد المترتبة عن بيعة سكان تلمسان، فبالنسبة إليه ليست سوى مناورة جزائرية تحاول التخلص من التبعية للعثمانيين، ومن التبعية للاحتلال الفرنسي الآخذ في التوغل تدريجيا نحو الغرب بعد نجاحه في الاستيلاء على معظم السواحل الجزائرية عبر تبنيها لأسلوب المقاومة بدفع المغرب إلى الانخراط المباشر في معتركها، حيث يخشى المغرب من عدم قدرة هذه القبائل المبايعة على الانضباط أو الوعي بالعواقب بفعل حماسها اللامحدود. وفي الوقت نفسه كانت مناورة تستهدف البحث عن الاستقرار عقب تنامي مظاهر الفوضى والاضطراب والسلب والنهب بين القبائل الجزائرية.
وهكذا انخرط المغرب في دعم المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، لكنها سرعان ما تنصلت منه فانتهت بترك المغرب يواجه مصيره وحيدا في حرب غير متكافئة ضد فرنسا في موضع إيسلي سنة 1844م.
وخارج الحيز السياسي والعسكري، لم تستطع الأسر الجزائرية المستقرة بالمغرب أن تبرز ككيان اجتماعي فاعل في المنظومة الاجتماعية للمغرب ويفسر ذلك بطبعة المجتمع الجزائري المرتبط بالأرض، ومن تمت لم تتوفر فيه من الإمكانيات ما يكفي لوضع خلق ثقافي أو تفرد اقتصادي، وبسبب وقوعه ضمن مشروع التوسعات العثمانية التي لم تستثمر العنصر البشري الجزائري ولم توليه أي اهتمام في مشروع البناء الحضاري للإمبراطورية العثمانية.
كما أن ظاهرة التنقل بين الجزائر والمغرب، اتسمت بصبغة الإكراه المرتبط بتبعات التهجير القسري، وهو تهجير استهدف في الغالب الفئات السكانية الهشة التي لم تقبل الاستسلام للواقع الكولونيالي، فاختارت الهجرة نحو المغرب بديلا عن سوء حال واقعها. وهي عوامل انعكست سلبا على المغرب ما جعل الهجرات الجزائرية الأولى تشكل عبئا إضافية على الدولة المغربية الشريفة. ويمكن استخلاص هذا العبء من خلال الرسالة السلطانية التي بعثها السلطان عبد الرحمن بن هشام إلى قائد مدينة طنجة يأمره فيها بحسن استقبال ومعاملة الأسر الجزائرية المتوافدة على مدينة تطوان وتخصيص إعانات مالية لمساعدتهم على الاستقرار والاندماج. حتى أنه أمره بتخصيص ملبس تقليدي للوافدين على مدينة تطوان حسب المؤرخ محمد داوود في مؤلف تاريخ تطوان " نأمر خذمينا عبد الرحمان أشعاش أن يدفع لخيل أهل تطوان الواردين من حضرتنا قفطان ملف، لكل واحد منهم".
ويدعم صاحب مؤلف المغرب عبر التاريخ ما جاء في الرسالة السلطانية حول الانتماء الطبقي للأسر الجزائرية، معتبرا أن معظم هذه الأسر لا تملك من المقومات ما يؤهلها على بلورة نسق مهني أو ثقافي أو سياسي سواء داخل الحيز الجغرافي لاستقرارها، أو حتى خارجه " فلما كانت تطوان قد استقبلت أكبر عدد منهم قبل أن توزعهم على مراكز أخرى. فقد كان مهاجروها موضع عناية خاصة، لأن كثيرا منهم فقراء ولا حرفة لديهم".
ولعل أهم ما يمكن استنتاجه من خلال دراستنا حول السكان الوافدين على المغرب الأقصى، هو اختلاف أنماط التأثير تبعا لكل فئة. فغالبا ما عدت الهجرة محركا أساسيا للحضارة وعاملا من عوامل بنائها، غير أن تاريخ المغرب تميز بازدواجية قائمة على ثنائية الهدم والبناء؛ فإذا كانت الهجرات الفينيقية والقرطاجية والموريسكية وكذلك الهجرات العربية الأولى، قد أفضت إلى تحقيق امتزاج وتلاقح بين الثقافات في المغرب الأقصى، فإن الهجرات العربية أواخر العصر الوسيط والحديث والتي مثلتها قبائل بني هلال وبني معقل ثم الهجرات الإفريقية والجزائرية، كانت أقرب إلى الهدم منها إلى البناء حيث لم تمتلك من مقومات التأثير ما يؤهلها نحو وضع تفرد إيجابي داخل خريطة الحضارة المغربية.