د. يوسف مدني - أستاذ زائر بكلية الحقوق بطنجة
في الحقيقة يجب أن أشير في البداية إلى كون هذه المداخلة بهذا العنوان الذي يحمل اسم: "حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ الصحية"[1]، كان مقررا في برنامج الملتقى العلمي للسنة الفائتة والذي كان مقررا بتاريخ 13 مارس 2020، ونظرا للظروف الذي فرضتها الجائحة فقد ثم تعليق أشغال الملتقى كما يعلم الجميع. لذلك كنت أود أن أشير في بداية هذه المداخلة إلى مسألة أساسية وهي أننا كنا نود مناقشة مسألة حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ الصحية قبل فرضها بشكل رسمي من قبل الحكومة وذلك من خلال استشراف يمكن أن يقع من تقييد للحقوق والحريات الفردية والجماعية في الصين وبالخصوص في إقليم وهان مركز تفشي الجائحة من حظر التجول وحجر صحي وكن نظن أننا بعيدين كل البعد عن هذه الممارسة المرتبطة بدولة الصين.
لذلك فإن مداخلتنا السابقة كانت ستكون مبنية على ملاحظات وتصورات استشرافية فقط لما يمكن أن تقدم عليه الدول والحكومات لمواجهة الجائحة وتأثير ذلك على حقوق الإنسان ومحاولة خلق نقاش حول هذا التأثير بالاستناد على المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين.
أما اليوم فقد تغير كل شيء وأصبحت حالة الطوارئ الصحية حالة واقعية وقانونية نعيشها يوميا كل ما فرضته علينا إجراءات وتأثيرات ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا لذلك ارتأيت أن تكون مداخلتي اليوم مرتبطة بشكل أكثر بالقيود التي فرضتها حالة الطوارئ الصحية على بعض الحقوق والحريات الفردية والجماعية. وفي مقدمة هذه الحقوق الحق في حرية التنقل داخل وخارج البلد.
لكن قبل التطرق إلى مناقشة هذا الحق لا بد من تسليط الضوء على بعض النقاط والملاحظات القانونية والدستورية على حالة الطوارئ الصحية.
ففي ما لا شك فيه أن أي مجتمع قد يمر بظروف خاصة أو استثنائية تهدد السير العادي للمؤسسات الدستورية أو قد تشكل تهديدا للنظام العام بأبعاد الثلاثة: الأمن العام، السكينة العامة، والصحة العامة، وبالتالي تكون هناك الحاجة لاتخاذ تدابير استعجالية وغير مألوفة، انطلاقا من القاعدة الرومانية المعروفة بأن "سلامة الشعب فوق القانون"
وفي المقابل يجب أن يكون تطبيق هذه التدابير والإجراءات الاستثنائية في أضيق نطاق، تفاديا لاستغلال هذا الهامش الضيق من طرف السلطات بشكل سيء والتوسع في التضييق على الحقوق والحريات، التي هي الأصل. ومن بين الشروط التي يجب ان تخضع لها هذا التدابير الاستثنائية نذكر ما يلي:
· أولا ـ حالة الضرورة: فلا بد من وجود ضرورة معبر عنها بشكل رسمي.
· ثانيا ـ الغاية: لا بد أن يكون وراء إقرار هذه الحالة مصلحة عامة.
· ثالثا ـ المدة: لا بد أن يكون إقرار هذه الحالة لمدة مؤقتة وليست دائمة.
· رابعا ـ التناسب: لا بد من تطبيق هذه الاستثناءات في أضيق نطاق وبدون إفراط وبشكل متناسب مع ما تتطلبه الضرورة.
· خامسا ـ التقييد بدون تضييق أو خرق.
· سادسا ـ المساواة: يجب أن لا تنطوي هذه التدابير الاستثنائية على طابع تمييزي بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.
· سابعا ـ التعليل: لا بد من بيان الأسباب والإعلان عنها رسميا.
· ثامنا ـ التنصيص القانوني: ويبقى أهم الشروط هي ضرورة التنصيص على هذه التدابير الاستثنائية في القانون.
· تاسعا ـ استثناء بعض الحقوق: فرغم إقرار هذه الحالة فإنه يستثنى بعض الحقوق والحريات نهائيا من التقييد، مثل الحق في الحياة، التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة من الكرامة على وجه الخصوص، حرية الفكر والوجدان والدين.
وبالرجوع إلى تدبير الطوارئ الصحية في النظام القانوني المغربي، لا بد من الإشارة إلى أنه قبل أن يتم النص على حالة الطوارئ الصحية، لم يكن النظام الدستوري والقانوني المغربي يتضمن من الأنظمة الاستثنائية المتعلقة بتدبير الأزمات إلا ثلاثة حالات:
¯ حالة الاستثناء التي ربط الفصل 59 من دستور 2011 اللجوء إليها بتعرض حوزة التراب الوطني لتهديد أو وقوع أحداث من شأنها أن تعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية وجعل إعلانها من اختصاص الملك بعد استشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين ورئيس المحكمة الدستورية وتوجيه خطاب إلى الأمة، ويعطيه صلاحية اتخاذ الإجراءات التي يرفضها الدفاع عن الوحدة الترابية... دون أن يترتب على ذلك حل البرلمان أو المس بالحقوق والحريات.
¯ حالة الحصار: وذلك بمقتضى الفصل 74 من الدستور ويمكن الإعلان عنها لمدة ثلاثين يوما بمقتضى ظهير يوقعه بالعطف رئيس الحكومة ولا يمكن تمديد هذا الأجل إلا بقانون.
¯ حالة الحرب التي يجعل الدستور إعلانها داخل المجلس الوزاري طبقا للفصل 49 من الدستور بعد إحاطة البرلمان علما بذلك من لدن الملك.
ومن خلال قراءة هذه الحالات الثلاث يبدو لنا واضحا غياب أي إطار قانوني أو دستوري يمكن الرجوع إليه من أجل ضبط الكيفية التي ستتعاطى بها الحكومة من الناحية القانونية مع هذا الوضع ونتيجة للإرتباك والتسرع الذي صاحب ظروف الجائحة أقدمت الحكومة من خلال وزارة الداخلية بشكل مفاجئ وغير مفهوم بتاريخ 19 مارس 2020 على إصدار بلاغ يعلن عن حالة الطوارئ الصحية أكدت فيه على تقييد الحركة في البلاد ابتداء من يوم الجمعة 20 مارس 2020 على الساعة السادسة مساء لأجل غير مسمى.
ثم بدأت الحكومة في الاستدراك، فأعدت وناقشت مشروع الرسوم بقانون في 22 مارس بالمجلس الحكومي ونشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 24 مارس 2020.
ولما فتحت الدورة البرلمانية عرض المرسوم بقانون على أنظار البرلمان ولكن لم يكن من حقه التعديل لأنه عرض كمادة فريدة، وهو ما ثم من خلال مشروع قانون رقم 20 . 23 يقضي بالمصادقة على مرسوم بقانون رقم 292 .20 .2 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية واكتملت مسطرة المصادقة عليه بتاريخ 12 ماي 2020.
في الحقيقة كان لا بد لنا من هذا التقديم حتى يتسنى لنا فهم الإطار القانوني لحالة الطوارئ الصحية وما فرضته من تدابير مقيدة للحقوق والحريات وفي مقدمتها الحق في التنقل.
وبغض النظر عن جودة النص المنظم لحالة الطوارئ الصحية، ومدى ملاءمته من الناحية المعيارية للدستور والاتفاقيات الدولية. عرف التطبيق تجاوزات كثيرة وصلت في بعض الأحيان إلى ممارسات حاطة بالكرامة تجعل المتابع يستنتج أن هناك نوع من المقايضة بين الصحة والحرية والكرامة.
لقد أطلقت حالة الطوارئ الصحية يد السلطة التنفيذية في اتخاذ ما يمكن أن تراه مناسبا من إجراءات من أجل محاصرة الوباء، بل وأكثر من ذلك وعلى خلاف الأنظمة الاستثنائية الموجودة في الأنظمة القانونية المقارنة ترك مرسوم بقانون الطوارئ الصحية بالمغرب مدة الإعلان عنها مفتوحة دون أن يقيدها بأجل، وبالتالي يكون بذلك قد صادر حق المؤسسة التشريعية في ان يكون لها رأي في تمديد هذه المرة، وفيما إذا كانت الظروف التي أمتلها ما زالت قائمة أم لا.
هذه السلطة المفتوحة أو المطلقة التي خولها المرسوم بقانون للحكومة تطرح التساؤل حول مدى دستوريتها ومدى ملاءمتها مع القوانين والاتفاقيات الدولية، وفي هذا السياق يجب أن نثير الانتباه إلى نقطة أساسية وهي تلك المتعلقة بإحالة المرسوم بقانون في دباجته على مقتضيات الفصل 21 من الدستور الذي ينص "على أن تضمن السلطات العمومية سلامة السكان وسلامة التراب الوطني، لكنه قيد ذلك بأن يتك ذلك في إطار احترام الحريات والحقوق الأساسية المكفولة للجميع". لأنه لا يعقل أن يكون المشرع الدستوري يقيد اللجوء إلى حالة الاستثناء، التي تعد أخطر من ناحية الظروف التي تفرض اللجوء إليها، بضرورة احترام الحقوق والحريات ولا يفعل ذلك في مواجهة مرسوم بقانون صادر عن سلطة تنفيذية بتفويض من المشرع العادي، ومن هذا المنطلق يبرز تساؤل مهم وهو: مدى مشروعية دورية صادرة عن وزير الداخلية تستند إلى مرسوم بقانون 292. 20. 2 في أن تعلق تطبيق أحكام ومقتضيات وردت في قوانين تنظيمية تعتبر مكملة للدستور، ويفرض القضاء الدستوري ضرورة احترامها من القوانين الأدنى منها في إطار تراتبية القواعد القانونية.
ودائما وفي إطار النقاش حول الحقوق والحريات في ظل حالة الطوارئ الصحية دائما ما يثير انتباهي حول الكيفية التي قامت بها الدولة بتقييد الحق في حرية التنقل المكفول بمقتضى الدستور والقوانين والاتفاقيات الدولية. فإذا كانت القاعدة العامة في بداية حالة الطوارئ الصحية هي فرض الحجر الصحي وفرض قيود مؤقتة على إقامة الأشخاص وبمساكنهم أو الحد من تنقلاتهم، فإن الاستثناء كان هو الخروج للضرورة المتمثلة في اقتناء مستلزمات المعيشة اليومية أو التطبيب والعلاج أن من أجل العمل في بعض الأنشطة التي حددتها وزارة الداخلية على سبيل الحصر. وهنا يجب أن نشير إلى مجموعة من الملاحظات حول تعاطي الدولة مع الحق في التنقل من خلال النقاط التالية:
1 . النقطة الأولى التي يمكن نشير إليها في هذا السياق هي السلطات الواسعة لوزارة الداخلية بكل أجهزتها في تقييد حرية التنقل متى شاءت وأينما شاءت دون أي إشعار سابق، وهو ما خلق ارتباكا كبيرا لدى العديد من المواطنين والمقاولات الاقتصادية، ويظهر ذلك بوضوح في قرارات الإغلاق التي شملت بعض المدن الكبرى كالدار البيضاء ومراكش وطنجة وفاس. وما ترتب عن ذلك من ارتباك كبير في حركة المرور وحوادث سير وأضرار مادية وحتى نفسية.
2 . النقطة الثانية والتي في الحقيقة لم يتم التطرف إليها من طرف أغلب المحللين لحالة الطوارئ الصحية وهي تلك المتعلقة بإغلاق الحدود وما ترتب عن ذلك من منع التنقل خارج الوطن أو الدخول إليه. الأمر الذي خلق ما أصبح يعرف بمصطلح "العالقين"، سواء العالقين خارج البلاد من حاملي التأشيرات السياحية أو بطاقات الإقامة والعالقين داخل البلاد سواء منهم الأجانب أو المواطنين المقيمين في الخارج. فبسبب هذا الإغلاق ومنع التنقل اضطر العديد من العالقين إلى عيش في ظروف صعبة وحاطة من الكرامة الإنسانية ترتب عنها أثار نفسية ومادية لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا. فعلى الرغم بتكفل السلطات القنصلية ببعض الحالات هنا وهناك إلا أن أغلب العالقين ظل بدون حماية اجتماعية أو مساعدة، الأمر الذي يفرض علينا فتح باب النقاش حول مدى إمكانية منح الشخص العالق بسبب إغلاق الحدود صفة اللاجئ الإنساني كما تنص عليها اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين سنة 1951 حتى يتسي له الاستفادة من الحماية القانونية وغير ذلك من المساعدات والحقوق الاجتماعية التي يجب أن يحصل عليها من الدولة المضيفة.
وفي الأخير يمكن القول أن جائحة كورنا قد كشفت عن هشاشة المكتسبات ومحدودية الضمانات الدستورية التي نص عليها دستور 2011. كما كشفت محدودية الدور الذي تقوم به الوسائط المجتمعية المكلفة بحماية الحقوق وفي مقدمتها المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان ووزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان، وفي المقابل برز دور وزارة الداخلية كفاعل رئيسي وإن لم نقل وحيد في مختلف المجالات التدبيرية والاقتصادية وهو الأمر الذي يشبه الأمر بالانتقال من الدولة الراعية إلى الدولة الشاملة.
ودائما يبقى الرهان الوحيد الذي يمكن أن نتطلع إليه هو هل بإمكان القضاء وخاصة القضاء الإداري أن يلعب دورا أساسيا في تكريس حماية الحق في التنقل حتى وإن كان ذلك من خلال التعويض عن الضرر الذي لحق بالعديد من الأشخاص نتيجة منع التنقل أو تقييده وذلك في إطار دعوى القضاء الشامل غير مرتبطة بشرط الأجل.
[1] إن هذه المادة هي مداخلة شارك بها الدكتور يوسف مداني في ملتقى علمي دولي أجريت فعالياته في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة بتاريخ 09 مارس 2021.